لعل أول القرارات الذي يترتب على المدير الجديد لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، جون برينان، اتخاذه يتعلق بما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدّة استهداف قادة المجموعات المقاتلة الإسلامية في مالي بواسطة الهجمات التي تنفذها الطائرات بدون طيار، بالطريقة نفسها التي قتلت بها المناضلين الإسلاميين الموجودين بأعداد كبيرة في أفغانستانوباكستان واليمن والصومال وفي أمكنة أخرى على مرّ العقد الماضي. قبل أن تتمّ ترقيته إلى منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، كان برينان كبير مستشاري الرئيس باراك أوباما لمكافحة الإرهاب والمسؤول عن تصعيد الهجمات التي تشنّها الطائرات بدون طيار في باكستان واليمن. وفيما ازداد الخطر الإسلامي في الساحل خلال السنة الماضية عقب الإطاحة بالرئيس الليبي معمّر القذافي، عُلم بأن الرئيس باراك أوباما ومستشاريه الأمنيين ناقشوا مسألة وجوب استخدام الطائرات المسلحة بدون طيار في شمال أفريقيا. وبالفعل، لا بد أنه تم اتخاذ قرار أمريكي يقضي باستخدام الطائرات المسلحة بدون طيار، ولاسيّما عقب الحرب التي شنّتها فرنسا في هذا الشهر ضد المقاتلين الإسلاميين في مالي والهجوم المضاد الذي شنّه هؤلاء على منشأة الغاز جنوب شرقي الجزائر. وفي ظلّ هذا الجوّ الدولي المضطرب، باتت الطائرات المسلحة بدون طيار الأسلحة الأبرز في الحرب، فبوسع هذه الطائرات، مثل الطائرات من طراز «بريداتور» و»ريبر»، أن تبقى في الهواء فوق أرض العدو لأكثر من أربع عشرة ساعة قبل أن تضرب أهدافا غير متوقعة بواسطة الصواريخ التي تتخطى سرعتها سرعة الصوت. كما يقال إن الولايات المتحدّة تشغّل نحو 8 آلاف طائرة بدون طيار، علما بأن ألفا منها هي طائرات مسلحة. وتعدّ إسرائيل بدورها مصنّعا فاعلا للطائرات بدون طيار. وأشار معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى إن 41 في المائة من الطائرات بدون طيار التي تمّ تصديرها بين عام 2001 وعام 2011 صُنعت في إسرائيل. ويقال إن «الأمير» السابق في تنظيم «القاعدة» مختار بلمختار، الذي شكّل مجموعته المناضلة الخاصة المعروفة باسم «الموقّعين بالدم»، مسؤول عن التخطيط للهجوم الذي شُنّ على منشأة الغاز الجزائرية في مدينة «عين أميناس». وكانت القوات الخاصة الجزائرية قد تخلّصت من أعضاء هذه المجموعة في إطار عدد من العمليات التي بدأت في 16 يناير وقتلت معظمهم. إلا أن عددا كبيرا من الرهائن الجزائريين والأجانب قضوا نحبهم أيضا. واعتبرت المواقع الإسلامية، على شبكة الأنترنيت، الهجومَ الذي نفّذ على منشأة الغاز الجزائرية إنجازا كبيرا ودعت إلى شنّ هجمات ضد أهداف فرنسية. وبهدف تلبية الدعوة التي أطلقتها الحكومة المالية للمساعدة، لم تخفِ فرنسا نيّتها تدمير المجموعات المقاتلة الإسلامية شمال مالي ومساعدة حكومة باماكو على بسط سيطرتها من جديد على كامل أراضي البلد. أما المجموعات التي تستهدفها فهي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و»الحركة من أجل الوحدة والجهاد في غرب إفريقيا» وجماعة «أنصار الدين». أرسلت هذه المجموعات الإسلامية متمردي الطوارق إلى شمال مالي في السنة الماضية فاستولوا على القرى الأساسية، بما فيها قرية تيمبوكتو، ومن ثم فرضوا حكمهم الإسلامي الخاص الذي كان عنيفا في بعض الأحيان. وبما أن هذه المجموعات استولت في شكل واسع على أراضي البلد القاحلة التي تضاهي مساحتها مساحة فرنسا، قد تكون المهمّة صعبة وطويلة. بدت الولاياتالمتحدةوالجزائر مترددتين في الانخراط في النزاع في مالي، إلا أن الأحداث الحاصلة قد تكون أرغمتهما على التدخل. كانت الولاياتالمتحدة برئاسة أوباما تسعى إلى الانسحاب من النزاعات المسلحة، مثل الحربين الطويلتين والمكلفتين في العراق وأفغانستان. كذلك، بدت الجزائر حريصة على