مشردون في الأرض يختبئون في الأنفاق الباريسية وفي الزوايا الخلفية من المكان، يبحثون عن شيء اسمه المأوى إنهم الأكثر وهنا وتهميشا في الإنسانية التي أصبحت اليوم، في ظل العولمة المجنونة، تصنف كالفنادق من صفر إلى خمس نجوم، ومغتربون تنبني على ظهورهم شعبية الأحزاب لأنهم، ببساطة عبثية، مصدر البطالة وانعدام الأمن والجريمة، عنوانان لرسالتنا الباريسية لهذا الأسبوع. يسمونهم بالمصطلح السياسي أو القانوني، بالبشر الذين لا يجدون مأوى ثابتا أو عنوانا محددا يأوون إليه في نهاية يومهم (إس.دي.إيف). ويعتبرونهم بالمفهوم الاجتماعي أشخاصا مجهولين أو مواطنين بلا مكان ولا هوية ولا حتى مواطنة. ومن الأجدر أن نسميهم بشرا من الدرجة الأخيرة، ومن أبخس الفئات وأكثرهم حرمانا من الحقوق والرعاية. يختبئون في الأنفاق وفي الزوايا الخلفية من المكان، حتى لا يصادفهم موظفو الإحصاء أو مرشح يتسول أصواتا ضائعة على خلفية وعود زائفة بتمليكهم عقارا أو تقويم أوضاعهم، وهم الأكثر وهنا وتهميشا في الإنسانية التي أصبحت اليوم، في ظل العولمة المجنونة، تصنف كالفنادق من صفر إلى خمس نجوم. ثمة شريحة واسعة من هؤلاء بلا وطن وهم في قلب أوطانهم، وبلا هوية بعد أن ضاعت منهم بفعل الهجرة والتمييز العرقي وانتكاسات التاريخ. منهم من هو فرنسي الأصل والنشأة، ومنهم من ينحدر من أصول اغترابية، لكنهم يشتركون في صلب تنوعهم، في افتقارهم إلى حاجة الإنسان الأساسية وهي مكان يطلق عليه مأوى.. يتقاسمون جميعهم مأساة التشرد التي تتفاقم مع حلول فصل الشتاء، حيث يلقى عدد منهم حتفه بسبب البرد. وهناك حوالي 400 ألف شخص ممن يقيمون في الأنفاق أو في مخيمات عشوائية بضواحي المدن، حسب المنظمات الحقوقية، بينما تقدرهم الإحصائيات الرسمية بنحو مائة ألف مشرد، نصفهم في العاصمة باريس. وفي انتفاضة غير مسبوقة، تجمع عشرات الآلاف من الفرنسيين مساء السبت بساحة الجمهورية بباريس، بدعوة من 28 جمعية ومنظمة إنسانية، لقضاء ليلتهم تحت السماء مع الضائعين المحرومين ممن لا مأوى لهم، ولفت أنظار الحكومة إلى معاناتهم المنسية التي وصلت اليوم إلى مستويات وبائية. ونصبت الجمعيات في البداية مئات الخيم البلاستيكية الصغيرة بالساحة، مفروشة بمئات الأغطية التي اقتسمها المتظاهرون مع المشردين في التفاتة إنسانية تاريخية، أصرت معها تلك الجمعيات على أن تشمل في الأيام القادمة مختلف أرجاء فرنسا لدق ناقوس الخطر بشأن أوضاعهم المأساوية خاصة في برد الشتاء القارس، وإجبار الحكومة على اتخاذ قرار عاجل يضمن حق الحصول على سكن لهذه الفئة المحرومة من الحق في العيش الكريم. استياء من أداء الحكومة وتقدر الجمعيات، التي تلت بالساحة رسالة مؤثرة وجهتها إلى الوزير الأول، حاجيات المشردين بمليار و700 مليون يورو عوض 250 مليونا التي خصصتها الحكومة في متم شهر يناير لمعالجة الوضعية، والشروع في بناء مساكن اجتماعية لإيوائهم. وبالرغم مما قدمه وزير الإسكان من برامج استعجالية تقضي بإيجاد سكن إجباري للمشردين، ومن التصريحات والإعلانات الرسمية التطمينية، فإن جمعيات مساعدة المشردين، تنظر بعين السخط إلى الإجراءات الحكومية الخجولة التي تفتقر إلى رؤية واضحة المعالم