بالأمس (يقصد الاثنين) أخبرنا سيلفيو برلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، بأن فرنسا أرسلت طائراتها لقصف مواقع في ليبيا قبل صدور قرار مجلس الأمن الدولي، وبالغت في تضخيم نزاع محلي لتبرير تدخلها هذا، واليوم (يقصد الثلاثاء) تقول لنا وكالات الأنباء العالمية إن الطائرات الفرنسية تقصف ولليوم الثالث على التوالي مواقع لمتمردين إسلاميين في مالي، وأرسلت المزيد من القوات إلى العاصمة باماكو في انتظار وصول قوة من دول غرب إفريقيا لطرد المتمردين المرتبطين بتنظيم «القاعدة» في شمالي البلاد. تدخلوا في أفغانستان فمزّقوها جغرافيا وديمغرافيا، وقتلوا الآلاف من أهلها؛ وغزوا العراق واحتلوه وأدخلوه في صراع طائفي، وشتتوا الملايين من أبنائه، وهجّروا طبقته الوسطى، وحوّلوه إلى أكثر بلدان العالم فسادا؛ ثم أكملوا مخططهم بقصف ليبيا واليمن؛ ويدعمون بقوة الانتفاضة في سورية. قالوا لنا إن تدخل حلف الناتو عسكريا في ليبيا جاء لمنع مجزرة، وإطاحة طاغية، وترسيخ الاستقرار، وبناء دولة حديثة وقطع دابر الفساد؛ نقول لهم هذا كلام باطل، فالطاغية كان صديقكم، والفساد كان وسيظل طريقكم لنهب ثرواتنا الطبيعية والمالية، فليس صدفة أن الدول التي تدخلتم فيها، وهي العراق وأفغانستان والصومال وليبيا، تحتل المراتب الأولى على قائمة الشفافية الدولية المتعلقة بمعدلات الفساد في العالم. التدخل في أفغانستان جاء لمحاربة تنظيم «القاعدة» واقتلاع جذوره، فازداد التنظيم قوة وترسخا بغزو العراق، وفتح القصف الجوي لليبيا وإطاحة النظام فيها الباب على مصراعيه للتنظيم الجهادي للتربع على ترسانة أسلحة من كل الأنواع والأحجام، والسيطرة على منطقة الصحراء الإفريقية، واستيلاء أنصاره على شمالي مالي وإقامة دولة «أزوادستان» فيها، بدعم من الجماعة الجزائرية للدعوة والجهاد، أحد فروع «القاعدة» في المغرب الإسلامي. أليس غريبا أن جميع هذه التدخلات والغزوات العسكرية لدول حلف الناتو تتم في دول إسلامية وتستهدف شعوبا إسلامية بالقتل والتشريد والفقر والمجاعة، ابتداء من الصومال ومرورا بأفغانستان والعراق وانتهاء بدولة مالي؟ يبررون هذا التدخل العسكري الدموي في مالي بأنه جاء من أجل مقاومة تنظيم «القاعدة».. تنظيم «القاعدة» لم يكن موجودا في ليبيا ولا العراق قبل غزو البلدين، بل ما حدث هو العكس تماما، أي أن التنظيم وتفرعاته المختلفة جاء إلى البلدين وعزز وجوده بعد هذا التدخل. ما نريد أن نقوله أن ما يجري حاليا هو عودة للاستعمار القديم تحت عناوين ومسميات مختلفة، تارة لتغيير أنظمة ديكتاتورية، وتارة أخرى لفرض قيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان. السيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، ذهبت إلى الجزائر على أمل إقناع حكومتها بالتدخل عسكريا لإنهاء الوجود الإسلامي الجهادي في مالي، أي إغراقها في حرب استنزاف دموية ومالية لسنوات قادمة، ولكنها رفضت القيام بهذه المهمة المشبوهة، ولا نستغرب أن تتعرض لعقاب مدمّر جراء هذا الرفض. النفط هو عنوان كل التدخلات العسكرية الغربية في دول العالم الإسلامي، والتدخل في مالي لن يكون استثناء. صحيح أن مالي فقيرة في النفط، ولكنها مجاورة لأكبر حقول النفط والغاز في إفريقيا، أي في الجزائر ونيجيريا، مضافا إلى ذلك احتواء أراضيها على مخزون كبير من اليورانيوم والمعادن الأخرى الثمينة، ماليا واستراتيجيا. فشلوا في تفجير ثورة في الجزائر، ليس لأن نظامها نموذج في الديمقراطية والعدالة، وإنما لأن الشعب الجزائري خسر مائتي ألف إنسان في حرب أهلية استمرت قرابة العشر سنوات، ولم يعد يحتمل حربا أهلية أخرى يتخلى عنه فيها الغرب ويتركه لمصيره، مثلما حدث في الحرب الأولى ولمصالحه أيضا. الجزائريون كانوا حكماء، ولكنها حكمة تواجه اختبارا عسيرا ومصيريا، فالتدخل يأتي حاليا من الباب الخلفي الجنوبي، المكان الذي لم يتوقعوه مطلقا. أمريكا، التي تتنافس بشراسة مع الصين للسيطرة على إفريقيا وإقامة قيادة عسكرية خاصة لإدارة الصراع عليها تحت اسم «أفريكوم»، سارعت إلى تأييد التدخل العسكري الفرنسي في مالي ودعمه، وعلينا أن نتوقع أفواجا جديدة من طائرات بدون طيار (درونز) لتقوم باصطياد الإسلاميين المقاتلين وغير المقاتلين، تماما مثلما يحدث في أفغانستان واليمن. فرنسا ستواجه المصير نفسه الذي واجهته أمريكا في العراق وأفغانستان، ولا نستبعد نتائج أسوأ، لأن التدخلات العسكرية الغربية في القرن الواحد والعشرين لم تعد سهلة وميسّرة وغير محفوفة المخاطر على غرار مثيلاتها في مدخل القرن العشرين. منطقة الساحل الإفريقي ستتحول إلى منطقة فوضى دموية، لأن الجماعات الجهادية التي تنتقل في ثنايا صحاريها مسلحة حتى النخاع، بفضل «الذكاء» الغربي المتمثل في التدخل عسكريا في ليبيا، حيث خرجت هذه التنظيمات الرابح الأكبر منه، وحصلت على أسلحة لم تحلم في حياتها بالحصول عليها، بحيث بات سعر البندقية الآلية من طراز كلاشينكوف لا يزيد على عشرين دولارا في أفضل الأحوال. فرنسا ذهبت إلى مالي تحت ذريعة القضاء على تنظيم «القاعدة» ومنعه من إقامة قاعدة له قريبة من سواحلها، ولكن هذا التدخل قد يحقق للتنظيم الجهادي ما لا تريده فرنسا وتحاول منعه، والأخطر من ذلك «تثوير» بعض الخلايا النائمة له داخل فرنسا نفسها والإقدام على عمليات «إرهابية» على غرار عملية محمد مراح في مدرسة تولوز الفرنسية اليهودية. السؤال هو: إلى متى سيظل العرب والمسلمون أرضا مشاعا للتدخلات العسكرية الغربية للهيمنة على ثرواتهم تحت أعذار ومسميات عديدة؟! اليوم يخوضون حربا ضد التنظيمات الجهادية في مالي وإقليم الصحراء، فهل يتكرر السيناريو نفسه في سورية قريبا تحت عنوان محاربة جبهة النصرة الجهادية والجماعات الأخرى المشابهة لها؟ تذكروا هذا الكلام جيدا! عبد الباري عطوان