في كل ناحية، وفي كل ناصية، وفي كل ركن، أصبح لابن عربي احتفالية، لم يعد العرب وحدهم من يقيم الندوات واللقاءات للشيخ الأكبر، بل تنافس في ذلك عجم الكرة الأرضية من إسبان ولاتين وبرتغال و فرنسيين وألمان، بل إن بعض اليابانيين وبعض الصينيين وبعض الهنود أصبحوا يشرئبون بأعناقهم جهة قطب الأقطاب، بعد أن اكتشف هؤلاء أن الرجل يصلح للمرحلة الراهنة، فلقد كانت دعوته للدين المحمدي دعوة شمولية خارج العرق واللون والملة، مادام أي دين توحيدي هو في حقيقته دين محمدي جاء القرآن الكريم ليشكل ناموسه. لكن أهم ما في دعوة محيي الدين ابن عربي، هو دعوته إلى دين الحب أو دين المحبة، وهي الدعوة التي يجد فيها عقلاء العالم، خلاصا من الحروب والدمار والشر الذي يتهدد الكوكب المظلم.. هكذا يمكن أن تجد مستعربة من ديانة يهودية تتحدث عن ابن عربي وكأنه ابن جلدتها، وتجد عالم دين مسيحي يشرح أهمية دعوة الرجل ونظرته البعيدة إلى الصراعات في العالم ،هو الذي عاش في عالم إسلامي ممزق على خرائط و حروب ونزاعات و»كلبنة»، ولتكون المحصلة نهاية الإمبراطورية الإسلامية وتفككها مثل انفراط حبات العقد الثمين. دين الحب، هو الدين الجديد الذي تحتاجه البشرية، بدل كل الويلات، وفي «الفتوحات المكية» و«فصوص الحكم»، و«الكتاب الكبير» وفي ديوانه البديع «ترجمان الأشواق» لم يتعب هذا الرجل الحكيم من الجهر بحكمته في وجه فقهاء الظلام وفي وجه المكبوتين سياسيا وفي وجه» عقول العصافير» من المتأولة الذين سلكوا أقرب الدروب لإخراسه بإعلان «تكفيره».. وهكذا انتهى فكر ابن عربي أو ابن العربي مهجورا منبوذا، وأصبح من يتبع طريقته مشكوكا في سلامة ملته، وخرج الرجل هائما على وجهه من بلاد المغرب الأقصى إلى بلاد الشام، وخاض أولى تجاربه «القلبية» وهي تجربة السياحة الروحية والجسدية في العالم وقراءة الكتاب الكوني الكبير في الليل والنهار وفي المشارق والمغارب، ليموت غريبا عن موطنه ،غريبا في قبره الدمشقي.. أو ما قيل أنه قبره. نسي ابن عربي من الذاكرة الثقافية العربية إلى أن جاء الإخوان المستشرقون أو المستعربون، جازاهم الله خيرا، وأعادوا تقديمه إلينا شارحين مفسرين ومترجمين في أعمال مبهرة لعل أهمها أعمال المستعرب هنري كوربان ودراسات المستعربين الكبار. اليوم يكاد يكون ابن عربي خيمة للتسامح، في ظلاله يأتي المختلفون كي يفكروا بهدوء، وفي نصوصه يمنح للجميع تلك الطمأنينة اللازمة،يغسل الحقد التاريخي المتراكم، ويؤسس جبهة أخرى للتحالف ضد الشر وضد الشيطان البشري. في العالم العربي، نتبع الموضة،موضة ابن عربي، ونتنازع بين من له الحق في التكلم باسم الرجل،وكأنه سجل تجاري ووسيلة للكسب وجلب الدعم..دون أن نتوقف قليلا لقراءته. أمضيت سنوات في قراءته، وقرأته جملة واحدة في فصل من فصول الشتاء الطويل، وأنا ألبس الصوف في منزلنا المهجور في عمق بادية دكالة، على ضوء الشموع ونباح الكلاب والصمت المتكلم.. ورأيت بعضا من حكمته أو ما توهمت أنه حكمة.. وكنت أقول مع نفسي.. هل الديالكتيك حالة صوفية؟