أول ما يثير انتباه الزائر في وسائل النقل الحضري في بلاد الغرب أن الراكب ما إن يستقر في مقعد، أو يسند ظهره إلى نافذة، حتى يُخرجَ كتابا من حيث لا تدري، وينغمس في القراءة. قد لا يرى من يجلس جواره، لكن عينيه تسافران بين صفحات الكتاب إلى محطة الوصول، لا تغفلان فقرة ولا كلمة. أما الزائر، فعلى امتداد طريق «الميترو»، لا تتوقف عيناه عن التنقل بين وجوهٍ يلتهم أصحابُها سطورا متراصة في كتاب أو على شاشة حاسوب نقال. لذلك استغربت، قبل أيام، أن الشابة الجالسة أمامي في قطار السادسة، ما إن استوت في قعدتها حتى دست يدها داخل حقيبتها اليدوية لتخرج منديلا وضعته على شعرها الأشقر، ثم دستها من جديد لإخراج كتاب، فتشت بين ثناياه عن صفحة محددة وشرعت في قراءتها باهتمام بالغ، إلى درجة أن الجدل الصاخب بين صديقين حول مباراة الليلة السابقة لم يؤثر على تركيزها. كانت الوحيدة التي تمسك كتابا في تلك العربة في القطار العائد من الدارالبيضاء إلى الرباط. هناك أربعة أشخاص يمسكون جرائد، اثنان في الصفحة الرياضية، والثالثة في الكلمات المسهمة مستعينة بصديق، والرابع لم يستقر بعد على صفحته، وجاره يتلصص بضعة عناوين بالمجان. كتاب واحد في عربة مملوءة عن آخرها، لا بد أن يذكر بعربات بلاد الغرب. ولو أن ما شغلني أكثر، في لحظة الفراغ تلك، هو ماذا تقرأ الشقراء؟ تخيلتها مجموعة قصصية عاطفية، دون أن أدري لماذا، وتخيلتها قصائد شعر قبانية، فحجم الكتاب الصغير لا يوحي بأنها رواية أو دراسة اقتصادية أو اجتماعية... .. وفجأة، رن هاتف الشقراء. بادرت إلى إخراج هاتفها المحمول، نظرت إلى الرقم المتصل، ابتسمت، طوت الكتاب، ونزعت المنديل، وبدأت المكالمة بهمس مسموع. كانت تتبادل العتاب الرقيق مع شخص محبوب، وملامح السعادة ترتسم على محياها، وانتهت إلى تحديد موعد اللقاء جوار محطة الرباطالمدينة. المكالمة التي بدأت قبل عين السبع، انتهت على مشارف بوزنيقة. ضمت الشقراء هاتفها إلى صدرها، وأغمضت عينيها منتشية ببسمة طفولية. وحين عبور قنطرة وادي شراط، دست الهاتف في الحقيبة، وأعادت المنديل لستر الشعر الأشقر، وفتحت الكتاب، على أي صفحة، وعيناها شاردتان خلف زجاج النافذة في الأفق البعيد، خلف أرض تخضر وتستخرج منها شمس مارس أزهارا ملونة.. في حركة عفوية، وضعت الشقراء الكتاب على ركبتها وأزاحت المنديل عن شعرها، لتطويه وتدسه في الحقيبة، ولتخرج أحمر الشفاه ومرآة صغيرة مستديرة تستشيرها في تزينها للقاء... كأنها نسيت الكتاب موضوعا فوق ركبتها، تلصصت العنوان: «الدعاء المستجاب». انتبهت إلى تلصصي، فدسّت الكتاب في الحقيبة. كأنها كانت تتلقى استجابة دعاء، دعته قبل مكالمتها الهاتفية، التي رفعتها على بساط سحري فوق السحاب، فلم تعد تحتاج هاتفا ولا منديلا ولا دعاء. في كافة أرجاء تلك العربة، في قطار السادسة مساء، ينظر الركاب بإعجاب إلى صاحبة الكتاب؛ فالباقون نيام، شخير أحلام أو مجرد كلام أو قول نمام أو «تخمام» أو «ميساجات ميساجات ميساجات»... بلغ القطار محطة الوصول، و« ميسا ما جات»؛ فهي عصية لا يمكن إدراكها بدعاء مستجاب، وإلا فلتتفضل الشقراء فتدعُ لنا بالرخاء. لن نطلب منها دعوة نصبح غداتها قوة اقتصادية عالمية، ولكن لتدعُ لنا بتجميد المشاريع التي تُطبخ لرفع الأسعار؛ أو فلتدع لنا بمسؤولين بلديين يكونون معنا لا ضدنا؛ وبتلفزيون يمتعنا ويفيدنا، ويحبب لنا «الإنتاج الوطني»، ويردنا من تيهنا بين قنوات الشرق والغرب؛ وبمنتخب كروي «يحمر وجهنا» في المحافل الدولية، يتيح لنا فرصة للافتخار، في زمن لا نجد مدعاة إلى افتخار؛ أو لتترك كل ذلك، وتدعُ لنا بزيادات في الأجور من حيث لا نحتسب؛ أو لتبحث لنا عن دعاء توفير الغذاء والدواء والأمن والعدل، وتترك لنا مسؤولية الدعاء لأنفسنا؛ ولها أجر عظيم، إن شاء الله.