إذا كان المؤتمر الرابع للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المنعقد في يوليوز 1984، قد أتى ليحسم التناقض بين «الخط الانتخابي» و«الخط النضالي الديمقراطي»، فإن المؤتمر الخامس، المنعقد سنة 1989، أتى ليكشف عن تنامي تناقضات جديدة في صلب الحزب أشر عليها بوضوح صعود التيار «النقابي». إن الاطلاع على مقررات المؤتمر الرابع يكشف بالملموس المكانة المتميزة التي أضحت تحتلها المركزية النقابية: الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في حسابات الحزب، سواء في «التقرير السياسي» المقدم من طرف المكتب السياسي أو في «البيان العام»؛ ولم يكن دون دلالة أن يخصص المؤتمر الرابع «تقريرا» مطولا حول «النضالات الاجتماعية» أو أن يصدر «مقررا» حول الطبقة العاملة والمنظمات الجماهيرية، تحدث من خلالها عن «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل». تنطلق حسابات «الحزب» في تعامله مع «المركزية النقابية» تحديدا من موقفه من الطبقة العاملة. هذا الموقف ليس عفويا أو تكتيكيا أو مناسباتيا، بل هو موقف استراتيجي يستمد مغزاه وقوته من عمق تاريخية نضاله وعمق قناعاته وتصوره لصيرورة المجتمع المغربي وتطوره، وبالتالي فهذا الموقف يتأسس على «القناعة المطلقة بأن مصير مختلف القوات الشعبية الكادحة كان مصيرا مرتبطا بخضوعها للاستغلال وللقمع بجميع أشكاله ومرتبطا بنضالاته في هزائمها وانتصاراتها». لتفعيل هذه القناعة، كان ضروريا «التحرر» من جهاز بيوقراطي لا ديمقراطي حاول أن يفرغ نضالات الطبقة العاملة من محتوياتها، وبالتالي التصدي لتأسيس إطار نقابي جديد تستعيد الطبقة العاملة من خلاله زمام المبادرة، وهو ما مثلته «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل»، فَإذا كان قيام مركزية نقابية تقدمية من أكبر الأحداث السياسية والاجتماعية على الساحة المغربية لسنة 1978، فإنه بالنسبة إلى حزبنا ليس معنى ذلك إلا بداية مرحلة جديدة في المعركة أكثر صعوبة وأكثر ضراوة». هكذا، فميلاد «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل» لا يشكل انتصارا للطبقة العاملة المغربية فقط، بل هو أيضا انتصار للحزب داخل الحركة العمالية وتتويج لإرادته السياسية الصلبة ولتحليلاته الدقيقة ولفهمه العميق للقوانين المجتمعية التي يخضع لها سير وتطور الحركة العمالية المغربية، وهو تحليل إن كان يستمد إطاره النظري من منظوره الاشتراكي العمالي، فهو أيضا ناتج من تجربته النضالية الواقعية في الساحة المغربية. إن وجود الحزب في قيادة المركزية النقابية يطرح عليه مهاما أساسية، أولاها «المساهمة مع جميع الفئات العمالية النقابية كيفما كانت انتماءاتها السياسية والإيديولوجية في تعميق النضال الاقتصادي والاجتماعي من أجل الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة ولانتزاع مكاسب جديدة»؛ وثانيتها «دور التوعية والصراع الإيديولوجي»؛ وثالثتها «الدفاع عن استقلالية المركزية النقابية ووحدتها». إن هذه المهام الأساسية تدفع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الإعلان عن رفضه ومحاربته ل«النزعة التي تريد أن تجعل من النقابات أجهزة تابعة للحزب، ومن ثمة فهو يؤكد أن العلاقات التي يجب أن تقوم بين الحزب والنقابة هي علاقة يجب أن تؤسس وتبنى على الاستقلال: استقلال الحزب عن النقابة والنقابة عن الحزب في إطار التضامن الوثيق والتضامن النضالي الواسع»، (مقررات المؤتمر الوطني الرابع للاتحاد الاشتراكي، يوليوز 1984). إذا كان «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» يدعو إلى الدفاع عن استقلالية العمل النقابي، فإنه في الممارسة كان من الصعب التمييز بين الإطارين النقابي والحزبي بفعل وجود القيادة «النقابية» ضمن القيادة «الحزبية». إن «ازدواجية» الموقع ستجعل التيار النقابي ينمي ويراكم رأسماله «الرمزي» في مواجهة القيادة غير النقابية، وسيزداد التداخل بفعل سلوك السلطة القائمة والتي لم تميز