كشف تحقيق ميدانيّ أنجزته «المساء» حقائقَ «مرعبة» في صفوف مصابين بمرض «السيدا» في منطقة بومية، التابعة إداريا لإقليم ميدلت.. وبلغت حالة الهلع وسط سكان المنطقة ذروتها بعد أن تواترت، منذ شهرين، أخبار تفيد وجود 32 حالة إصابة ب«السيدا» تتعاطى العلاج الثلاثي، في الوقت الذي ينفي مسؤولو الصحة في المنطقة وجود هذا العدد، ويتحدثون عن حالة إصابة واحدة تتكلف بها شبكة من الجمعيات.. «المساء» تنقل لكم شهادات «صادمة» عن الفيروس القاتل، وتقرّبكم من حالة مرضية جد متقدمة لأم لها ثلاثة أبناء، في الوقت الذي يتشبث الزوج بعدم حمله الفيروس. «راهْ عزلناها بُوحدْها ما بقى حتى واحد كايهضرْ معاها ولا يْقيسْها، كانعطويها الماكلة من البابْ ونمشيو فحالنا».. يحكي محمد، زوج مصابة ب«السيدا»، عن المعاملة التي تلقاها زوجته، بعد أن علمت الأسرة بحملها الفيروس الفتاك. لا حديث هنا في بومية سوى عن «السيدا».. بلغت حالة الهلع ذروتها وسط السكان، والفاعلون الجمعويون يدقون ناقوس الخطر قبل فوات الأوان، في ظل مخاوفَ من انتشار هذا الداء بشكل لا يمكن التحكم فيه. وفي الوقت الذي تسارع بعض الفعاليات المحلية إلى كشف المستور، فإن فئة أخرى كسرت، بدورها، جدار الصمت، بعد أن وجدت نفسها -بين عشية وضحاها- بدون «مورد رزق» ودون أن توفر لها الدولة البديل.. تقول حنان، وهي ترتعش من شدة البرد القارس: «يْعْطيوْنا لخدمة إيلا ما بغاوْش نفسْدو.. ويلا بْغاو يْحاربو الفَساد يْمشيو يْسدّو الرّوبينيات لكبارْ، أمّا حْنا راه غير عْيالات فنهار واحد يْساليوْ معانا».. تتفادى مجموعة من المومسات الحديث عن مرض «السيدا»، ويعتبرنه مجرّدَ فزاعة لمحاربتهنّ. «قطعو رْزقنا مْن الفساد.. إيوا يْعطيونا فاشْ نخدْمو، أما المرضْ راه درْنا التحليلة وما فينا والو».. تصرخ كوثر، 21 سنة، ممتهنة جنس دخلت في حالة «بطالة» منذ 20 يوما، بعد أن شنّت السلطات في جماعة «بومية» حملة تطهيرية ضد أوكار الدعارة في حي «جاج إغرم» العشوائيّ. تحمل صرخة كوثر من أجل «الخبز» في ثناياها جرحا عميقا لم يشأ أن يلتئم، في جماعة تفتقر إلى أدنى شروط العيش الكريم. يتهم أبناء المنطقة وافدات من خارج «بومية» بجعل «جاج إغرم» -أو ما يسمى هنا «السيكتور»- سوقا للجنس، فأعلنوها «حربا شاملة» ضد ممتهنات البغاء، في تجربة لا تختلف كثيرا عما عرف ب«اللجن الشعبية» في منطقة عين اللوح.. أسرة تحتضر الساعة تشير إلى حوالي الحادية عشر صباحا في جماعة «بومية».. تتوصل «المساء» بمعلومات تفيد وجود أسْرة أصيب فيها الأبوان بفيروس فقدان المناعة المكتسب «السيدا». ربطنا الاتصال، على الفور، من خلال فاعل جمعويّ قريب من الأسرة للتوسط من أجل إقناعها بإجراء لقاء مع «المساء». لم يتردد ربّ الأسرة ولو للحظة، وضرب لنا موعدا في الساعة الثالثة بعد الزوال. للوصول إلى مسكن الأسرة، الموجود في جبل يبعد عن «بومية» -المركز بثلاث كيلومترات، كان علينا أن نستقلّ سيارة رباعية الدفع لاختراق المسالك الطينية والجبلية الوعرة.. طوت السيارة مسافة الثلاثة كيلومترات بين مركز الجماعة ومسكن الأسرة في حوالي 20 دقيقة. استقبلنا محمد، زوج عزيزة المصابة ب«السيدا»، وعلامات الريبة ترتسم على وجهه، في الوقت الذي كان أبناء الأسرة يختلسون النظر من نافذة صغيرة تطل على الحقل.. «زوجتي مصابة بالسيدا، أما أنا فلا أحسّ بأي شيء يؤلمني»، يتحدث