بماذا يمكن أن نفسر التراجع الملحوظ في نسبة المشاركة في الإضرابات المعلنة دفاعا عن مطالب الشغيلة المغربية بصفة عامة والتعليمية بصفة خاصة مقارنة مع المواسم الماضية؟ هل يمكن القول إن حكومة عبد الإله بنكيران نجحت في كسر شوكة النقابات بانتهاجها سياسة الأجر مقابل العمل وبتفعيلها لقرار الاقتطاع من رواتب المضربين؟ أم أن سبب توقف الإضرابات مرده إلى خوف الشغيلة من الاقتطاع؟ أم إلى ضعف وتشتت التنظيمات النقابية وتعدد الدكاكين النقابية وفقدان العمل النقابي لمشروعيته ؟ لا يختلف اثنان أن الاحتجاجات من إضرابات واعتصامات ومسيرات والتي تقودها النقابات في مختلف القطاعات بين الفينة والأخرى تؤثر بشكل مباشر على الخدمة التي من المفروض أن تقدمها الإدارة إلى المواطنين البسطاء الذين يكونون ضحية الإضرابات التي تعرفها قطاعات كالتعليم والصحة والعدل والنقل ... ذلك أن طبقات الميسورين بعيدة بعد السماء عن الأرض عن هذه التطاحنات فالمدارس الخصوصية ومؤسسات البعثات الأجنبية والمصحات الخاصة حيث يتابع أبناء الحكومة وأبناء كبار النقابيين دراستهم وحيث يتابعون علاجاتهم، لا يعرف الإضراب إليها سبيلا، هذا بالإضافة إلى الخسائر بملايير الدراهم التي يتكبدها الاقتصاد الوطني وهذه الخسائر لا تتحمل تبعاتها في النهاية إلا طبقة الكادحين، بمعنى: «فيكم.. فيكم ...» ومع ذلك ورغم هذا الكم الهائل من الاحتجاجات بشتى أنواعها التي منها ما هو معقول ومنها ما هو إلا مزايدات، لم تنجح لا النقابات ذات التمثيلية ولا غيرها من هيئات وجمعيات ومنسقيات في إرغام الحكومة على تحقيق الحد الأدنى من المطالب المطروحة والمتراكمة منذ سنوات، وذلك راجع إلى غياب إرادة حقيقية عند الحكومة، التي طالت مدة انتشاء الحزب الذي يتولى رئاستها بفوزها في انتخابات الدستور الجديد، فهي تحاول ربح الوقت – رغم الآمال العريضة المعقودة عليها - بشتى الوسائل فتارة تلوح بالأزمة المالية العالمية وتارة تلوح بأولوية مساعدة الطبقات المعوزة من خلال إعادة النظر في تمويل صندوق المقاصة وتارة بعدم تنازلها عن المنهجية التي ترتضيها لمباشرة الحوار الاجتماعي وعدم إذعانها لمقترحات النقابات ... والحقيقة أن الحكومة استغلت وضعية التشرذم التي تعيش عليها النقابات التي تخلت عن دورها في تأطير الشغيلة والدفاع على مصالحها، بسبب هذا العدد الكبير من النقابات (حوالي 23 نقابة) معظمها تابع لأحزاب سياسية، صحيح أن التعددية النقابية مسألة ديمقراطية كما أن الحرية النقابية جزء من الحريات العامة ومن حق الأجير أن يتوجه إلى الأطراف التي ترعى مصالحه وحقوقه، ولكن الواقع ليس كذلك، إذ إن كل حزب سياسي صنع لنفسه ذراعا نقابيا يسبح بحمده يمجده ويدافع عن سياساته إذا كان في الحكومة ويحتج إذا خرج إلى المعارضة، بينما للعمل النقابي بعد سياسي دون أن تكون النقابة مسيسة أو لها انتماء حزبي، لأن النقابة سلطة مضادة اقتصاديا واجتماعيا وليس معارضة سياسية، ولا