لمعالجة الوضع المتفاقم سنة بعد سنة. وفي حديث مقتضب مع «المساء»، رفض باتريس لوبلان، ناشط في جمعية «أطفال دون كيشوت»، أن ينسب نجاح هذه المبادرة التاريخية إلى جمعيته، مؤكدا أن «قرار المبيت هذه الليلة مع المشردين ممن لا مأوى لهم ناتج عن نضالات عديدة على امتداد عشرات السنوات من جانب المنظمات الحقوقية الفرنسية، وعن تنسيق متواصل بينها. وربما يعطي المخيم الذي نصبناه في قلب باريس، وسنعمل على أن يشمل مدنا أخرى، صورة مجسدة لهذا التنسيق». وحول ارتباط هذه العملية وتزامنها مع الانتخابات الجماعية المقررة في التاسع من مارس القادم، قال لوبلان: «لا شك أن فاعلية المنظمات الحقوقية والجمعيات بشكل عام، تتجسد في كيفية استثمار اللحظات التاريخية المهمة. وبالتالي، فإن استغلال قرب موعد الانتخابات مهم بالنسبة إلى العديد من المرشحين لتلميع صورتهم واتخاذ خطوات ترضية لهذا الطرف أو ذاك، أو الاتجاه إلى الرأي العام بخطوات تعد غير مسبوقة لكسب وده». ومن جهته، أوضح ديديي كسافور عن الفدرالية الوطنية لجمعيات الإيواء وإعادة الإدماج، التي تضم 750 جمعية، ل«المساء»، أن التهميش أصبح متعدد الأشكال منذ نحو عشرة أعوام، ويتسبب بشرخ داخل المجتمع برمته، ويتجلى ذلك، حسب قوله، في نساء وحيدات وشبان مشردين وأشخاص مسنين وعمال فقراء لم يعد لهم مكان في لائحة السكن الطارئ المكتظة تماما. ورغم أن المطالبة بضمان حقوق المشردين قديمة، فإن مصطلح «السكن الإجباري» ظهر لأول مرة في فرنسا سنة 2002 في التقرير الذي أصدرته «اللجنة العليا من أجل السكن»، التي اقترحت حينها «فرض بند قانوني لإيواء المشردين». وسبق ذلك صدور قانون سنة 1990 الذي يقر بأحقية كل فرد في سكن لائق وإعانة لذوي الدخل المحدود، إلا أن وضعية المشردين ظلت على حالتها السيئة لعدة عقود. الخوف من التشرد وتعاني فرنسا من ظاهرة «المشردين» إلى درجة أن استطلاعا للرأي أظهر في أواخر سنة 2007 أن الفرنسيين أنفسهم لديهم «فوبيا التشرد»، حيث 54 % منهم يخافون أن يصبحوا في الشارع مشردين بلا مأوى. ويتغلغل هذا الخوف في نفوس فئات واسعة من المجتمع الفرنسي حتى بين أصحاب الرواتب. وفي بلد يضم 63 مليون نسمة، يشعر نصف السكان اليوم بأنهم مهددون مباشرة بالتهميش، وهو عدد أكبر بكثير من سبعة ملايين يعيشون تحت سقف الفقر الذي حدد بنحو 800 يورو شهريا، حسب المعهد الوطني للإحصاءات، الذي أفاد بأنه خلال عام 2001 كانت الموارد الأساسية ل29 في المائة من الأشخاص بدون مأوى تتأتى من العمل و22 في المائة من التعويض الأدنى للاندماج أو المورد الأدنى الذي تمنحه الدولة، وتسعة في المائة من تعويضات البطالة. وفي مقدمة الأسباب التي تجعل الناس يخشون أن يتحولوا إلى مشردين: تكاثر الديون (31 في المائة)، وفصلهم من العمل (21 في المائة)، وهو خوف مشروع خاصة وأن أربعين في المائة من المشردين غارقون في ديون تناهز أحيانا آلاف اليوروات. وفي غياب إحصاء دقيق للمشردين، قدرت مؤسسة «الأب بيير»، التي تنشر سنويا تقريرا حول سوء السكن في فرنسا، بنحو 2،3 مليون شخص يعانون هذه الظاهرة، وبنحو مليون من المحرومين من منزل شخصي. وبين هؤلاء مائة ألف يعيشون على مدار العام في