محمد عن حالته الصحية، ردا على «الإشاعات» التي ترُوج في المنطقة عن كونه مصابا بالمرض. عقد حاجبيه عابسا، ثم قال بحزم: «لقد أجريتُ تحاليل الكشف عن مرض السيدا هنا في بومية وكانت سالبة، وقد أجريت تحاليل أخرى في مدينة مكناس ولم أتوصل بالنتائج إلى حد الآن، لكنني، الحمد لله، بخير ولستُ مصابا». ينفي الزوج إصابة أي فرد آخر من الأسرة بالفيروس، ويؤكد أن التحاليل المخبرية التي أجريت على أفراد العائلة تؤكد عدم إصابة أيٍّ منهم بالعدوى، على اعتبار أن الزوجة كشفت حملها الفيروس قبل ثمانية أشهر، وقد «هجرها» الزوج بمجرد علمه بذلك، حسب التوضيحات التي قدّمها ل»المساء». تحوّلت حياة الأسرة الصغيرة إلى جحيم حقيقيّ بعدما انهار الجهاز المناعيّ للأم بشكل كامل.. افترشت الأرض وسط عزلة تامة عن باقي أفراد الأسرة، وتركت أبناءها الصغار يتألّمون في صمت، في انتظار من ينقذ والدتهم من مرض فتاك نهش جسدها النحيف، وقلب حياتهم رأسا على عقب.. الصّدمة بعد لقاء دام حوالي 20 دقيقة داخل غرفة مخصصة للضيوف، اقترحنا على محمد زيارة زوجته. طلب منا مرافقته إلى غرفة مجاورة تطلّ على الحقل. يخطو الزوج في تثاقل نحو «المعزل» المخصص لزوجته، وهناك كانت الصدمة التي تنتظر الزوار.. انتشرت الأورام بشكل مخيف على وجه الأم وباقي أطراف جسدها النحيف، بعدما فتك فيروس «HIV» بجهازها المناعيّ بشكل كامل. «الصّاحتْ إينو تراحي.. كولشي لا يْتحرّى» (فقدت صحتي وكل شيء يؤلمني).. تصرخ عزيزة، الأم المصابة ب«السيدا»، وهي تئنّ تحت وطأة الألم الشديد الذي أصاب مختلف أنحاء الجسد، بينما تناشد الأسرة المسؤولين التدخل لنقل الأم إلى المستشفى وإخضاعها للعلاج، حتى لا تنتقل إليهم عدوى الأمراض التي ألمّت بها جراء الفيروس الخطير. كابدت عزيزة آلام المرض، وتحدثت إلى «المساء» عن مسار اكتشافها الداء الفتاك بعدما أنهى المرحلة الصامتة «الكمون» ليدخل في مرحلة الإصابة ب«السيدا»، ويتسبب في التهاب رئويّ حاد استدعى نقلها إلى مستشفى مدينة مكناس، ثم إلى مستشفى الحسن الثاني في فاس، لتعود أدراجها نحو «بومية»، بعدما تدهورت حالتها الصحية بشكل سريع، دون أن تجد الرعاية اللازمة. تروي عزيزة، وقد امتلأت عيناها بالدموع، أنها توجّهت لطبيب في «بومية» إثر ظهور بثور على وجهها، لكن الطبيب امتنع، بعد أن أخضعها للفحص، عن أن يصف لها أيّ دواء، حيث طلب منها زيارة مستشفى الحسن الثاني في مدينة فاس. توجهت، بعد ذلك، إلى طبيب آخر، فطلب منها إجراء كشف بالأشعة في مدينة ميدلت، وهناك سيكتشف الطبيب وجود التهاب رئويّ حاد، تطلب إبقاءها في المستشفى.. ساءت حالة عزيزة وتم توجيهها، على عجل، نحو مستشفى محمد الخامس في مدينة مكناس، وهناك سيكتشف الزوج، بعد أن خضعت عزيزة لعدد كبير من التحاليل، أنها مصابة ب«السيدا»، والسبب، على حد تعبيرها، قلعها ضرس قبل ثمانية أشهر لدى صانع أسنان، ما أدى إلى نقل العدوى من مصاب خضع للعلاج بالأدوات نفسها التي لم يتمّ تعقيمها.. في محاولة لفهم سرعة فتك المرض بالجهاز المناعيّ لعزيزة، في ارتباطه بالسبب الذي تحدثت عنه، ربطنا الاتصال بمصدر طبي أوضح، بعد تقديم مجموعة من المعطيات حول الحالة المرضية المتقدمة لعزيزة، أن ظهور أورام والتهاب حاد في الرئة، إذا كان مرتبطا بشكل مباشر بمرض «السيدا»، فإنه يؤكد أن حملها الفيروس لم يكن خلال الأشهر القليلة الأخيرة، لكنها