يهمها من يحكم بقدر ما يهمها الدفاع عن مطالب منتسبيها. ويمكن للتعددية النقابية أن تكون قيمة مضافة إذا وحد النقابيون المخلصون كلمتهم وتجاوزوا خلافاتهم ونأوا بأنفسهم عن الصراعات السياسية الهامشية . لقد أصبح العمل النقابي أداة تستغل للصراع السياسي وأداة لتصفية الحسابات الشخصية والحزبية وأصبح كل هم جل النقابات الصراع على المناصب والكراسي والمواقع بذل أن تتوجه نحو الدفاع عن قضايا العمال والفلاحين بل ويضاف إلى هذه (الحريرة كلها ) أن نقاباتنا المحترمة غير ديمقراطية، وكثير من المسؤولين النقابيين المركزيين والجهويين والإقليميين معينون على رأس المكاتب أو في عضويتها مدى الحياة، كما أن أغلبهم – إلا من رحم ربك - ذوو ذمم غير نظيفة والدليل ما نراه من استشراء للأمراض المجتمعية المزمنة في أوصال النقابات وأصبحت النقابة - بعد أن كانت وسيلة لتحقيق المطالب- مطية لكثير من الوصوليين والسماسرة والقابعين وضعاف النفوس. في هذا الخضم، ضاعت حقوق الطبقة العاملة المغربية ولم يعرف ربط أجور العاملين بالأسعار طريقه للتطبيق، ومازالت الفوارق بين الدخل صارخة، بل ولم تستطع نقاباتنا العتيدة استصدار قرار تنفيذ اتفاق26 أبريل الذي وقعته مع الحكومة السابقة، ومضت الحكومة غير آبهة بأحد في تنفيذ قرارها باقتطاع أجور المضربين في غياب تام لقانون الإضراب الذي نسمع عنه منذ استقلال البلاد واستمر القطاع الخاص في التعدي على حقوق العمال من طرد وتعسف وتمريغ للكرامة واستمرت الطغمة المسيطرة في استنزاف خيرات البلاد. ولم يقف الأمر عند صم الآذان وتجاهل المطالب بل إن حكومتنا «الموقرة» المنبثقة عن أغلبية برلمانية، مفروض أن الشعب هو الذي اختارها لتمثله، قررت التعامل بعنف مع الحركات الاحتجاجية ومنها الإضراب كأرقي شكل من أشكال المقاومة الاجتماعية والإنسانية، و»أكل المحتجون الهراوة « رغم أنهم لم يعتدوا على أشخاص، ولم يتلفوا ممتلكات ومنشآت خاصة وعامة، ولم يقف الأمر عند الضرب والشتم والإهانة بل تعداه إلى اقتطاع أيام الإضراب من رواتب المضربين. إن حكومة بنكيران الموقرة ماضية في تنفيذ قراراتها بشأن اعتبار أي يوم يتم فيه الإضراب بشكل غير قانوني في قطاع التعليم أو غيره، امتناع عن العمل، كما أنها حريصة كل الحرص على» سلخ « المضربين والمحتجين في كل مكان بشكل غير مسبوق، وفي نفس الوقت مصرة على تشبثها بمواقفها فيما يخص الحوار الاجتماعي . لقد نجحت حكومة بنكيران إلى حد بعيد في تكميم أفواه الشغيلة المغربية ووقفت النقابات مكتوفة الأيدي بسبب واقع التشرذم وتراجع قوة ورقة الإضراب التي كانت الفزاعة التي تخيف بها الحكومات، واختفت الإضرابات في كثير من القطاعات وتقلصت إلى أدنى مستوياتها في قطاعات كالتعليم والصحة والجماعات المحلية، بسبب الخوف من اقتطاع الأجور، وفشلت النقابات – في اعتقادي – في إيجاد صيغ بديلة لإجبار الحكومة على النزول إلى الأرض ومباشرة حوار جدي، في الوقت الذي نجحت فيه