في كل مهرجان للسينما في طنجة يولد جدل، أحيانا يكون جدلا له معنى، وأحيانا أخرى يكون جدلا فارغا.. تماما مثل طبل. في كثير من المرات يتعمد مخرجون فاشلون إنتاج أفلام تافهة، ويُضمّنونها لقطات يستوحونها من القنوات الإباحية؛ وحين يغضب الناس، يصبح المخرجون الفاشلون أبطالا، وتبدأ صحف ووسائل إعلام معينة في الدفاع عنهم وكأنهم عباقرة السينما في هذا الزمان، بينما الحقيقة أن السينما ندبت حظها ونتفت شعرها يوم قرروا أن يصبحوا مخرجين. في مهرجان هذا العام، قفز إلى الواجهة اسم مخرج لم يسمع أحد باسمه من قبل؛ لكن الحقيقة أن هذا الشاب، الذي ولد في قرية منسية بين ثنايا الجبال، كان محظوظا لأنه استطاع أن يحول فيلمه، الذي يقال إنه وثائقي، إلى قضية يتحدث عنها الجميع، مع أنه فيلم ساذج وبسيط، ويتحدث بطريقة مملة عن تاريخ وجود اليهود في قرية «تنْغير»، أي نفس القرية التي ولد وتربى فيها المخرج قبل أن يهاجر إلى فرنسا وعمره ستة أشهر، تماما كما حدث لمئات الآلاف من المغاربة. الفيلم الوثائقي، لو أردنا أن نسميه وثائقيا، يسمى «تنْغير - جيروزاليم: صدى الملاح». ويبدو أن العنوان هو أفضل ما في الفيلم، لأنه يوحي بأن الفيلم قوي جدا، وفي النهاية نكتشف أن المسألة تتعلق بإعجاب شخصي للمخرج بيهود قريته، وربما بمدينة جيروزاليم، واسمها الحقيقي هو القدس، وربما هو معجب بنفسه فقط.. لا غير. فيلم «تنْغير - جيروزاليم» من نوعية الأفلام الوثائقية التي يصبح فيها المخرج أكثر ظهورا من الشخصيات الرئيسية، لذلك فإن المخرج ظهر في فيلمه أكثر من أي أحد آخر، وأكثر ما ظهر فيه هو أسنانه التي نادرا ما تختفي، لأنه كان يبتسم طوال الوقت، وكان يبدو معجبا إلى حد الوله بتاريخ يهود قريته، ويتحدث عن هجرتهم إلى إسرائيل وكأن عصافير نادرة وملونة هربت من بين يديه إلى مكان بعيد. منذ البداية وحتى النهاية، ظل المخرج يتجول هنا وهناك وهو ينتقل من أطلال إلى أخرى، ويسأل عن «صاحْب هادْ الحانوت ومولاتْ هاد الحمّامْ»، وكلهم هاجروا إلى إسرائيل خلال العقود الماضية، والجميع يعرف من باع واشترى في اليهود المغاربة، ولو كان صاحب هذا الفيلم الوثائقي شجاعا لتحدث عن سماسرة تهجير اليهود المغاربة نحو إسرائيل. بعد ذلك ينتقل المخرج نحو إسرائيل، وهناك يلتقي بيهود مغاربة لا يفهمون لماذا غادروا المغرب ويسمون أنفسهم مغاربة، وآخرين يؤمنون بأن المغرب كان مجرد مرحلة مؤقتة، ويسمون احتلال فلسطين ب«حرب الاستقلال». هذا كل ما في الأمر إذن، أي أن المخرج المبتدئ أخرج شريطا يسرد فيه حكاية إعجاب شخصي، ثم تنتهي الحكاية. لكن المشكلة تكمن في كون جهات مغربية ساهمت في تمويل هذا الشريط، من بينها القناة الثانية «دوزيم»، والناس يعرفون أن جيوبهم هي التي تمول هذه القناة التي كانت مهددة بالإفلاس في أكثر من مرة، ومع ذلك فإن مسؤولي «الدوزيم» لا يتورعون عن وضع مشاريع أفلام وثائقية حقيقية في سلة المهملات، ويُكْرمون أفلام سخيفة. الذين احتجوا على عرض فيلم «تنْغير - جيروزاليم» في مهرجان السينما بطنجة كان عليهم أن يحتجوا بسبب رداءة الفيلم وليس بسبب موضوعه الذي رأوا أنه يحمل نفحات صهيونية، فالقضية هي في الأصل قضية جودة، وقضية ما إن كان هذا الفيلم يستحق أن يكون أصلا مبرمجا في مهرجان للسينما، وأكثر من ذلك في افتتاح مهرجان وطني للسينما. أما القضية الأخرى فهي تهم المغاربة جميعا، وهي قضية اليهود المغاربة؛ فهؤلاء هم جزء طبيعي من المجتمع المغربي، وأن يكونوا يهودا أو غير ذلك فهذا لا يغير من مواطنتهم شيئا، والتاريخ يدل على أنهم لم يكونوا ضيوفا في هذه البلاد، بل أصحاب أرض أصليين، وهذه مسألة لا تتناطح حولها عنزتان. لكن المشكلة بدأت يوم صارت الحركة الصهيونية تزرع المسامير في طريق التعايش، وبدأ اليهود يحسون بالقلق، وهاجر الكثيرون نحو إسرائيل وهم يبكون ألما، وآخرون بكوا فرحا واعتبروا ذلك الكيان وطنهم الأصلي، مع أن المسألة مرتبطة باحتلال أرض اسمها فلسطين، وأغرب ما فعله اليهود المغاربة هو أنهم تركوا وطنهم الأصلي الذي يسمى المغرب، واحتلوا أرضا لا يملكون فيها أي حق اسمها فلسطين. هذه إذن هي المشكلة، وهذا النوع من المشاكل لن ينتهي قريبا، لأن منظمي مهرجان السينما في طنجة يبحثون كل عام عن «تخرْبيقة» تجعل الناس يتحدثون عنهم لأن هذا المهرجان صار مثل عصا سليمان، تبدو قوية وصلبة، لكن «السّوسْ» نخرها من الداخل.