العثور مؤخرا على جثتين جامدتين بمدخل حديقة "فلوبير" بمدينة بوردو، وعلى خمس جثث بأماكن متفرقة بمدينة ليون، وثلاث جثث، اثنتان برصيف الحي الإيطالي بباريس وواحدة برصيف محطة غاريبالدي بميترو الأنفاق، وجثتان بحديقة فانسان بضواحي باريس.. الحصيلة 12 جثة في يوم واحد (18 فبراير). ففي كل سنة، تحصد الموت المئات منهم بشكل فوري وتترك الآلاف يموتون ببطء، بعد أن يتغلغل الصقيع في أجسادهم، فيصبح العلاج ضربا من الخيال. 465 قضوا سنة 2010 و532 سنة 2011 و404 إلى حدود الاثنين الماضي.. لم يموتوا أعزاء من أجل فرنسا، بل ماتوا بشكل عبثي بفرنسا، بعد أن قذف بهم البؤس والحرمان إلى الحدائق وبوابات العمارات وإلى الزوايا العارية في المكان. من هؤلاء؟ وإلى أي صنف من البشر ينتسبون؟ إنهم ببساطة "صقيعية" مشردون يقتلهم الصقيع كل يوم. يسمونهم بالبشر الذين لا يجدون مأوى يلجئون إليه في نهاية يومهم (إس.دي.إيف). ويُنظر إليهم على أنهم أشخاص بلا مكان ولا هوية ولا حتى مواطنة. ومن الأجدر أن نسميهم بشرا من الدرجة الأخيرة، ومن أبخس الفئات وأكثرها حرمانا من الحقوق والرعاية. يختبئون في الأنفاق وفي الزوايا الخلفية من المكان، حتى لا يصادفهم موظفو الإحصاء أو مرشح يتسوّل أصواتا ضائعة على خلفية وعود زائفة بتمليكهم عقارا أو تقويم أوضاعهم، وهم فوق ذلك الأكثر وهنا وتهميشا في الإنسانية، التي أصبحت اليوم، في ظل العولمة المجنونة، تصنف كالفنادق من صفر إلى خمس نجوم. ليلة تحت السماء ثمة شريحة واسعة من هؤلاء بلا وطن وهم في قلب أوطانهم، وبلا هوية بعد أن ضاعت منهم بفعل الهجرة والتمييز العرقي وانتكاسات التاريخ. منهم من هو فرنسي الأصل والنشأة، ومنهم من يتحدر من أصول اغترابية (أفارقة، مغاربيون، آسيويون...)، لكنهم يشتركون في صلب تنوعهم، في افتقارهم لحاجة الإنسان الأساسية، وهي مكان يطلق عليه مأوى.. يتقاسمون جميعهم مأساة التشرد التي تتفاقم مع حلول فصل الخريف. هم حوالي 800 ألف ممن يختبئون في الأنفاق وفي مخيمات عشوائية، حسب المنظمات الإنسانية، بينما تقدرهم الإحصائيات الرسمية بنحو مائتي ألف، نصفهم في العاصمة باريس وضواحيها. ولأن وزارة الإسكان ومعها وزارة الأسرة منشغلتان بملفات فئات أخرى غير فئة المشردين، فقد دعت الفيدرالية الوطنية لجمعيات الإيواء وإعادة الإدماج، التي تضم 750 جمعية إنسانية، الفرنسيين من كل المشارب والفئات إلى ساحة الجمهورية بباريس لقضاء ليلة السبت 23 فبراير تحت السماء مع الضائعين المحرومين ممن لا مأوى لهم. ونصبت لهذا الغرض مئات الخيم البلاستيكية الصغيرة مفروشة بمئات الأغطية التي سيتقاسمها المتظاهرون مع المشردين، في التفاتة إنسانية أصرت معها الفيدرالية على أن تشمل في الأيام القادمة مختلف أرجاء فرنسا حتى تعطي مثل هذه المخيمات صورة مجسدة عن معاناة فئات واسعة من النساء الوحيدات والشبان والمسنين والفقراء... وتعاني فرنسا كثيرا من ظاهرة "المشردين"، لدرجة أن استطلاعا للرأي أظهر في أواخر سنة 2011 أن أزيد من نصف الفرنسيين لديهم "فوبيا التشرد"، حيث 54% منهم يخافون من أن يصبحوا في الشارع مشردين بلا مأوى. ويتغلغل هذا الخوف في نفوس فئات واسعة، حتى بين أصحاب الرواتب. نصف السكان مهددون وفي دولة يسكنها 63 مليون شخص، يشعر نصف سكانها اليوم بأنهم مهددون مباشرة بالتهميش