اكتشفته عندما وصل إلى مرحلة متقدمة، وبدأ يتسبب في أمراض أخرى. وأوضح المصدر ذاته أن الحديث عن انتقال الفيروس من خلال أدوات طبية غير معقمة قد يكون السبب المباشر لانتقال العدوى، لكنّ تاريخ الإصابة بالفيروس قد يعود إلى علاج جرى قبل سنوات. وشدد على ضرورة إخضاع أفراد العائلة، خاصة الزوج، لتحليلات دقيقة للكشف عن مرض «السيدا»، خصوصا بعدما أكد الزوج أنه لم يغادر فراش الزوجية إلا قبيل بضعة أشهر، حين اكتشف أن زوجته مصابة بالمرض.. العزلة القاسية منذ أن علم أفراد الأسرة بإصابة عزيزة بمرض «الإيدز» سادت حالة من الهلع داخل العائلة، حتى إنّ الكثير من الأقارب أنهوا علاقتهم مع الأسرة، مخافة انتقال المرض إليهم.. «نكدبو عليكْ، أولدي، خفنا من هادشّي، هاد المرض ديال السيدا راه صعيبْ، ما بقينا كاع نقرّبو ليهوم ولا نتكلمو معاها».. يحكي ابن عم الزوج، بذهول شديد، عن مرض لم يسمع عنه إلا في التلفزيون. يؤكد محمد أنه منذ أن علم بإصابة زوجته بمرض «السيدا» لم يعد يقترب منها كثيرا، ويتحدث إليها من باب الغرفة، على غرار باقي أفراد العائلة.. «خفنا، أولدي، مْن هاد المرض، ما بقينا قادّين نقرّبو ليها، عزلناها بُوحدها، وكانعطيوها الماكلة ونمشيو بْحالنا.. ما كاينشْ للي كاينعس معاها، ما كاينْ اللي كايقيسها، ما كاين للي كايجمّع ويْهضرْ مْعاها.. إيلا بْغات التلفزة كانعطيوهاليها ونمشيوْ».. يتم تقديم الطعام لعزيزة باستعمال القفازات، توضع بعد ذلك في ماء «جافيل» ويتم غسلها جيدا، قبل أن يعاد استعمالها مرة أخرى، فيما تم تخصيص مجموعة من الأواني للأم، حتى لا تنتقل عدوى مرض الرئة إلى باقي أفراد الأسرة.. بالنسبة إلى ابنة عزيزة فإنّ الاحتياطات التي اتخذتها الأسرة في تعاملها مع والدتها ليست من باب الخوف من مرض «السيدا»، بل فقط تجنّبا لانتقال عدوى مرض الالتهاب الرئوي الحاد. وفي المقابل، لا يتحدث الأب إلا عن مرض «السيدا»، وكلما سألناه عن مدى معرفته بطرق انتقال العدوى يجيب: «الصّراحة أولدي، ما عارفتشْ».. معاناة الأبناء «ما يتعنيتْ أيمّا؟» (كيف حالك، أمّي؟) يقول أمين، إبن عزيزة، الذي لا يتجاوز عمره الخمس سنوات.. تحكي عيون أمين حكايات.. لا تفارق الابتسامة محياه، ويُبقي الشوق إلى حنان الأم ذاكرته متّقدة. يحكي الزوج أنه بعد بضعة أيام من عيد الأضحى، تحوّل مسكن الأسرة إلى مأتم حقيقيّ، بعد أن دخلت عزيزة في حالة غيبوبة عميقة اعتقد معها الجميع أنها فارقت الحياة.. كان أفراد العائلة جالسين في غرفة فسيحة، فدخل أمين فجأة متجها نحو أمه.. قَبّل يدها فانصرف مطأطأ رأسه.. انهار الزوار بالبكاء.. «كان مشهدا جد مؤثر»، يقول الزوج، وصوته يرتجف ألما لحال زوجته. بعد تدهور الحالة الصحية للأم قرّرت ابنتها، التي التمست عدم الكشف عن اسمها، التوقف عن الدراسة، لتتكفل برعاية والدتها. كانت تدرس وقتها في القسم الثامن إعدادي، لكنّ المرض المفاجئ لوالدتها غيّر مسارها بشكل لم يكن في الحسبان.. «لم أكن أرغب في التوقف عن الدراسة، أنا أيضا لديّ طموحات أريد أن أحققها من خلال استكمال دراستي، لكنني لم أجد من سبيل غير التوقف عن الذهاب إلى الإعدادية لأنّ أمي في المقام الأول»، تقول الابنة بأسف شديد. لا تطالب الابنة المسؤولين عن القطاع الصحي بأكثرَ من التكفل بعلاج والدتها، ونقلها إلى مستشفى يليق بوضعها الصحي، لتفادي انتقال العدوى إلى