-وصفت بعض الكتابات التي تناولت رحيل بول وعاريف هذا الرّحيل ب»الموت المشبوه»، ما رأيك؟ تلك مجرد إشاعات، ولا يوجد شيء من هذا القبيل، لأنّ ذلك مجرّد حادث سير عادي وطبيعيّ، لم يكتنفه أي تدبير.. - هل كانت الوفاة مجرّد حادثة سير عادية؟ كانت كذلك.. وثانيا، المسؤول المباشر هو السائق، لأنه في الأصل سائق شاحنات من الوزن الثقيل، كان مُستخدَما لدى وزارة الفلاحة الموريتانية، وانعطافته القاتلة لا تنمّ عن مهنية في السياقة لذلك النوع من السيارات، إضافة إلى أنّ توتره الشّديد قبل وأثناء الرحلة ساهم بشكل مباشر في عدم تركيزه وتسرعه.. - لا توجد، في نظرك، أيُّ شبهة في حادثة السير؟ ليست هناك أي شبهة بالتأكيد، فأنا شخصيا عاينتُ آثار الاصطدام، كما التقيت سائق السيارة التي كانت أمامهم، واطّلعت على المحضر الرّسمي للحادثة، الذي توصلتْ كل من زوجة بول وزوجة عاريف بنسَخ منه. - هناك من يربط رحيل باسكون باختفاء ابنيه قبل الحادث بتسع سنوات؟ هناك فرق زمنيّ مهمّ بين الحادثين، كما أنّ مسرح الحادثين في الصّحراء كان مجرد صدفة.. وليست هناك أي علاقة بينهما. - ما هو السبب الرّسمي لوفاة بول في تلك الحادثة؟ ضربة في الرأس أثّرت على الدماغ، أما أحمد عاريف فقد بقي على قيد الحياة مغميا عليه، يتنفس ببطء، وتم حمله على متن سيارة كانت قد توقفت لمعاينة الحادثة وحملته إلى نواكشوط، ليتوفى في الطريق متأثرا بنزيف داخليّ في الدماغ.. أما بول، الذي توفى في الحاثة، فقد تم نقله إلى «بوتيليميت» في اتجاه «ساني»، وتم جمع أغراضهم من مكان الحادث، باستثناء بعض الأقلام المتناثرة وكذا نظاراتهم وبعض الأوراق التي بقيت في مسرح الحادثة.. هذا كل ما وقع. - ما هو سبب وفاة أحمد عاريف؟ كانت وفاته -بدوره- بسبب ضربة في الرّأس في الحادثة، وعانيا معاً من صدمة دماغية حادة نتيجة للانقلاب المتعدّد للسيارة. - هل التقيتَ المهندس الموريتاني الذي كان بصحبتهم لحظة الحادث؟ -نعم، التقيته.. - هل هو من حكى لك حيثيات الحادثة؟ هو، إضافة إلى اطلاعي على محضر الشرطة، كما ذهبت إلى «بوتيليميت» والتقيت الشرطة الذين عاينوا الحادثة والعديدَ من المسؤولين لمعرفة ما وقع، لأنه كانت هناك إشاعة تفيد أن الحادث كان مدبَّراً. - حدّثنا عن المشروع الزّراعي في موريتانيا، الذي لقي بول باسكون وأحمد عاريف مصرعيهما عندما كانا يهمّان بالتوجه إليه؟ كان ذلك المشروع يضمّ ثلاثة أشخاص: بول باسكون وأحمد عاريف، كباحث سوسيولوجي، وكنت أنا ضمن الفريق كمهندس، وكنا نتردّد كثيرا على المشروع بشكل تناوبي، لأنّ ذالك المشروع كان يحظى بأهمية كبيرة لأن المغرب يصَدّر، لأول مرة، تجربته الفلاحية إلى دولة من العالم الثالث في إطار تعاون جنوب -جنوب.. وفي تلك المرة ذهبا، هما الاثنان، ليتعرضا لتلك الحادثة الأليمة، ليعود جثماناهما بعد يومين أو ثلاثة أيام بعد الحادثة.. - هل ذهبتَ إلى موريتانيا بعد عودة الجثمانين إلى المغرب؟ نعم، بعد رجوع الجثمانين ذهبتُ لاستعادة أغراض الرّاحلين، وعاينتُ مكان الحادثة.. - أين وقعت الحادثة بالضبط؟ على الطريق الواقعة بين نواكشوط وبوتيليميت - هل «بوتيليميت» هي المنطقة التي كان يتواجد فيها المشروع؟ لا، المشروع كان على بعد 700 كيلومتر من نواكشوط، في اتجاه الشرق، في منطقة تسمى «العصابة»، بالضبط في واحة اسمها «ساني»، قرب قرية «كورودجيل»، يمكن التعرف عليها في الخرائط الرّقمية لموريتانيا.. حين وقعت الحادثة، سافرت بعد ثلاثة أيام من مراسيم الدفن، التي حضرتها، لأنّ الأمور مرت بسرعة، وقد حصلت على كتاب «يوميات باسكون»، الذي كان يدون فيها أنشطته بشكل دقيق.. تقريبا كل ثلاث أو أربع ساعات يدون ما قام به، وعند اطّلاعي على كتاب اليوميات عرفتُ موقع الحادثة والأشخاص الذين التقى بهم.. - تحدّثْ لنا عن اللحظات الأخيرة من حياة باسكون، التي دونها على كتيب اليوميات؟ يحكي باسكون في آخر لحظات حياته عن انشغاله بالتنقل إلى «ساني».. ولهذا الغرض فإنّ وزارة الفلاحة الموريتانية كانت هي التي تتكفل بتنقلهم عادة، بتوفير السيارة مع السائق، وقد كان برنامجهما جد ضيق: يجب عليهما الذهاب في مهمّة محددة بدقة وإنجاز العديد من الأنشطة.. - هل كانت مهمّة السفر تقضي بتسليم المشروع بعد انتهائه وحضور احتفال تسليم المشروع؟ لا، المشروع لم ينته بعدُ.. كان ذاهبا -هو وأحمد عاريف- لإنجاز مهامّ تتبع المشروع، وفي اليوم المقرر للذهاب إلى «ساني» تأخّر توفير السيارة بسبب إلحاح السائق على إجراء أعمال الصيانة اللازمة للسفر 700 كيلومتر في طريق صحراوية صعبة، والتي تتطلب حوالي 12 ساعة من السّياقة.. وكان بول يود الخروج صباحا، لكنْ نظرا إلى تأخر السيارة، الناتج عن أعمال الصيانة التي لم تكتمل حتى عصر اليوم نفسه، فقد اقترح السائق تأجيلَ السفر حتى صباح اليوم الموالي، لكنّ ضغط برنامج بول وعاريف حال دون التأجيل. - لدي بعض المعطيات تؤكد نشوب نزاع بين المهندس الموريتاني والسائق حول موعد انطلاق تلك الرحلة.. هل ذلك صحيح؟ بالفعل، كان هناك أخذ وردّ، حيث إنّ السائق لم يرِد الخروج، وألحّ بول والمهندس الموريتاني نظرا إلى دقة برنامج عملهم، وقاموا بالضغط قليلا على السائق، وقد خرجوا في جو مشحون بالتذمّر والصّمت.. كان خلاله السائق متوترا، ولم يخرجوا حتى الخامسة والنصف بعد عصر يوم 21 أبريل، وساروا مسافة 120 كيلومترا على طريق صحراوية مُعبّدة تخترقها رمالُ بعض الكثبان الرملية، التي تغطي عادة جزءا من الطريق، التي كانت عبارة عن مرتفعات ومنخفضات تعلو ممرّات مائية في المناطق المنحدرة من الطريق.. وكان السائق «يجري»، وكان أحمد وبول في المقاعد الخلفية يهمّان بالقراءة، وخلفهما الفتى مساعد السائق، بجانب الأمتعة، في حين أخذ المهندس الموريتاني مكانه بجنب السائق، كانوا خمسة أشخاص بالضبط على متن السيارة. وتم تقدير السرعة التي وقعت بها الحادثة ب120 كيلومترا في الساعة، وهي سرعة كبيرة، نظرا إلى طبيعة الطريق.. إضافة إلى عامل التوتر الذي كان مخيّما على الرحلة. وكانت أمامهم سيارة من نوع «بيكوب» من نوع «بوجو»في الأسفل، عندما كانوا بصدد النزول في أحد المرتفعات على الطريق التي كانت فارغة، وحين حاول سائق سيارة بول تجاوز «البيكوب»، انزاحت هذه الأخيرة يمينا على الطريق لتجنّب الرّمال في جانب الطريق، وبفعل السرعة التي كان يقود بها السائق المتوتر، لم يجد بُدا من الانعطاف عنها والخروج عن الطريق، ليصطدم بأحد الكثبان الصغيرة، التي لم يتجاوز ارتفاعها مترا ونصف.. تم الاصطدام بها بشكل مباشر، ما أدى إلى انقلاب السيارة ثمان مرات بشكل عموديّ، نظرا إلى السرعة التي كانت تسير بها. وإثر الانقلاب اصطدم رأسا بول وأحمد بسقف السيارة.. - ربما ساهم الصندوق الحديديّ في الخلف في حدة إصابتهما؟ بالتأكيد، فقد فاقم وجود الصندوق الحديدي في الخلف خطورة الإصابة، إضافة إلى وفاة بول فورا، فقد لقيّ الفتى مساعد السائق حتفه أيضا لحظة الحادثة، في حين لم يُصَب السائق بأي أذى، أما المهندس الموريتاني فقد أصيب إصابة خفيفة، نظرا إلى انقلاب السيارة العمودي واقتصار الأذى البالغ على المقاعد الخلفية. - ما هي ترتيبات نقل جثمانيهما إلى المغرب؟ في تلك اللحظة، بلغَنا الخبر في المعهد لحظة الحادثة، وتم نقل جثمانيهما في أقلّ من 48 ساعة.. - من تكلف بنقل الجثمانين إلى المغرب؟ وزارة الفلاحة هي التي تكفلت بذلك، إلى جانب منظمة التغذية العالمية، لأنّ المشروع كان بشراكة مع تلك المنظمة الدولية.. بعدها بأربعة أيام من تاريخ الدفن، انتقلتُ إلى موريتانيا لتتبّع رحلة بول وعاريف، بناء على تدوينات باسكون في كتيب «اليوميات».. - متى كان آخر تدوين في هذا الكتيب؟ كان آخر ما دونه هو «يأسه» من إصلاح السيارة، ولجوئه إلى خدمة إحدى شركات كراء السيارات، التي تراجَع عنها نظرا إلى المبلغ الكبير الذي طلبته الوكالة، وقد كان نقاشه مع تلك الوكالة آخر ما دونه في كتيبه.. حوالي ساعة واحدة قبل انطلاق رحلتهما.. - هل كنتُ ضمن الشخصيات التي استقبلت جثماني بول وأحمد في مطار محمد الخامس لحظة وصولهما؟ نعم، كنت هناك إلى جانب العديد من الشخصيات الرسمية والسلطات وأصدقاء الراحلين، نظرا إلى بثّ خبر الحادثة في الإذاعة الوطنية. -دفن بول باسكون في مقبرة «باكس» المسيحية في الرباط، رغم كونه لم يكن مسيحيا مؤمنا.. هل أقيم له قدّاس مسيحي قبل دفنه؟ لا، تم دفنه مباشرة.. - ماذا كان بول باسكون يشكل داخل معهد الزّراعة والبيطرة؟ كان بول داخل المعهد شخصية تحمل العديد من التصورات، كان قد بدأ الاشتغال لتوه في مديرية التنمية القروية، التي خلقها بتصوره الشخصي، والتي أراد منها أن تكون قاطرة للتنمية القروية في المغرب، وأن تعطيّ إشعاعا داخل وخارج المغرب، وقام بتكوين فريق من الباحثين ما زالوا يشتغلون إلى اليوم في مشاريع مهمّة مع وكالة التنمية الأمريكية، ومنظمتي «يونسيف» و»الفاو»، وكان يأمل أن تكون تلك المديرية بمثابة قطب إشعاع للتجربة المغربية في المجال الفلاحي، وبعد رحيله المفاجئ، ساد الخوف على تلك المشاريع لولا الفريق الذي شكله، والذي قام باستكمال مسيرته في الاتجاه نفسِه الذي اختطّه بول. - من بعثك بالتحديد إلى موريتانيا بعد الحادث؟ كلفني بذلك معهد الزراعة والبيطرة.. كما أشرفت على إتمام المشروع وتكوين فريق جديد، كان من أهمّ الشخصيات التي التحقت به الباحث محمد طوزي، الذي عوّض نوعا ما رحيلَ باسكون، وأكملنا المشروع، الذي عرف نجاحا مُهمّا، الشيء الذي دفع «الفاو» إلى التعاون معنا في إطار مشروع آخر في مالي.. يوسف منصف