الحكومة في استدراج بعض الفئات بعيدا عن المركزيات النقابية ومحاورتها وإعطائها وعودا في شأن مطالبها، ويمكن أن نسجل وحكومة بنكيران تدخل عامها الثاني، التراجع الكبير للاحتكام لقوة الشارع، بعد أن كان توالي الإضرابات وتصاعد الحركات الاحتجاجية ميزة ميزت فترات الحكومات السابقة . نحن على أبواب احتفالات الطبقة العاملة المغربية بالعيد العالمي للعمال والتي ستنطلق في جو من توتر الأجواء وعدم الرضا والاستياء من الطريقة التي تتعاطى بها الحكومة مع النقابات وعدم وجود رغبة حقيقية لانطلاق حوار اجتماعي في مناخ سليم بعيد عن المزايدات والمهاترات بعيد عن الازدواجية في الخطاب الذي تمارسه بعض الأطراف، حوار واسع وعميق لوضع تصوّر اجتماعي واقتصادي لخدمة مطامح الشعب في التقدم والرقيّ والكرامة.جدير بوضع حد للتوترات الحالية التي تسود في أوساط الشغيلة والتي قد تقوض -لا قدر الله - استقرار المناخ الاجتماعي في هذه المرحلة الحرجة المتسمة بعديد المشاكل والصعوبات التي تعرفها البلاد . يعود فاتح ماي والوضعية الاجتماعية المزرية التي يعيشها الأجير المغربي على ما هي عليه رواتب متدنية أسعار جميع المواد بدون استثناء في ارتفاع صاروخي. وأمام هذه الوضعية فلابد للحكومة أن تعيد النظر في المنهجية التي تتعاطى بها مع مطالب الأجراء وعلى رأسها إعادة النظر في نهجها القاضي باقتطاع أيام الإضراب من رواتب المضربين في غياب أساس قانوني واضح لمسطرة الاقتطاع، ولابد كذلك ان تؤسس لحوار جدي -هذا إن كانت تؤمن بثقافة الحوار- بمنهجية جديدة قوامها مشاركة الجميع وأن تأخذ بعين الاعتبار التعددية النقابية في المغرب، لأنها أصبحت امرأ واقعا ولابد لها (للحكومة ) أن تتعامل مع هذه التعددية ومع هذه الأصوات التي تصدح هنا وهناك بكل جدية، ويخطئ من ينكر وجود الهيئات والمنسقيات والجمعيات وغيرها من الأشكال الفئوية التي فقدت الثقة في العمل النقابي، ويتعين على الحكومة أن تستمع وتحاور كل الأطراف وان تبرم عقدا اجتماعيا تشارك فيه جميع الإطراف من منظمات وهيئات وجمعيات ومنسقيات حتى يعمل الجميع على نفس المنهج بدل أن تبقى كل فئة تغني على ليلاها. وعلى النقابات أن توحد صفوفها وإن لم يكن توحدا كاملا فعلى الأقل أن تجتمع على صياغة أرضية ملف مطلبي واحد وأن تتكتل كجسم واحد لتحقيق مطالب الشغيلة، لأن ما يلاحظ من تشتت لا يخدم قضايا الشغيلة بقدر ما يفرق صفوفها ويجعلها لقمة سائغة في أفواه الحكومات المتعاقبة. وأن تعمل على تنظيف بيتها من الداخل وأن تجدد تعاقدها مع قواعدها على أسس ديمقراطية حقة وأن تؤول قيادتها مركزيا وجهويا وإقليميا للمناضلين الحقيقيين الذين يكونون قدوة للآخرين في القيام بواجباتهم وفي سلوكهم وأن تتأسس العلاقة بين جميع الأعضاء المنتمين على أسس الحق والواجب لا على الولاءات والقرابة والزبونية والمحسوبية، وان تكف عن اتهام المنسقيات والجمعيات والهيئات بأنها سبب ضعفها، لأن عكس ذلك هو الصحيح.