المخيمات أو المنازل الجاهزة، وخمسون ألفا في الفنادق، ومائة وخمسون ألفا لدى آخرين، إما أصدقاء أو أقارب. موضوع الهجرة لم تخرج الأحزاب الفرنسية عن عادتها في جعل الهجرة محورا أساسيا في حملتها الانتخابية، حيث لم تجد الحكومة مناسبة أفضل من الانتخابات الجماعية المقررة في التاسع من مارس القادم، للقيام بحملة تمشيط واسعة لاعتقال عشرات من أبناء ضاحية بانتواز الباريسية، التي شهدت اضطرابات يومي 25 و26 نونبر، إثر وفاة مراهقين داستهما سيارة للشرطة. وقد ارتأت أجهزة الأمن، التي جندت أزيد من ألف شرطي لهذه العملية، أن تستدعي إلى عين المكان وسائل الإعلام من صحافة مكتوبة ومسموعة ومرئية لتتبع وقائع الحملة الأمنية التي من المفترض أن تكون مباغتة لا علم لأحد بتوقيتها وبمكانها. ويفهم من ذلك أن حزب ساركوزي «التجمع من أجل حركة شعبية»، الذي خاض تجربة سيئة مع الضواحي الباريسية، اكتشف على مسافة قصيرة من الانتخابات، طريقة جديدة لإعادة تلميع صورة رئيسه بعد تراجع شعبيته بشكل لافت في الآونة الأخيرة. وفيما أدانت سيغولين روايال، المرشحة السابقة للانتخابات الرئاسية عن الحزب الاشتراكي، ما سمته ب»الحملة الإعلامية البوليسية» التي تتوخى تخويف الرأي العام ومن ثمة التأثير على خياراته على بعد أسبوعين من الانتخابات الجماعية، عبر الحزب الشيوعي عن يقينه بأن هذه الحملة البوليسية وما واكبها من تغطية إعلامية نادرة، تمت على خلفية انتخابية، فيما شاطرته الحركة الديمقراطية نفس القناعة بقولها: «إن العدالة لا تقتضي إخراجا من هذا النوع». ولتسليط المزيد من الضوء على هاجس الهجرة الذي يسكن التنظيمات السياسية بمختلف أطيافها، لا بد من الوقوف على بعض الخطابات والمواقف السياسية التي تتسابق الأحزاب على الترويج لها أثناء حملاتها الانتخابية بشأن موضوع الهجرة، وأهمها حزب ساركوزي الذي يبني شعبيته على الهجرة المنتقاة كحل وحيد وضروري لضبط الهجرة. والهجرة المنتقاة في مفهومه هي ترحيل مئات الآلاف ممن لا يتوفرون على تكوين عال أو رأسمال لإقامة مشاريع اقتصادية مربحة لفرنسا، وهو يتبنى أيضا بعض طروحات الجبهة اليمينية المتطرفة في ما يتعلق بالربط بين المهاجرين ومشاكل البطالة وانعدام الأمن والجريمة. وهذا ما تستنكره المنظمات الحقوقية الفرنسية والعالمية. أما موقف اليسار، مجسدا في الحزب الاشتراكي، فيقوم على ترديد عبارات الديمقراطية والمساواة والتنوع الثقافي والعرقي، مع البحث عن آليات لتجسيدها، دون أدنى عمل ملموس لفائدة المهاجرين، بل يربط شروط دخولهم وإقامتهم وحقوقهم الاجتماعية والقانونية في فرنسا، بضوابط تكون أحيانا تعجيزية. وأثبتت التجارب أن الحزب ينهج سياسة غامضة تبدي تساهلا في الشكل وتصلبا وتشددا في الجوهر. وتتبنى الحركة الديمقراطية (حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية سابقا) سياسة الوسط. فهي تستهجن القول بأن الهجرة تضر بالهوية الوطنية، وترفض التفكير بمنطق الربح والخسارة عند الحديث عن الهجرة، لكنها في الواقع تغازل اليمين وتتركه ينوب عنها في الترويج لما تؤمن به في الداخل. وتبقى ضمن هذه الخارطة، الجبهة الوطنية التي أسسها عام 1972 جان ماري لوبين، والتي