أيام معدودة تفصلنا عن نهاية موسم الحصاد، والأرقام الصادرة عن وزارة الفلاحة تبشر بموسم فلاحي جيد، وهو ما يعني عودة مشاكل تسويق القمح ومعاناة الفلاحين مع الوسطاء والسماسرة إلى الواجهة، في مسلسل يتكرر في السنوات السمان، حيث يستغل هؤلاء الوسطاء المحاصيل القياسية لدفع الأسعار نحو الانهيار، ليجد الفلاح الصغير نفسه في وضع لا يحسد عليه بين مطرقة صعوبة تخزين أكياس القمح ذي الثمن البخس، وسندان عدم تعويض الخسائر الموروثة عن السنوات الماضية. يبدو أن الموسم الفلاحي الحالي لن يشذ عن القاعدة ولن يشكل استثناء في مسلسل معاناة الفلاح، فالأرقام الصادرة عن وزارة الفلاحة تبشر بمحصول يتجاوز هذه السنة 97 مليون قنطار، وبالتالي، فالفلاح معرض، مرة أخرى، لمواجهة تحديات التخزين ومظاهر المضاربة وأشكال التلاعب التي يلجأ إليها بعض الوسطاء والسماسرة، بغية تحقيق أرباح على حساب الفلاحين ومصالح الدولة. محصول قياسي يتجاوز 97 مليون قنطار خلال مناظرة الفلاحة الأخيرة، كشف وزير الفلاحة والصيد البحري عزيز أخنوش، أن المحصول الزراعي من الحبوب سيبلغ برسم الموسم الفلاحي الجاري 97 مليون قنطار، منها 52 مليونا من القمح الطري، وهو ما يعد رقما قياسيا في المحاصيل الزراعية التي عرفها المغرب منذ مدة. وعزا وزير الفلاحة هذا النمو القياسي في المحاصيل إلى مخطط المغرب الأخضر الذي، في نظره، جعل تنمية الفلاحة الصغرى العائلية ضمن أولى أولوياته، والتي تشهد تطورا مستمرا لأنها شكلت وما تزال القاعدة الرئيسية للإنتاج الفلاحي في غالبية المناطق الفلاحية بالمغرب. وأفاد الوزير أن التجارب الناجحة للمشاريع التضامنية لمخطط المغرب الأخضر، أثبتت إمكانية تحديث الفلاحة الصغرى العائلية وإدماجها الكامل في اقتصاد السوق وتحويل العديد من الاستغلاليات الصغرى العائلية إلى مقاولات حقيقية منظمة بشكل محكم ضمن هياكل مهنية، وهو ما من شأنه أن يشكل النواة الأولى لنظام زراعي جديد، نظام من خلاله سيلج القطاع الفلاحي مرحلة جديدة من الإصلاحات المتعلقة بالقطاع قوامها التثمين البناء للنتائج المحصلة والشراكة الموسعة بين الدولة وكافة المتدخلين. من ناحية أخرى، أشار أخنوش إلى أن المخطط الأخضر وضع تحسين تنافسية القطاع الفلاحي في صلب اهتماماته من خلال تشجيع الاستثمار، الذي ناهز 53 مليار درهم خلال الخمس سنوات الأخيرة، ويتوقع حسب الوزير أن يعرف الاستثمار الخاص ارتفاعا بنسبة 90 في المائة خلال الموسم 2013. وأبرز أن هذه الاستثمارات المقرونة بتحسن تنافسية القطاع، مكنت من جذب 23 مليار درهم كقيمة مضافة إضافية، مقارنة مع الفترة المرجعية، إضافة إلى تحسين نصيب القطاع الفلاحي من الاستثمارات، حيث شهد ارتفاعا من 9.5 في المائة، إلى 13 في المائة. ترقب وانهيار محتمل للأسعار مع اقتراب نهاية موسم الحصاد تسود حالة من الترقب بين أوساط الفلاحين، الذين لا يعرفون إلى الآن، المنحى الذي سيأخذه سعر القمح الطري