بين «الحزب» و«المركزية النقابية»، خاصة عقب أحداث 20 يونيو 1981 بالدار البيضاء. ساهم عاملان أساسيان في «تجذير» مواقف التيار النقابي: الأول مرتبط بالصراع حول تمثيلية الطبقة العاملة في مواجهة المركزيات النقابية الأخرى؛ والثاني متعلق بموازين القوى داخل الحزب. بالنسبة إلى العامل الأول، كان هناك جدل حول مفهوم وحدة الطبقة العاملة، حيث اختزل المفهوم في وحدة الإطار النقابي الذي كان يمثله «الاتحاد المغربي للشغل». لقد رفضت أحزاب أخرى تأسيس إطار نقابي جديد وفضلت العمل من داخل الإطار القائم والعمل على دمقرطته من الداخل، في حين آمن «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» بأن إمكانية تعديل موازين القوى داخل الإطار النقابي القائم غير ممكنة في ظل ممارسة نقابية استحكمت فيها نزعة بيروقراطية لاديمقراطية، ف«المركزية النقابية القديمة، التي ولدت في الأيام الأولى للاستقلال السياسي بعد بضع سنوات من النشاط الذي يكتسي في غالب الأحيان طابع الإثارة أكثر مما يأخذ بعين الاعتبار المطالب المشروعة والملحة للعمال، أسقطت قيادة المركزية الأولى في البيروقراطية الأكثر انغلاقا والأكثر تخلفا»، (تقرير المكتب السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني الخامس لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية). إن تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل «أتى ليعيد بناء وتعزيز وحدة الطبقة العاملة في إطار ديمقراطي يعبر بحرية عن إرادة المجتمع بعيدا عن البيروقراطية والاستبداد وكل أشكال الولاء أو الفساد». لقد كانت «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل» في سياق تبرير وجودها من خلال الصراع حول تمثيلية الطبقة العاملة في مواجهة المركزيات النقابية الأخرى، خاصة «الاتحاد المغربي للشغل» مضطرة إلى تجذير مواقفها. أما بالنسبة إلى العامل الثاني المتعلق بموازين القوى داخل الحزب، فرغم الأهمية التي أولاها المؤتمر الرابع في مقرراته للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، فإن رموز التيار النقابي لم يمثلوا داخل «المكتب السياسي» واقتصر حضورهم على «اللجنة الإدارية الوطنية»، ونذكر منهم «أحمد الحصيني» و«عبد الرحمان الغندوري» و«الطيب منشد» و«حسين الكافوني» و«عبد المجيد بوزوبع» و«عبد الرحمان شناف» و«محمد نوبير الأموي». إن إقصاء رموز «الخط النضالي الديمقراطي» يوم 8 ماي 1983 وتكريس «الخط الانتخابي» في المؤتمر الرابع في يوليوز 1984، سيدفع «التيار النقابي»، بفعل ما راكمه من «رأسمال رمزي» بفضل إضراب يومي 10 و11 أبريل 1979 وإضراب 20 يونيو 1981 وفي إطار موازين قوى مستجدة، إلى محاولة لعب دور «المعارضة» داخل الحزب بانتقاد «الخط» الذي انتهجه الحزب منذ مؤتمره الرابع. في هذا الإطار، إطار تصاعد طموحات التيار النقابي، سينعقد المؤتمر الوطني الخامس للاتحاد الاشتراكي. لقد سجل المؤتمر الخامس المنعقد يومي 30 و31 مارس وفاتح وثاني أبريل 1989 صعود التيار النقابي بامتياز، وذلك من خلال مؤشرين: المؤشر الأول ذو طبيعة سياسية يتمثل في قيام «نوبير الأموي» بانتقاد أداء الفريق النيابي للحزب في تدخله أمام المؤتمر وتنديده بالمنافسات الشخصية التي أثرت سلبيا على توجهات الحزب.. انتقاد وتنديد أدرك «عبد الرحيم بوعبيد» أنهما موجهان إليه، مما اضطره إلى مغادرة القاعة؛ والمؤشر الثاني ذو طبيعة تنظيمية يعبر عن نفسه من خلال دخول رموز التيار النقابي ولأول مرة إلى المكتب السياسي، فبعد انتخاب أعضاء «اللجنة المركزية» التي عوضت «اللجنة الإدارية الوطنية» والمتكونة من 102 عضوا، اجتمعت هذه الأخيرة يوم 22 أبريل لتنتخب «مكتبا سياسيا» من 13 عضوا، حيث غادره عضوان هما: عبد اللطيف بن جلون ومولاي المهدي العلوي، ودخله ستة أعضاء جدد، من بينهم ممثلان للتيار النقابي وهما: «نوبير الأموي»، الكاتب العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ونائبه عبد المجيد بوزوبع.