تبني برامجها الانتخابية بوضوح على معاداة الهجرة والعمل على الوصول بها إلى الصفر، باعتبارها إفقارا لفرنسا وتهديدا لثقافتها وهويتها. وتقول بترحيل المهاجرين حتى وإن كانوا متجنسين، والحفاظ على الحياة التقليدية الفرنسية والتوقف عن إقامة المساجد، وغير ذلك من المواقف التي لا بد من الإقرار بأن شريحة واسعة من الفرنسيين تتبنى معظمها. والأحزاب الفرنسية جميعها، وإن تفاوتت القناعات، تنظر إلى المهاجر من زاوية أصوله وانتمائه الديني وبلده العربي، مما يجعل منه مواطنا أقل فرنسية من غيره. لا ثقة للمهاجرين في السياسيين من اليمين واليسار وسيكون 45 مليون فرنسي بعد عشرة أيام على موعد مع صناديق الاقتراع لانتخاب ممثليهم في 36783 بلدية. وللمرة الثانية منذ 2001، يشارك في عملية التصويت مواطنو بلدان الاتحاد الأوروبي المقيمون في فرنسا. وتشير استطلاعات الرأي وتحاليل المتتبعين لهذه الانتخابات إلى أن موعد التاسع من مارس، سيحمل، حسب أهمية المدن وشخصية المتنافسين، رهانات محلية ووطنية. وترجح ذات الأوساط أن تكون حصيلة الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي وحكومة فرنسوا فيون، حاضرة في الأذهان. وقد بينت استحقاقات سابقة أن الانتخابات البلدية قادرة على تهيئة السياسيين إلى السباق الرئاسي، كما كان الشأن بالنسبة إلى جاك شيراك الذي استغل منصبه كعمدة باريس لشق طريقه باتجاه الإليزيه عام 1995. ويتعرض برتران دولانوي، العضو القيادي في الحزب الاشتراكي، والمرشح الكبير لانتزاع ولاية ثانية على رأس بلدية باريس، لانتقادات لاذعة من قبل حزب اليمين الحاكم، إذ تتهمه منافسته فرنسواز دو بنافيو بالاهتمام باقتراع 2012 الرئاسي، وتجاهل مشاكل سكان باريس، خاصة في ميادين النقل العمومي والسكن. وتعادل نسبة الفرنسيين الذين يجدون بين أصولهم القريبة أو البعيدة مهاجرا أجنبيا، 23 في المائة من مجموع سكان فرنسا، علما بأن نسبة الفرنسيين من أصول مغاربية أو إفريقية تعادل أربعة في المائة من الفرنسيين ذوي الأصول الفرنسية الخالصة. أما نسبة الفرنسيين من أصول مغاربية المسجلين في اللوائح الانتخابية لعام 2008، فتفوق ثلاثة في المائة من مجمل المسجلين، وهي نسبة جد هامة في الخارطة الانتخابية يعول عليها اليسار كثيرا باعتبار أن 75 في المائة من المهاجرين أقرب إلى الأحزاب اليسارية، حتى وإن كان هذا التوجه لا يستند إلى وضع اجتماعي أو إلى منظومة قيم فردية يتبناها الحزب المذكور، وإنما يمكن تفسيره بالتطلع إلى فكرة المساواة الاجتماعية المطروحة في برامجه، حيث يبقى اليسار في تصورهم أكثر قربا منهم ومن الفئات الفقيرة بشكل عام. ويمكن القول بأن مشاكل البطالة والعمل غير المستقر والغلاء وانخفاض مستوى المعيشة التي تهم جميع الفرنسيين، تطال بشكل أكبر الجالية المغاربية. وفي ظل فشل المشاريع المتعلقة بالهجرة وتنظيمها، ومنها سياسة ما يعرف بالاندماج التي طرحتها وتطرحها مختلف الأحزاب السياسية، فإن الفرنسيين من أصول مغاربية يعلنون في غالبيتهم أن لا ثقة لديهم في السياسيين من اليمين واليسار، وكان من الأفضل لو يستطيعوا إرسال نواب عنهم للتحدث باسمهم في شتى القضايا التي تتعلق بأمورهم الخاصة.