تطول لائحة الدول التي أعلنت صراحة عداءها لنظام بشار الأسد في سوريا، ولا يُقارن هذا العداء بسوابق طالت نظام صدام حسين في العراق أو نظام معمر القذافي في ليبيا، ذلك أن ذلك العداء قاد إلى الانتقال من النظري إلى العملي، وإلى مواكبة الموقف بأداء دراماتيكي أدى في النهاية إلى سقوط النظامين. سَحبَ النظامُ العربي الرسمي العام، المُمَثّل بجامعته العربية، الغطاءَ العربي عن النظام في سوريا منذ مدة طويلة، فيما يدور سجال حول نقل المقعد السوري إلى المعارضة ممثلا للشعب السوري بعد سحبه من الحكومة في دمشق. تميزت داخل المجموعة العربية دول خليجية، ولاسيما قطر والسعودية، في نصب العداء لنظام دمشق، وحتى في الدعوة إلى تسليح المعارضة، وصولا إلى تسليحها فعلا، وفق إيقاعات المقبول والمحرم عالميا. وفي ما هو أبعد من العالم العربي، اتسعت مساحة المعارضين للنظام السوري في العالم، وتطورت المواقف من المراقبة والتحذير والتمني والنصح... إلخ، إلى الدعوة إلى زوال النظام ورئيسه، وإن كانت مقاربة الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك مكان خلاف وتباين وتردد بين العواصمالغربية نفسها قبل الحديث عن تناقضها الجذري مع موسكو وبكين. ومع ذلك، يبقى مصير الأسد ونظامه رهن مزاج إدارة البيت الأبيض وحدها. سيد المكان يتكئ على مقاربات وزيريه في الدفاع والخارجية (وحتى قيادات عسكرية كبرى)، والتي تفتي بتجنب أي تدخل عسكري أمريكي مباشر في الشأن السوري (زوار واشنطن يلاحظون بعجب الانقسام الداخلي حول هذا الشأن). نحو مركز «الإمبراطورية» في واشنطن، يحجّ هذا الملك وذاك الأمير وذلك الرئيس ل«استمزاج» موقف هذا المارد من الشأن السوري؛ ففي ذلك الموقف سر العدم وإكسير الحياة لنظام ينازع بكافة الأوراق مستعينا بكل ما يتدلى من حبال درءا لانقراض أضحى حتميا. لا يبدو أن دمشق قلقة من الموقف الأمريكي في طبعته الحالية، لا بل إن مواقف واشنطن في السياسة الخارجية، من هيلاري كلينتون إلى جون كيري، لطالما فُهم من طاقم الحكم الدمشقي أنها حالة سماح تمنح النظام ضوءا أخضر يتيح له المضي قدما في ما يقوم به. في ذلك أن نجاح النظام في حسم الأمور يجنب واشنطن وحلفاءها وزر التعامل مع حالةٍ سوريةٍ جديدةٍ لا سيطرة على مفاعيلها بعد أن تعودت خلال العقود الماضية على التعامل مع نظام خبرت محدودية مناوراته وسوقيتها. لم تتصرف واشنطن بعكس ذلك في تعاملها مع الثورات في بلدان العرب الأخرى. ارتبكت إدارة أوباما وترددت في الفعل وردّ الفعل حين اندلع الحراك «البوعزيزي» في تونس وبعده حراك الميادين في مصر. سعت الإدارة الأمريكية في طبعة أولى إلى التقدم بخطاب ضبابي يقول كلاما يحمل أوجها ومعانيَ، مرورا بنصائح الحوار، انتهاء بتبني مطالب الشارع كاملة، من حيث تنحي رأس النظام والانتقال إلى حقبة أخرى. لم تحب واشنطن الحقبة الجديدة بفوضاها وغموضها، لكنها لم تعد تستطيع إحياء عظام أنظمة أصبحت رميما. ولا شك أن تعقّد «الربيع» في تونس ومصر وليبيا (ولاسيما مقتل سفيرها هناك) يطل ثقيلا على توجهات واشنطن إزاء الملف السوري. لكن تردد الإدارة الأمريكية في حسم أمورها، سواء لمصلحة النظام أو المعارضة، سبب ميوعة دولية تنبت كل يوم ألغاما كارثية لسوريا أولا، ومن ثم للمحيط والعالم ثانيا. في تراخي الموقف الأمريكي علة مفصلية أخرجت أسباب التفلت السرطاني للميدان السوري. تحولت الثنائية التقليدية ما بين نظام ومعارضة، إلى ميدان أدغال يتداخل فيه الديني بالسياسي، والسوري بالإقليمي، والصفوي بالعثماني، والسني بالشيعي، و«القاعدة» بالجميع. دخلت سوريا في دائرة خبيثة لا تنتهي من حيث كون تقاعس العالم عن الحسم سبب رواج التطرف والتعصب والمذهبية والقاعدة، ومن حيث كون الظواهر تلك تستخدم عذرا حقيقيا أو مصطنعا لوقف دعم المعارضة