في الأيام المقبلة، ورغم أن الحكومة حددت سعرا مرجعيا لتسويق القمح في حدود 280 درهما للقنطار عند التسليم للمطاحن، فإن المؤشرات الأولية تشير إلى أن السعر المتداول في الأيام الأخيرة هو دون ذلك السقف بكثير. وحسب تصريحات عدد من الفلاحين، فإن السعر الذي يقترحه الوسطاء المعتمدون والمطاحن لا يتجاوز حاليا 230 درهما في معظم المناطق، وهو ما يدفع نسبة كبيرة منهم إلى طلب تدخل السلطات العمومية من أجل إعادة الأمور إلى نصابها، هذا في الوقت الذي يرى فيه أصحاب المطاحن أن جودة القمح الطري هذه السنة متردية ولا تبرر السعر المرجعي. ويجمع المراقبون على أن تطبيق السعر المرجعي، الذي أعلنت عنه وزارة الفلاحة والصيد البحري، يعتبر الآن تحديا، خاصة وأن بعض الوسطاء سيضغطون على المكتب الوطني للحبوب والقطاني بهدف اللجوء إلى الاستيراد المفرط وإغراق السوق الوطنية بالمنتوج الأجنبي من الحبوب، من أجل دفع الأسعار نحو مزيد من الانهيار، وذلك في تكرار لما يحدث في جميع المواسم ذات المحاصيل الجيدة. ضعف آليات التخزين يشجع المضاربة حسب المحللين، فإن المثير في مشاكل تسويق القمح، الذي تتكرر كلما كان الموسم الفلاحي جيدا، أن وزارة الفلاحة واعية بأن الحل يكمن في تعزيز نظام التخزين، بشكل يتيح للفلاح الحفاظ على محاصيله لفترة معينة تفاديا لبيعها بسعر بخس خلال الشهور التي تعرف وفرة في العرض، غير أن المسؤولين عنها لم يكلفوا أنفسهم عناء ذلك، وفضلوا الاقتصار على المخازن المتوفرة، والتي لا تفوق طاقتها الاستيعابية 25 إلى 30 في المائة من الإنتاج الوطني. وتؤكد معطيات المكتب الوطني المهني للحبوب والقطاني، أن الطاقة الاستيعابية لنظام تخزين الحبوب لا تتجاوز 32 مليونا و165 ألف قنطار، تتوزع بين أماكن التخزين الداخلية بطاقة استيعابية تصل إلى حدود 30 مليونا و 665 ألف قنطار، وصوامع الحبوب بالموانئ، التي تبلغ سعتها مليونا و500 ألف قنطار. ما يعني أن أكثر من 56 مليون قنطار تخزن بطرق تقليدية. وتختلف الطاقة التخزينية بالموانئ، حسب حجم التجارة والمبادلات التي تمر عبر هذه الأخيرة. وهكذا نجد أن ميناء الدارالبيضاء يضمن تخزين 47 في المائة من الكميات الإجمالية الموجودة بالموانئ، يليه ميناء أكادير بنسبة 27 في المائة وميناء أسفي بنسبة 16 في المائة، وأخيرا ميناء الناظور بنسبة 11 في المائة. وتتوزع أماكن التخزين على مختلف المراكز بجهات المملكة ويظل نمط التخزين في المخازن المهيأة لهذا الغرض هو المهيمن، إذ تقدر الكميات المخزنة فيها بحوالي 22 مليونا و 258 ألف قنطار مقابل 8 ملايين و407 آلاف قنطار في صوامع الحبوب. تلاعبات بالجملة في مواجهة ضعف بنيات التخزين العمومية في المغرب، تم اللجوء إلى سياسة دعم آليات التخزين الخاصة، من خلال تخصيص منحة للمطاحن والتعاونيات الفلاحية، غير أن هذا الإجراء حاد عن الأهداف المرسومة له، وأصبح البعض يستغله في تحقيق مزيد من الأرباح. ويؤكد