والتشرد، وهو عدد أكبر بكثير من سبعة ملايين، يعيشون تحت سقف الفقر الذي حدد بنحو 800 أورو شهريا، حسب المعهد الوطني للإحصاء، الذي أفاد بأنه خلال عام 2010 كانت الموارد الأساسية ل 29 في المائة من الأشخاص بدون مأوى تتأتى من العمل و22 في المائة من التعويض الأدنى للاندماج، وهو المورد الأدنى الذي تمنحه الدولة، وتسعة في المائة من التعويضات عن البطالة. وعلى قائمة الأسباب التي تجعل الناس يخشون أن يتحولوا إلى مشردين، تكاثر الديون (31 في المائة) والفصل عن العمل (21 في المائة)، وهو خوف مشروع خاصة وأن أربعين في المائة من المشردين غارقون في ديون تناهز أحيانا آلاف اليوروات. وفي غياب إحصاء دقيق للمشردين، قدرت مؤسسة "الأب بيير"، التي تنشر سنويا تقريرا عن سوء السكن في فرنسا، بنحو 2،3 ملايين شخص يعانون من هذه الظاهرة، وبنحو مليون من المحرومين من منزل شخصي. وبين هؤلاء 300 ألف يعيشون على مدار العام في المخيمات أو المنازل الجاهزة، 150 ألفا في الفنادق، و200 ألف لدى آخرين، إما أصدقاء أو أقارب. وتقدر الجمعيات، التي تلت بالساحة رسالة مؤثرة وجهتها للوزير الأول، حاجيات المشردين بمليار و700 مليون أورو عوض 250 مليونا التي خصصتها الحكومة في متم شهر يناير لمعالجة الوضعية، والشروع في بناء مساكن اجتماعية لإيوائهم. وبالرغم مما قدمته وزارة الإسكان من برامج استعجالية تقضي بإيجاد سكن إجباري للمشردين، ومن التصريحات والإعلانات الرسمية التطمينية، فإن جمعيات مساعدة المشردين، تنظر بعين السخط إلى الإجراءات الحكومية الخجولة التي تفتقر إلى رؤية واضحة المعالم لمعالجة الوضع المتفاقم سنة بعد سنة. شرخ داخل المجتمع وفي حديث مقتضب مع "المساء"، رفض باتريس لوبلان، ناشط في جمعية "أطفال دون كيشوت"، أن ينسب نجاح هذه المبادرة التاريخية لجمعيته مؤكدا أن "قرار المبيت مع المشردين ممن لا مأوى لهم ناتج عن نضالات عديدة من جانب المنظمات الحقوقية، وعن تنسيق متواصل بينها. وربما يعطي المخيم الذي نصبناه في قلب باريس وسنعمل على أن يشمل مدنا أخرى، صورة مجسدة لهذا التنسيق". وحول ارتباط هذه العملية وتزامنها مع الانتخابات البلدية المقبلة، قال لوبلان: "لا شك أن فاعلية المنظمات الحقوقية والجمعيات بشكل عام، تتجسد في كيفية استثمار اللحظات التاريخية المهمة. وبالتالي، فإن استغلال قرب موعد الانتخابات مهم بالنسبة للمرشحين لتلميع صورتهم واتخاذ خطوات ترضية لهذا الطرف أو ذاك أو الاتجاه إلى الرأي العام بخطوات غير مسبوقة لكسب وده". ومن جهته، أوضح ديديي كسافور عن الفدرالية الوطنية لجمعيات الإيواء وإعادة الإدماج التي تضم 750 جمعية ل"المساء"، أن التهميش أصبح متعدد الشكل منذ نحو عشرة أعوام ويتسبب في شرخ داخل المجتمع برمته. ويتجلى ذلك، حسب قوله، في نساء وحيدات وشبان مشردين وأشخاص مسنين وعمال فقراء لم يعد لهم مكان في لائحة السكن الطارئ المكتظة تماما. ورغم أن المطالبة بضمان حقوق المشردين قديمة، فإن مصطلح "السكن الإجباري" ظهر لأول مرة في فرنسا سنة 2002 في التقرير الذي أصدرته "اللجنة العليا من أجل السكن" التي اقترحت حينها "فرض بند قانوني لإيواء المشردين". وسبق ذلك صدور قانون سنة 1990 الذي يقر بأحقية كل فرد في سكن لائق وإعانة لذوي الدخل المحدود، إلا أن وضعية المشردين ظلت على حالتها السيئة لعدة عقود.