نستيقظ كل صباح فنتوجه رأسا نحو التلفزيون ونفطر بالأرقام الجديدة للقتلى. سقوط خمسة أطفال من عائلة واحدة.. شهداء جدد في قصف إسرائيلي لمسجد.. قتلى وجرحى في قصف إسرائيلي لسيارة إسعاف.. قنابل على مستشفى جنوبغزة.. سبعة تلاميذ ضحايا قصف إسرائيلي في قسم داخل مدرسة.. ثم نتوجه إلى مائدة الإفطار ونتناول فطورنا كما نفعل دائما، ويتوجه كل واحد إلى عمله. الدماء صارت تفتح شهيتنا للأكل. في المساء يجلس الناس في المقهى ليمارسوا طقسهم المعتاد ويشربوا قهوة سوداء كوجه هذه الأيام الحالكة. يشعلون سجائر المارلبورو ويبدؤون في إحصاء الضحايا الجدد.. قالوا وصلوا ل 582.. لا راه وصلوا 598.. واااه.. مساكين.. حين يمل الناس من رؤية مشاهد القتل والتدمير يطالبون النادل بتغيير القناة التلفزيونية من أجل مشاهدة مباراة لكرة القدم. بعد الشوط الأول يطالبون النادل من جديد بأن يحولهم مباشرة إلى ساحات القتل فيكتشفون أن عدد الضحايا ارتفع، ويقولون من جديد: مساكين.. الذي يقتل أطفال فلسطين اليوم في غزة هو العجز العربي الرهيب. إسرائيل تنفذ فقط ما يمليه عليها هذا العجز. نحن اليوم نبكي كالنساء كرامة لم نستطع أن نحافظ عليها كالرجال.. وحين يحس الإنسان بأنه في منتهى الشلل ولا يستطيع أن يحرك أصبعا في يده فإنه يبكي.. الدموع العربية هي الشيء الوحيد الذي لا يصاب بالعجز. قبل بضعة أيام، قال عمرو موسى كلاما جميلا، مع أن الكلام الجميل هو كل ما تبقى لدى هذه الجامعة الكسيحة. قال إن هناك حكمة في الدارجة المصرية تقول «اللّي تعرف ديّتو.. اقتله». يعني من تعرف أن قتله لن يسبب لك أية مشكلة أو أن ديّة قتله رخيصة فلا تتردد في قتله، وإسرائيل تعرف أننا أمة من ورق.. ورق التواليت بالخصوص.. لذلك تتسلى بقتل الفلسطينيين بهذه الطريقة الوحشية من دون أن نستطيع رفع أصبع في وجهها.. ليس نحن بالضبط.. بل حكامنا الأشاوس. المذلة التي نعيشها لها بعض النماذج في التاريخ. وخلال غزو التتار كان المحاربون الغزاة يلقون القبض على أسرى عرب ويطلبون منهم الركوع أمامهم ليقطعوا أعناقهم، ولأن الجنود المغول كانوا كثيري السكر، فإنهم عادة ما كانوا ينسون سيوفهم في الخمارات، لذلك يطلبون من الأسرى أن يظلوا راكعين إلى أن يعودوا إلى الخمارة ويأتوا بالسيوف ثم يقطعوا أعناقهم. يصعب تصديق هذا، لكنها وقائع تاريخية حدثت بالفعل. المذلة الكبرى هي التي تمنع الذليلين حتى من محاولة المقاومة، ونحن اليوم من المحيط إلى الخليج أذلاء راكعون ننتظر دورنا لقطع رقابنا بالسيف. في مظاهرة الرباط ليوم الأحد، بث التلفزيون كلاما مذهلا لامرأة مغربية في الستين من عمرها هو أشحذ من حد السيف. لا يبدو أن المرأة تلقت الكثير من التعليم في حياتها، ولا يبدو أنها من مدينة كبيرة لأن لهجتها تبدو ذات لكنة أمازيغية من عمق هذه البلاد. قالت المرأة الحكيمة «غزّة راها واقعة فينا حنا..». هذه حكمة تعني الكثير.. الكثير جدا. وفي مظاهرة طنجة الخميس الماضي، كانت امرأة في الثمانين من عمرها تقف بصعوبة ويسندها أبناؤها لأنها أصرت على الخروج في المظاهرة لتبكي وتصرخ أمام الملأ. قالت إنها لو بقيت في منزلها أمام شاشة التلفزيون فستنفجر. حالات كثيرة مثل هاته تحدث من المحيط إلى الخليج. شعوب مذلولة مقهورة لا تملك من أمرها شيئا، بينما الجيوش العربية الجبانة تطارد المتظاهرين في الشوارع ويكدس جنرالاتها الثروات، والحكام الأكثر جبنا يتبرعون بالأدوية والأكفان لغزة. الشهداء لا يحتاجون إلى أكفان، الأكفان يجب أن يحتفظ بها الحكام العرب لأنفسهم لأنهم ماتوا من زمان.