باقي أفراد العائلة، خاصة الابن أمين، الذي لا يكفّ عن الارتماء في حضن أمه خلسة عن باقي أفراد الأسرة.. «سأعود إلى مقاعد الدراسة عندما تشفى والدتي من المرض، لكنني أتمنى أن نتلقى مساعدة من المسؤولين ليتم التكفل بها.. وأنا لن أتخلى عن والدتي مهْما كانت الظروف»، تؤكد ابنة عائشة بحرقة كبيرة، وتضيف: «لقد عرفت منطقة بومية، منذ سنوات، توافدا لمومسات من أجل ممارسة الدعارة، ما قد يكون سببا في استقدام مرض «السيدا» إلى المنطقة، ونقل الفيروس إلى أمي من خلال أدوات غير معقمة لدى صانع الأسنان».. شبح «السيدا» لا حديث بين سكان «بومية»، منذ بضعة أسابيع، إلا عن مرض «السيدا»، الذي أدخل الساكنة في حالة هلع حقيقية، بعد أن فجّرت بعض فعاليات المجتمع المدني رقما صادما يتعلق بوجود 32 حالة إصابة بفيروس فقدان المناعة المكتسب. وصل أثر الخوف الذي أصاب السكان إلى الحمّامات الشعبية وصالونات الحلاقة الخاصة بالرجال، حيث أبدى عدد من المواطنين تخوّفهم من إمكانية انتقال الفيروس عن طريق أدوات الحلاقة. وفي الوقت الذي تؤكد الفعاليات الجمعوية في الجماعة أن الرقم الذي تصرّح به صدَر عن مندوب وزارة الصحة في إقليم ميدلت، فإنّ رئيس الجماعة والمسؤولين عن قطاع الصحة الذين اتصلت بهم «المساء» للتأكد من عدد الحالات المسجلة نفوا وجود 32 إصابة، وأوضحوا أن الوزارة أجرت، قبل أسبوعين، مجموعة من التحاليل ل132 امرأة وكانت جميع النتائج سلبية، وكشفت الحالة الوحيدة الموجودة في المنطقة الجمعية المغربية لمحاربة السيدا. ربطنا الاتصال بحكيمة حميش، رئيسة الجمعية، للاستفسار عن مدى توفرها على معطى دقيق حول عدد الإصابات المؤكدة في المنطقة، فأجابت باستغراب شديد: «أنا تفاجأت بهذا الرقم الذي يتحدث عن وجود 32 إصابة بفيروس فقدان المناعة المكتسب.. على اعتبار أن الجمعية قامت في سنة 2012 بثلاث حملات للكشف عن الفيروس، وخلال كل حملة وقفنا على وجود إصابة واحد بالفيروس». واعتبرت حميش أنّ هذا الرقم لو جاء من منطقة كأكادير أو تيزنيت فيمكن أن تكون له قوة، لكنْ في منطقة الأطلس المتوسط فالفيروس ما زال في أولى مراحل الانتشار: «إذا تركونا نعمل، بتعاون وزارة الصحة، فإننا سنتمكن من حصر انتشار الفيروس، لأنّ العمل الأساسي هو ثقة الناس في العمل الذي نقوم به وبأهمية إجراء الكشف». نفى محمد وحيد، رئيس الجماعة القروية لبومية، بدوره، وجود 32 إصابة بالفيروس وشدّد، في حديثه إلى «المساء»، على أنّ الإصابة الوحيدة والمؤكدة هي لممتهنة جنس تدعى «فاطمة»، والتي تتكفل بها جمعيات المجتمع المدني، من خلال توفير الإقامة ومختلف المستلزمات لتجنب عودتها إلى ممارسة الدعارة. فاطمة.. و«صديقها» خلال لقائنا مع رئيس الجماعة القروية ل»بومية»، تحدث هذا الأخير عن «الصدفة» التي أدت إلى اكتشاف إصابة فاطمة، القادمة من مدينة مراكش، بفيروس «السيدا». قال وحيد إنه كان متوجها إلى مقر الجماعة فأثارت انتباهَه شاحنة مخصصة للكشف عن فيروس فقدان المناعة المكتسب، فصعد إلى الشاحنة للاستفسار عن سبب عدم إخباره بوجود هذه الحملة الطبية.. وتابع رئيس الجماعة قائلا: «بعد ثلاثة أيام، حضر مجموعة من المواطنين إلى مقر الجماعة ليخبروني بوجود سيدة تقول إنها مصابة بالسيدا، فتوجهتُ، بعد ذلك، رفقة بعض فعاليات المجتمع المدني، إلى السيدة المعنية، وعندما سألتها عما أخبرها به الطبيب بعد