العارفون بخبايا القطاع أن انعدام آليات المراقبة لدى المكتب، فسح المجال أمام العديدين للتصريح بكميات وهمية من القمح من أجل الحصول على منح إضافية للتخزين، موضحين أن عدم توفر الفلاحين على فواتير تحدد الكميات التي تم بيعها للمطاحن والتعاونيات يشجع وحدات التخزين على هذا النوع من الممارسات غير المشروعة. وحسب الخبراء، فإن وحدات التخزين تستفيد من دعم يصل إلى درهمين للقنطار لكل 15 يوما من التخزين، بالمقابل، من المفروض أن تسوق هذه الوحدات الكميات المخزنة لديها للمطاحن بسعر محدد في 258 درهما للقنطار، في ما يتعلق بإنتاج الدقيق الوطني، على أن تنتج المطاحن الدقيق الوطني بسعر لا يتعدى 182 درهما للقنطار عند الخروج من المطاحن ليصل إلى المستهلك النهائي بسعر في حدود رهمين للكيلوغرام، علما أن الدولة تؤدي دعما يصل إلى الفرق بين سعر البيع والكلفة لفائدة المطاحن. غير أن هذه العملية تتم في مرات عديدة بشكل وهمي، خاصة إذا كان المتدخلون في مختلف حلقاتها تربطهم علاقات خاصة، فحسب مصادر موثوقة، يبدأ التلاعب من الكميات المصرح بتخزينها، ما دام أن وحدة التخزين المفترضة يمكن أن تصرح بأنها اشترت من الفلاحين كميات معينة دون أن يحصل ذلك في الواقع، وذلك في غياب وثائق وفواتير تضبط هذه الكميات، وانطلاقا من ذلك يمكن أن تدخل مع وحدات الطحن وإنتاج الدقيق في تلاعبات أخرى، من خلال التصريح عبر الفواتير بتسويق الكميات الوهمية التي كانت مخزنة لديها لمطحنة معينة تنتمي إلى التجمع المصلحي عينه، ويمكن للأخيرة، بناء على الفواتير التي تسلمتها من وحدات التخزين، أن تستغل هذه الفواتير الوهمية للاستدلال على الكميات التي طحنتها في إطار إنتاج الدقيق الوطني، وتستلم نظيرا لذلك دعما من طرف الدولة، مقابل الكميات المدلى بها التي تظل على مستوى الفواتير فقط. ولا يقتصر الأمر على هذا الحد، بل يتعين لتحقيق ذلك، حسب المصادر ذاتها، أن يتواصل التلاعب إلى الحلقة الأخيرة، إذ أن بعض تجار الجملة، وفي غياب المراقبة المطلوبة، يوقعون فواتير وهمية لمثل هذه المطاحن مقابل عمولات، وتقوم هي بملئها بالكميات المطلوبة، وبذلك تكتمل السلسلة وتحبك اللعبة ويصعب ضبطها. ومما يشجع على تفشي هذه الممارسات، أن الدعم المقدم من طرف الدولة على التخزين يقدم فقط لبعض المخازن المعتمدة، بالمقابل، لا تحظى طرق التخزين التقليدية بأي دعم من الدولة، إذ لا تتلقى الأسر منحا على التخزين، كما أن المطاحن التقليدية، سواء بالبوادي أو المدن لا تستفيد بدورها من الدعم، كما هو الحال بالنسبة إلى المطاحن الصناعية، رغم أن الكميات المطحونة من طرف المطاحن التقليدية تفوق 20 مليونا و500 ألف قنطار سنويا، وتمثل الكميات المطحونة من القمح الطري نسبة 45 في المائة من مجموع كميات الحبوب التي يتم طحنها عن طريق هذا النوع من المطاحن، ويمثل زبناؤها قرابة 15 مليون نسمة، أي ما يعادل 50 في المائة من العدد الإجمالي للسكان.