والابتعاد عن أي تدخل في الشأن السوري. في هذا السياق، تشعر دمشق بأن ماء يندفع نحو طواحينها. الموقف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة واضح في الإعلان الصارم بعدم التدخل ضد النظام في دمشق. المساعدات غير الفتاكة المعلنة، أو حتى تلك الفتاكة المهربة من دول الجوار، ما زالت ضمن حدود المناورات المقبولة بالنسبة إلى النظام، طالما أن التدخل الروسي الإيراني -معطوفا على ذلك المعلن جهارا من قبل حزب الله- لا يُعدّ حتى الآن اختراقا لخطوط حمر تستدرج المارد الأمريكي. لكن دمشق تدرك أن العامل الميداني الذي تفرضه المعارضة في الداخل، ومهما قيل عن ضعفها وانقسامها وارتباكها، هو السيف الحقيقي المسلّط على رأس النظام. ودمشق تدرك أن سبب نزوع العالم لحل «تسووي» وفق صيغة جنيف، وليس لحل يسلم إلى دمشق مفاتيح القرار، يعود إلى عجز النظام السوري، بقوته وعتاده وقوة وعتاد حلفائه، عن تقديم أرجحية مقنعة لموسكو وبكين قبل واشنطن ولندن وباريس. ودمشق تدرك أن أي حل تسووي افتراضي، على صعوبة تحققه، يعني حكم انتهاء للنظام، على الأقل في طبعته الحالية بقيادة بشار الأسد (لاحظ بيان اجتماع وزراء خارجية السعودية والإمارات وقطر ومصر والأردن، وتركيا الأخير من أنه «لا مكان» للأسد في مستقبل البلد، وهو كلام تردد في واشنطن وباريس ولندن في الساعات الأخيرة). يتحادث الكبار حاليا بهدوء وروية نسبيتين لتحديد مصير الأسد ونظامه. بمعنى آخر، يملك الكبار حاليا ترف التحكم في مصائر الصغار؛ فإذا ما كبُر العراك بين الكبار وتعملق صدامهم، فإن الصغار يصبحون تفصيلا صغيرا في مطحنة قد تتيح لهم البقاء. هذا هو سر الخلطة التي تقف وراء سعي دمشق إلى الصعود نحو الانفجار الكبير. من الممكن تخيل حجم الارتياح الذي سكن الحاكم في دمشق عقب قيام إسرائيل بشن هجماتها الأخيرة. يرتقي الحدث بالصراع إلى مستويات كبرى تمنح النظام وسام وطنية الوطني في «صراعه الأبدي ضد إسرائيل»، ويمحض النظام شرعية في الدفاع عن ممانعته ضد «العملاء» في الزواريب البيتية في سوريا. تخرج دمشق من «زنقتها» المحلية وتعزف مع جوقة حلفائها من طهران إلى الضاحية نشيد التحرير القادم من القصير مرورا بالجولان. في سعي دمشق إلى تكبير الصدام عمل دؤوب على استدراج «الحكومة الإرهابية المجرمة» في أنقرة (حسب وزير الإعلام السوري) على التورط المباشر في الحرب ضد سوريا (راقب السجال الدائر بعد انفجار الريحانية في تركيا مؤخرا)؛ ففي تورط تركيا المباشر المتوخى استفزاز أكيد لروسيا وإيران، واستدراج أكبر ومباشر للغرق أكثر في الوحول السورية. هل في ذلك حنكة وحكمة؟ في ذلك مناورة شمشونية تنشد شراء الوقت والتعويل على معجزات الزمن. إسرائيل ضربت ضربتها وأرسلت رسائلها المباشرة وغير المباشرة إلى دمشق كما إلى طهران والضاحية. لن تنجر إسرائيل إلى الحرب السورية لأسباب سورية، ولا مانع لديها من شن حروبها ضد طهران وحزب الله لأسباب إسرائيلية. وترفض تركيا بشكل معلن الانجرار نحو الحرب التي تريدها دمشق ووفق أجندة دمشق (وفق ما يعلن أردوغان)، علما بأن النظام السوري يعتبر أن الخطر الوجودي الحقيقي مصدره ذلك الموقف التركي الخطير للنظام في تركيا (وليس الدعم القطري أو غيره، مثلا). النظام والمعارضة يعلنان، كل من جهته، عزمهما على درس حيثيات المؤتمر الدولي العتيد لدرس إمكانيات الحضور من عدمه. التسوية في ملامحها الأولى أقسى من أن يتحملها الطرفان، ذلك أن تورما أصاب أجسادها، بحيث يستحيل أن يدثرها ما يحاك. لكن أعراض الحروب الكبرى التي لاحت مؤخرا حول سوريا هي مؤشر قد يدفع العالم إلى التعجيل بالتسوية وحصر التمرد عليها، وقد يدفع، على العكس، إلى الذهاب بها بعيدا، لعل الكي هو آخر علاج لعلةٍ لن تقوى المنطقة والعالم على تحملها أو استيعاب تفاعلاتها.