إخضاعها للكشف، أجابتني، ببراءتها: قال لي إنني مصابة بالسيدا».. تعرّضتْ فاطمة لضغط نفسيّ شديد، رغم مؤازرتها من طرف بعض الفعاليات المدنية والسياسية في المنطقة، لتخرج بعد بضعة أيام إلى الشارع وتدخل في حالة صراخ هستيرية، بسبب النظرة الانتقاصية لزميلاتها في «الحرفة» إلها، والعزلة التي تعرّضت لها إلى درجة منعها من دخول الحمّام العموميّ. حاولت «المساء» إجراءَ مقابلة مع فاطمة، غير أن الجمعيات التي تتكفل بها منعتنا من الوصول إليها، مُبرّرة منعها باستيائها من تحقيق صحافيّ نُشر سابقا في إحدى الجرائد، قالت إنه أساء إلى ساكنة المنطقة. لكن فاطمة سبق أن صرّحت للعديد من الفاعلين المدنيين والسياسيين، الذين التقتهم «المساء» بوجود 36 حالة إصابة بالفيروس تتعاطى العلاج الثلاثيّ. الخطير في الأمر هو عدم تحديد هوية عشرات الأشخاص الذين سبق أن مارسوا الجنس بشكل متكرر مع فاطمة، ومنهم «صديقها» الخاص، الذي أكدت فاطمة أنه حامل، بدوره، للفيروس، بناء على التحليل الطبي الذي قالت إنهما أجرياه معا في مستشفى في مكناس وأكد إصابتهما معا ب»السيدا».. لقطع الشك باليقين، ولمعرفة تفاصيلَ أكثر حول علاقة فاطمة بصديقها، التقت «المساء» هذا الشاب، الذي لا يتجاوز عمره 26 سنة، بعد وساطة من أحد المقربين منه.. نفى صديق فاطمة، بشكل قاطع، أن يكون مصابا ب»السيدا»، وقال بصرامة شديدة: «هي دارتْ التحليلة لقاوْ فيها المرضْ، وأنا قالي الطبيب احمد الله ما فيك والو.. درتْ فيها الخير وشوفْ فين وْلّينا».. ويتحدث صديق فاطمة، بحرقة شديدة، عن المعاناة التي تكبّدها جراء شيوع خبر إصابته بفيروس «السيدا» بين ساكنة بومية، إلى درجة أنه دخل في مشادة مع حلاق بسبب حديث هذا الأخير عن كونه حاملا للفيروس. «مّالين الدار مْخلوعينْ عْليّ، وأنا ما فيّ والو.. وليتْ مْعصّب غيرْ مع الناس، ما بغاوش يْعطيوني التيساعْ»، يردف صديق فاطمة، بامتعاض كبير. لا للعازل الطبي! ما يثير المخاوف بشكل أكبر في منطقة «بومية» هو أنه لا يتم استعمال العازل الطبي إلا بشكل نادر جدا من قبل زبناء «عاملات الجنس»، وهو ما يعني نقل المرض من ممتهنة الجنس إلى زبونها، الذي قد ينقله إلى ممتهنة أخرى غير مصابة به، أو إلى زوجته.. وفي مناطق قد تكون خارج «بومية»، خصوصا أن حي «جاج إغرم» كان يتحوّل في يوم السوق الأسبوعي إلى سوقِ جنس قائم بذاته، قبل عملية التطهير التي شنتها السلطات وجمعيات المجتمع المدني. كشف محمد وحيد، رئيس الجماعة، معطيات خطيرة اعتمادا على دراسة أنجزها قبل سنة من الآن على 100 عاملة جنس، من أجل التعرف على نسبة الزبناء الذين يستعملون العازل الطبي، حيث تم منح مجموعة من 50 ممتهنة للجنس عوازلَ طبية، والإبقاء على مجموعة أخرى دون منحها العازل الطبي. وقد كشفت هذه الدراسة أن المداخيل المادية للمجموعة التي قدّم لها الواقي الذكري لاستخدامه خلال العملية الجنسية قد تراجعت بشكل كبير بسبب رفض الرجل ممارسة الجنس باستعمال الواقي.. في الوقت الذي لم يتأثر مدخول المجموعة التي لم تستعمل العازل، «وبالتالي فالتحسيس هو الذي يمكن أن يعلب دورا أساسيا في الحماية من «السيدا» وباقي الأمراض»، حسب محمد وحيد. حرفتي: «عاهرة» الساعة تشير إلى حوالي الرابعة والنصف زوالا وسط حي «جاج إغرم» في جماعة «بومية».. مساكن من طين قد تنهار في أي لحظة، ونسوة جلسن القرفصاء بجانب أكواخهنّ، وسط