البقاء خارج النزاع في مالي، ولاسيما أنها لا تزال تتعافى من جروح الحرب الأهلية المريرة ضد المحاربين الإسلاميين في تسعينيات القرن الماضي والتي أدت إلى مقتل حوالي 150 ألف شخص. وكان الإسلاميون في مالي في عدد من الحالات يحاربون في حرب الجزائر الأهلية. وآخر ما كانت تتمناه الجزائر هو إعادتهم إلى أراضيها. إلا أن ذلك حصل مع الهجوم الذي شُنّ على منشأة الغاز. لقد انخرطت الجزائر في النزاع، سواء أعجبها ذلك أو لا. ويقال إنّ الطائرات الفرنسية من طراز «ميراج»، التي تقصف المقاتلين شمال مالي تنطلق من المطارات في الجزائر والتشاد، فهل ستنضم إليها الطائرات الأمريكية المسلحة بدون طيار؟ تحتاج الطائرات بدون طيار على غرار طائرات «ميراج» إلى إذن لدخول المطارات وإلى حق التحليق في الدول المجاورة؛ كما تحتاج الطائرات بدون طيار إلى مخبرين ميدانيين قادرين على تحديد الأهداف المحتملة وعلى نقل هذه المعلومات الاستخباراتية الدقيقة بواسطة الوسائل الإلكترونية إلى مشغّلي الطائرات بدون طيار. وفي أفغانستان، حيث استخدمت الولايات المتحدّة الطائرات بدون طيار بشكل كبير، ألقت حركة «طالبان» في بعض الأحيان القبض على المخبرين وعذبتهم وقتلتهم بعد أن أرغمتهم على تسجيل أشرطة فيديو يعترفون فيها بأنهم يتجسسون لمصلحة الولاياتالمتحدة. ويجب أن ننتظر لنرى ما إذا كانت الولايات المتحدّة ستوظّف شبكات من المخبرين في شمال مالي لتنفيذ هذه المهمّة الخطرة. لا شك في أن الطائرات بدون طيار فاعلة، إلا أنها مثيرة للجدل أيضا؛ فإلى جانب القضاء على الإرهابيين المزعومين، توقع هذه الطائرات ضحايا أبرياء، فقد أشارت الأدلة الواردة في تقرير مشترك صادر عن مكتب الصحافة التحقيقية وصحيفة «صنداي تايمز» إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية استهدفت عمدا أشخاصا هرعوا إلى مساعدة ضحايا هجوم؛ كما تم شن هجوم على زوجات المناضلين حين كنّ يدفنّ جثث أزواجهنّ. وفي عام 2012، قتلت الطائرات بدون طيار نحو 470 باكستانيا، علما بأن 68 منهم ليسوا محاربين. وفي استطلاع أخير للرأي، قال 74 في المائة من الباكستانيين إنهم يعتبرون الولايات المتحدّة عدوا. كما يرى عدد كبير من الخبراء أن الهجمات بالطائرات بدون طيار تولد إرهابيين أكثر من أولئك الذين تقتلهم. وفي اليمن، ارتفعت وتيرة الهجمات التي نفذتها الطائرات الأمريكية بدون طيار ضد مناضلي تنظيم «القاعدة» جنوب البلد خلال السنة الماضية. كما قتلت الطائرات بدون طيار 185 شخصا على الأقل في اليمن في السنة الماضية. إلا أن تكلفة سياسية تترتب عن هذه العمليات القاتلة لمكافحة الإرهاب، إذ إنها تولد عدائية كبيرة ليس ضد الولايات المتحدّة فحسب بل ضد قادة اليمن أيضاً الذين يسمحون للطائرات الأمريكية بدون طيار بأن تعمل في أراضيهم. ويقال إن الرئيس عبد ربه منصور هادي (الذي حلّ في شهر فبراير الماضي مكان الرئيس علي عبد الله صالح الذي بقي مدة طويلة في سدة الرئاسة) طلب من الولاياتالمتحدة المساعدة ضد تنظيم «القاعدة»؟ في أفغانستانوباكستان واليمن، فشلت العمليات الهادفة إلى مكافحة الإرهاب في فرض السلام كما تمنت الولاياتالمتحدة، وزادت الأمور سوءا. وكي تكون هذه العمليات فاعلة، يجب أن تكون جزءا من سياسة تفاوض ومساومة وبحث عن حل سياسي للنزاعات. وستقدم مالي الاختبار الأخير على ذلك. لا شكّ في أن الخطأ الذي ارتكبته حكومة باماكو يكمن في عدم إعطاء الطوارق شمال البلد قدرا من الاستقلالية؛ فلو فعلت ذلك لما كانت المجموعات الإسلامية تملك عذرا للتدخل. في إطار تقرير نشره موقع «ديلي بيست» (التابع لمجلة «نيوزويك») في 20 نونبر 2012، نُقل عن السفير الأمريكي الأسبق في باكستان، كاميرون مونتر، قوله إن «مشكلة الهجمات بالطائرات بدون طيار هي التبعات السياسية المترتبة عنها... هل تريد الفوز بمعارك قليلة وخسارة الحرب»؟