وَرَدَت هذه العبارة في مقدمة «غابات الماء» أنطولوجيا شعراء البصرة، وهي بين الأنطولوجيات المهمة، كونها تقدم صورة عن الشِّعر العراقي المعاصر، في البصرة، خصوصاً لَدَى شُعراء لم نتعرَّف من قَبْل على تجاربهم، من الأجيال التي جاءت بعد بدر شاكر السياب، وسعدي يوسف، ومحمود لبريكان، وزهو دكسن، وعبد الكريم كاصد. فالبصرة، كما يعرف من قرأ التجربة الشعرية في العراق، وتابعها عن كَثَب، هي مَكانٌ شِعْريٌّ بامتياز، وقد كانت غابةَ تجارب مختلفة، ومتنوِّعَة، لا يمكن، في الحديث عن الشعر العراقي، تَجاهُلُها أو تَفَادِيها، فهي تجارب مُؤَسِّسَة وذات تأثير، ليس في الشِّعر العراقي فقط، بل في الشِّعر العربي المعاصر. وتكفي الإشارة، هنا، إلى ما كان للسياب من تأثير كبير في الأجيال الشعرية العربية المُتعاقِبَة، والتأثير الذي تُمَثِّله تجربة سعدي يوسف، التي ما تزال مستمرة، وحاضرة، بما تُمَثِّلُه من مُفارقات، ومن قدرة على توليد الشِّعر، من البديهي واليومي. ورغم أن تجربة محمود لبريكان لم تكن حاضرةً بنفس حضور تَجْرِبَتَيْ كلٍّ من السياب وسعدي، فهي تجربة مهمة، في سياق المشهد الشِّعري المعاصر، في انفراد لبريكان بالخروج عن مألوف التجارب المُوازية له، ولِما عاشه هو كشخص، من تجربة حياتية، أَهَّلَتْه ليكون استثناءً في لغته، وفي رؤيته. كل هؤلاء لم يعودوا شُعراء يَقْتاتُون، في حضورهم الشِّعري، من «الإشاعات النقدية»، التي تعني، بالنسبة لي هنا، تكريس الشخص، رغم سطحية تجربته، وبساطتها، أو باعتبارها شعراً لا يُقَدِّم مُقْتَرَحاً، لا في مفهومه للشِّعر، ولا في لغته، وأشكال التعبير، والبناء الشِّعْرِيَيْن، ولا في طبيعة الرؤية أيضاً. فَهُم خرجوا في تجاربهم عن سياق النقد نفسه، وفَرضُوا نَفْسَهم شعرياً، لا نقدياً، وهذا، في تَصَوُّرِي، هو ما يجعل تجربة الشاعر تبقى قائمةً وحاضرةً، لأنَّ كثيراً من النقد هو خُدَعٌ كلامية، لا علاقةَ لها بما يجري في النصوص، رغم أنَّ الشُّعراء يُصَدِّقونها، أو يعتبِرُونَها سَنَداً لهم، دون أن يُدْرِكوا بأنَّ مثل هذا النوع من النقد هو حَمْلٌ كاذِبٌ، وإشاعات، بما يعنيه معنى الإشاعة هنا، من تشويش، وتضليل، وتَحامُل، لا علاقة له بالواقع، وبحقيقة الأمر، يحتاج الشَّاعر لمن يقرأ نصوصه، ويُتابِع تجربته، لكن مشكلة النقد، اليوم، هي هذه المسافة التي تفصل بين النص، وما يروق للنُّقَّاد من كلام خالٍ من نَصِّيَة النص، وشعريتِه التي تبقى مُنْطَوِيَةً على مائِها، إلى حين ظهور «أهل المعرفة بالشِّعر»، بتعبير القُدَماء. فالنقد الذي يُفْسِدُ «ذَوْقَ» الجمهور، يُفْسِدُ العلاقةَ بين القارئ والنص، ويُسَمِّمُها، خصوصاً أنَّ قارئ الشِّعر هو في حاجةٍ دائمة، لِمَنْ يَقُودُه، ويُساعِدُه على السَّيْرِ في أراضي الشِّعْر، وفي مَضَايِقِه، بتعبير البُحتري، وما يَحْفَل به من صُوَر، ومجازاتٍ. لنكتفي، في مثل هذا الوضع، بالنص، الذي هو وحدَه من يملك الحَقّ في دَفْعِ الإشاعة عن نفسه، أو إثْباتِها، وما غير النص هو شُرُود كَلامِيّ، لا يمكنه أن يكون تأسيساً لِمَعْرِفَة شعرية جديرة بِتَوَاضُعِ الشِّعر، وجَبَرُوتِه. شاعر مغربي