ركود تامّ ل«تجارة الجنس».. لم يبق في «جاج إغرم» إلا الأطلال، بعدما شنّت السلطات حملة تطهيرية واسعة، أدّت إلى رحيل أكثر من 60 عاملة جنس بحثا عن ملاذ آمن، ولو إلى حين، ولم تبق في الحيّ إلا عبارة «منزل للبيع» على جدران أكواخ من طين.. وأكدت جميع من التقتهنّ «المساء» أن الحياة داخل هذا الحي، الذي كان بمثابة سوق حقيقيّ لتجارة الجنس، أصبحت «جحيما» حقيقيا، بعد أن قطعت السلطات مورد رزقهن الوحيد دون أن توفر البديل.. «ما بغاوشْ الفساد في البلاد، يْديرو لينا شي خْدمة... واشْ حنا عاشقينْ فالفسادْ؟ الله يْحسن لعوانْ.. إيلا كان فينا المرضْ يْشدّونا كامْلين».. تقول «فاطمة» وقد اغروقت عيناها بالدموع، وهي تحكي عن قصة حياة عنوانها الأبرز الفقر والهشاشة لفتيات في مقتبل العمر تُرِكن فريسة لمن ينهش أجسادهنّ النحيفة، بمقابل مادي قد لا يتجاوز في بعض الأحيان خمسة دراهم.. تحكي فاطمة كيف تسلمت «مشعل» الدعارة من أمها، التي كانت تشتغل «باطرونا» لمجموعة من «العاهرات».. هي الآن في عقدها السابع، لم تعد تقوى على العمل.. افترشت الأرض في زاوية مظلمة من البيت البسيط وتركت لعينيها أن تغازل دموع الألم، وهي تتحدث إلى «المساء» بحرقة شديدة: «ما يْدوم حالْ... هانا كنقرشلْ الصوفة باشْ نعيشو».. لجن شعبية؟ تتحدث جميع الشهادات التي استقيناها من بعض المومسات عن «جمعية محاربة الفساد».. تروي كوثر( 23 سنة) أن أعضاء هذه الجمعية قاموا، شنّوا حوالي 20 يوما، حملة تستهدف بيوت الدعارة في حيّ «جاج إغرم»، من خلال محاصرة المنازل والاتصال بالدرك لإلقاء القبض على ممتهنة الجنس وزبونها.. تتوقف كوثر، لتتحدث إلى والدتها، ثم تستطرد قائلة: «بعد أن بدأت الجمعية في حملتها ضدّنا حاولت أن أبحث عن ملاذ آخر.. ذهبت إلى منطقة «زايدة»، غير أنه تم اعتقالي والإفراج عني بعد يومين، لأعود إلى بومية لأقتات على ما تربحه أمي من بيع الصوف، في انتظار أن يفرّج الله عنا».. تركنا كوثر غارقة في وحل من الهموم، وتوجّهنا نحو منزل آخر، حيث التقينا «الزاهية» (30 سنة،) عاملة جنس قادمة من منطقة خريبكة، بعد أن أخبرت عائلتها أنها ستشتغل في حقول التفاح.. «أرسل لهم قدْرا شهريا من المال يغطي، ولو جزئيا، مصاريف علاج والدي، المصاب بسرطان الرئة»، تقول الزاهية.. «أعيش الآن في فقر مدقع، حتى إنني ما زلت إلى حد هذه الساعة (التي تشير إلى الخامسة مساء) لم أذق طعاما يُسكت جوعي!.. لقد أوقفوا مورد رزقنا الأساسي، الذي لم نلجأ إليه إلا بعد أن أغلِقت في وجوهنا جميع الأبواب، ولم نجد من مهنة توفر لنا مدخولا غير الدعارة... هل لهؤلاء بديل؟» تتساءل الزاهية بحرقة شديدة، وقد احمرّ وجهها الكئيب من شدة الانفعال، دون أن تجد جواب أو مجيبا. هجرة قسرية بعد الحملة التطهيرية التي تبنتها عدد من جمعيات المجتمع المدني، والتي انطلقت بأهداف توعية وتحسيسية، لتأخذ في ما بعد مسارا آخر في محاربة أوكار الدعارة، حسب الشهادات التي استقتها «المساء»، عرف حي جاج إغرم «هجرة جماعية» لمن نجونَ من الاعتقال.. في أحد الأحياء البعيدة عن «جاج إغرم» بحوالي 200 متر تقمص صحافي «المساء»، بتعاون مع أحد شباب المنطقة، دورَ باحث عن بائعة هوى، ليتحول في ما بعدُ إلى عضو في إحدى جمعيات المجتمع المدني، قادم من مدينة مكناس لمساعدة النساء في وضعية هشاشة.. بجانب محل لبيع المواد الغذائية تمر امرأة