تناقلت بعض الصحف المغربية نبأ تقديم العشرات من الأطباء الاختصاصيين في المغرب استقالاتهم من العمل بالمستشفيات العمومية، واختيارهم طواعية مغادرة سلك الوظيفة العمومية للالتحاق بالقطاع الخاص. تقصيت في الأمر بوسائلي وإمكانياتي المحدودة، فتأكد لي أن الخبر صحيح وليس مجرد إشاعة، كما عودتنا على ذلك بعض الصحف المغربية التي تبحث عن الإثارة وتهويل الأحداث لاستقطاب أكبر عدد ممكن من القراء. من الممكن أن تدخل هذه الاستقالات في إطار الصراع وشد الحبل بين وزير الصحة الحسين الوردي والأطباء، خاصة وأن السيد الوردي أصبح يعد في كل المناسبات بإصلاح قطاع الصحة وتجاوز كل الأعطاب والاختلالات التي أصبحت ملازمة للسياسة الصحية في المغرب. من الممكن أن تكون هذه الاستقالات وسيلة من وسائل الضغط التي لجأت إليها فئة الأطباء الاختصاصيين في إطار معركتها التصعيدية الاستباقية، لثني ذراع الوزير وحمله على التراجع عن كل القرارات التي تهدد مصالحها، خاصة المذكرة التي تمنع من المزاوجة بين العمل في المؤسسات العمومية (المستشفيات - المراكز الصحية - المؤسسات الاستشفائية...) والعمل في العيادات الخاصة؛ فالوزير سبق له أن توعد بالعزل وسحب التراخيص كلَّ من لا يمتثل لبعض قراراته، فيما اختار الأطباء الهجوم كأحسن وسيلة للدفاع. إنني، في هذا المقال، لا أجادل في الاستقالة في حد ذاتها، فمن حق الموظف تقديم استقالته متى شاء، لأن الاستقالة هي حق من حقوق الموظف المنصوص عليها في قانون الوظيفة العمومية الذي يعتبر إطارا تعاقديا بين الدولة والموظف، فهذا القانون المشار إليه يسمح باستقالة الموظف من العمل الذي لا يرغب فيه والسعي في الأرض بحثا عن عمل بديل. لكن ما يجب التشديد عليه هو أن الكل يعرف أسباب الاستقالات، فهي واضحة لا غبار عليها، ذلك أن أغلب المستقيلين يزمعون تقديم استقالاتهم ليتسنى لهم العمل في عيادات خاصة في ملكيتهم أو في ملكية مشتركة مع زملاء لهم، ليتمكنوا من جني أرباح خيالية، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق في القطاع العمومي حيث الرواتب هزيلة والمحفزات منعدمة. من وجهة نظري الخاصة، على الوزارة، مراعاة للمصلحة العامة، رفض هذه الاستقالات وإلزام الاختصاصيين بالعمل في المؤسسات العمومية، بما فيها تلك الموجودة في المناطق النائية لأسباب عديدة : - أن الأطباء الاختصاصيين مدينون لهذا الشعب، فكلهم درسوا في مدارس ومعاهد عمومية لأزيد من25 سنة، بدون أن نحتسب سنوات التكرار؛ والأموال التي صرفت من أجل تعليمهم هي أموال عمومية، أي أموال الشعب؛ - أن المواطن المغربي له أيضا الحق في الصحة، وهذا منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لسنة 1965 والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966 والإعلان الخاص بحقوق المتخلفين عقليا لسنة 1971 واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1979 واتفاقية مناهضة التعذيب لسنة 1987 واتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 والقانون الأساسي لمنظمة الصحة العالمية... إلخ، وكلها مواثيق صادقت عليها الدولة المغربية وأكدت سموها عن القوانين الوطنية، بالإضافة طبعا إلى دستور 2011 الذي نص في الفصل 31 على أنه على الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية أن تعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات على قدم المساواة من الحق في الصحة، ونفس الحق نصت عليه مدونة التغطية الصحية الإجبارية أو القانون 00-65. - أن ترتيب المغرب أصبح لا يشرف عالميا على عدة مستويات: التنمية البشرية - الولوج إلى الخدمات الصحية - نسبة الأمد في الحياة - نسبة الأدوية المستهلكة سنويا بالنسبة إلى الفرد - عدد الأطباء والأطر الصحية بالمقارنة مع الدول المغاربية والعربية والإفريقية والأمريكية اللاتينية؛ - أن المواطن في المناطق المهمشة بالمغرب العميق، في أزيلال وخنيفرة وفكيك والراشيدية ووارزازات وطاطا وكلميم وشيشاوة...، هو أيضا إنسان من حقه علينا أن نمتعه بالحق في الصحة، وعدم الاكتفاء بالقوافل والحملات الطبية، لأن أغلبها يدخل فيه الطابع الإحساني الخيري، وكأن هذه القوافل الطبية التي تنظم باتجاه مناطق المغرب العميق هي نوع من الصدقة أو أنها تأتي في إطار الحملات الانتخابوية المتهافتة، في حين أن الأمر هو واجب. وتأسيسا على ما سبق، يجب على الأطباء الاختصاصيين أن يعدلوا عن استقالاتهم، كما يجب على الدولة الضامنة والحامية لحقوق الأفراد والجماعات أن ترفض هذه الاستقالات، وإلا فإننا سنكون قد ارتكبنا جريمة جديدة في حق أجيال المستقبل شبيهة بجريمة ما سمي بالمغادرة الطوعية في عهد حكومة اليوسفي. فالوطن محتاج إلى أن يوظف كل طاقاته وإمكانياته من أجل الإقلاع والنهوض التنموي، بعيدا عن الأنانية والمصالح الذاتية الضيقة، لأن المصلحة العامة تعلو على مصالح الأفراد. ملحوظة لها علاقة بما سبق: على الدولة أن تهتم بتحسين أوضاع العاملين في القطاع الصحي، من أطباء وممرضين وإداريين وأعوان، لأنه لا يمكن النهوض بقطاع الصحة بدون الاهتمام بالعنصر البشري.