في حوالي الثلاثين من عمرها، يقول الشاب الذي التقيناه إنها عاملة جنس وما على صحافي «المساء» إلا أن يمر أمامها فيرسل إليها ابتسامة خاطفة تردّ عليها بابتسامة تؤكد تجاوبها مع «الطلب».. يقتفي صحافي «المساء» خطوات «زينب» داخل بعض الأزقة الضيّقة، قبل أن تلج منزلها وتترك الباب مفتوحا.. ندخل البيت بحيطة شديدة، قبل أن تستقبلنا زينب بابتسامة وهي تقول: «مرحبا بالضّيافْ دْيالنا».. المنزل عبارة عن غرفتين ومطبخ. أثاث بسيط ينمّ عن ضعف حال زينب، ورائحة نتنة تفوح من زوايا المنزل المظلم.. «أفضّل أن أتحدث إليك قليلا قبل أن أخرج لأشتريّ ما سنأكله»، يقول صحافي «المساء» لزينب، التي دخلت المطبخ لتعدّ كأس شاي ل»ضيفها». لكنها ردّت بصرامة شديدة تحمل نبرة من الريبة: «الدّخولْ والخْروج ما عندناشْ معاهْ.. جيتي مرحبا بيكْ ولكن ما تديرْ ليشْ المشاكلْ.. على ياشْ بْغيتي تهضرْ؟».. بعد أخذ وردّ، وحديث دام لأكثر من نصف ساعة، عمل خلاله صحافي «المساء» على إقناع صاحبة المنزل بكونه عضوا في جمعية لمساعدة النساء في وضعية صعبة، فتحت زينب قلبها وشرعت في كشف حقائق صادمة حول «تجارة الجنس»، التي تعدّ مورد رزقها الأساسيّ. قالت زينب، وقد جلست فوق حصير متسخ، إنها كانت، إلى عهد قريب، تقوم بأكثر من 20 عملية جنسية في اليوم الواحد، وهو الرقم الذي يرتفع يوم السوق الأسبوعي إلى حوالي 30 عملية أو أكثر.. إذ تبدأ ساعات «العمل» من الساعة السادسة صباحا إلى حوالي الخامسة أو السادسة مساء، حيث يكثر الإقبال من طرف بعض الفلاحين والشباب القادمين من الدواوير المجاورة لبومية.. وتتابع زينب، وقد ارتسمت علامات الأسى على محياها: «لا أعرف شيئا اسمه المتعة الجنسية، أنا مثل آلة تضع فيها النقود فتعطيك ما تريده، فأنا لا أرفض أيّ طلب يطلبه الزبون، لكنْ مداخيلي من الدعارة تراجعت كثيرا، بعد أن شدّدت السلطات والجمعية المراقبة علينا، إلى درجة أنني أجبِرت على تغيير المسكن مخافة أن يطالني الاعتقال». لم تعد مداخيل زينب من الدعارة تتجاوز -في أحسن الأحوال- 150 درهما في اليوم، حيث كشفت في حديثها إلى «المساء» أنّ أعلى مقابل مادي يدفعه الزبون لا يتجاوز خمسين درهما، أما المتوسط فهو ثلاثون درهما، وتؤدي من تلك المداخيل ثمن الأكرية ب600 درهم، وترسل إلى عائلتها المتواجدة في مدينة أبي جعد 1000 درهم شهريا.. لا يتفق علي مزوغ، الكاتب المحلي لحزب العدالة والتنمية في «بومية»، مع نهج أسلوب «الطرد»، إذ أكد أن طرد هؤلاء المومسات أو دفعهن إلى الهجرة إلى أماكن أخرى لن يكون الحلَّ الأنسب، وقد يكون سببا في نقل فيروس «السيدا» إلى أشخاص في مناطق أخرى.. وشدّد كاتب العدالة والتنمية المحلي على ضرورة نهج مقاربة سوسيو -اقتصادية تأخذ بعين الاعتبار الوضع الاجتماعيّ والاقتصادي لهذه الشريحة، والعمل بشكل جاد على خلق مشاريع مدرّة للدخل، لإنقاذهن من وضع الفقر والهشاشة، وأن يتحمل مختلف المتدخلين مسؤوليتهم في وضع حد للمأساة الاجتماعية التي يعشنها. فقر وابتزاز خلال الجولة التي قامت بها «المساء» في حي «جاج إغرم»، في محاولة للحصول على أكبر عدد من الشهادات، فجّرت إحدى ممتهنات الجنس «قنبلة» حين تحدثت عن تعرضها للابتزاز عندما تعرضت للاعتقال، حيث صرّحت بأنها اضطرت إلى دفع 2000 درهم ككفالة للمحكمة و7000 درهم كرشوة لمن اعتقلوها!.. وتتساءل «عاملة الجنس» -التي قالت ل»المساء» إنها من من ميسور- باستغراب شديد: «عْلاش ياخدو الفلوسْ ويْطلقونا؟ علاشْ ما يخلّيوشْ لينا دوكْ الفلوسْ؟ ياكْ كاع ما كنخرج مْعرّية؟ خرجت بالكبوط ديالي وشنقو عْليّ، نهار الأربعاء فاشْ خرجت نمشي للسوق، ودّاوني».. قام أبناء المدينة، في محاولة لإيجاد حلول «ترقيعية» كبديل عن امتهان الجنس، بمجموعة من المبادرات من خلال مساعدة بعض الممتهنات على إيجاد فرص الشغل، في محاولة لمواجهة الفقر المدقع الذي يضرب أطنابه في المنطقة، خاصة النساء في وضعية هشاشة، واللواتي يأتين من مناطق بعيدة من بومية للعمل في حقول التفاح، ثم سرعان ما ينحرفن نحو طريق البغاء. حياة علاوي، بطلة العرب في ألعاب القوى، نموذج المرأة الناجحة في المنطقة، والتي استطاعت أن تتحدى كل الصعاب والعراقيل التي تقف حجر عثرة أمام القطاع الرياضي والتنموي في الجماعة القروية لبومية، تتحدث بأسف كبير عن الأخبار التي يتداولها السكان حول انتشار مرض «السيدا» في المنطقة. في حديثها إلى «المساء»، أكدت حياة علاوي أنه «كانت هناك أحياء معروفة بالدعارة منذ زمن بعيد تأتيها نساء من مناطق خارج بومية لممارسة الدعارة، لكنّ انتشار مثل هذه الأمراض مرتبط بالأمية وأيضا بمستوى الفقر». وتابعت قائلة: «كبطلة من منطقة بومية، أتمنى ألا تبقى مثل هذه الممارسات وأن يتم الاستثمار في الطاقات البشرية التي تزخر بها المنقطة من خلال إنجاز مشاريع تحرّك عجلة الاقتصاد وتوفر الشغل لأبناء المنطقة وأن يتمّ، أيضا، الاستثمار في المجال الرياضي حتى نساهم جميعا في تطور بلادنا». أحلام وآمال بغد مشرق لجماعة التصق اسمها منذ سنوات ب»دعارة الوافدات»، لتترك ل»الكبار» أن ينهشوا ويفتكوا بخيرات بلدة تعتبر من أغنى المناطق الفلاحية في المغرب.. تركناها تئنّ تحت وطأة التهميش الفاضح، وفي طريق العودة، التقينا «كوثر»، التي همست بصوت متحشرج يُخفي شهقات مكتومة: «ما كاينشْ اللي كاتبغي تْبيعْ لْحمها، ولكنْ هذا قدَرنا.. والله كبيرْ».
الجمعيات لا تخبر السلطات
أثناء حديثنا مع محمد وحيد، رئيس الجماعة القروية لبومية، سجّل الأخير جملة انتقادات لبعض الجمعيات العاملة في مجال محاربة «السيدا»، والتي «تتستر بشكل سلبيّ على من يُحتمَل أنهن مصابات ب»السيدا» دون أن يتم إخبار السلطات للتكفل بهنّ»، يقول الرئيس، الذي يضرب مثالا بحالة «فاطمة»، التي يقول عنها: «من الخطأ أن نعرف أن هناك مصابة بمرض «السيدا» يتم إخبارها بالمرض دون التنسيق مع باقي المتدخلين، خصوصا أنها تمتهن الجنس» ويضيف: «سيؤدي تركها في الوضعية نفسِها، حتما، إلى نتائج غير محمودة». وشدّد رئيس الجماعة القروية لبومية على أن «إشكالية امتهان الجنس لا يجب أن يتم حلّها فقط من خلال الحملات التطهيرية ومحاربة الأوكار، بل يجب أن نجد حلولا سوسيو -اقتصادية، من خلال وضع بدائل تدرّ على هذه الفئة دخلا يوفر لها العيش الكريم». وبخصوص الواقع الصحي في المنطقة طرح رئيس المجلس النقصَ الحادّ في الأطر الطبية، حيث لا تتوفر الجماعة إلا على مركز صحيّ بسيط ودار للأمومة، تجري بجانبها أشغال بناء مستشفى متوسط لحل معضلة القطاع الصحي في المنقطة، المتموقعة في نقطة جغرافية إستراتيجية بين جماعات: زايدة، وتيزي نغشو، وتونفيت، وتنودري، وأغبالو، وآيت عياش.. «فهل سيتم إيفاد الأطر الطبية الضرورية إلى هذه المؤسسة؟» يتساءل رئيس الجماعة القروية لبومية.