يتنادى اليوم في المغرب صوتان، صوت يقول إن الشعبوية حق مكتسب للجميع، ويمكن للفرقاء في السياسة وفي غيرها استعماله متى شاؤوا وأنى بدا لهم الأمر، وصوت يقترب من تحريمها، وكأنها لحم جيفة لا يجوز الاقتراب منه، ودليله في ذلك أن الأفكار الشعبوية أفكار هدامة، تزعزع الفرد وتهدد ربما الأمن العام وسلامة الأجواء وتلعب على وتر الفتنة النائمة، وشعار هذا الفريق «لعن الله من أيقظ الفتنة النائمة». الطريف في هذه المعادلة أن الشعبوية هي، إذا جاز لنا التعبير، امرأة جميلة ولعوب، وهي معشوقة السياسيين وهواهم المفضل في الانتخابات وفي التجمعات الخطابية الحاشدة، وهي من يخطبون ودها في صناديق الاقتراع، وهم يعرفون حق المعرفة أن الطريق إلى قبة أو ناصية مجلس بلدي أو جهة لا بد أن يمر من بيت الشعبوية وغرفها السرية. بطبيعة الحال، يحدث أن يتضرر شعبيون من شعبويين، وأن يقضي غلاتها على وسطييها، وأن تظهر في ذلك مذاهب في مدح الشعبوية وتعداد أفضالها، ومذاهب أخرى في ذمها والتحذير منها ومن آثارها على الحاضر ومستقبل الأجيال، وربما من احتمال تأثيرها حتى على الغلاف الجوي وطبقة الأوزون. متى ظهر الخطاب الشعبوي ومن هو أول من ابتكره؟ لا أحد يعلم، ولكن لماذا يكون حراما هنا وحلالا هناك؟ أليس العمل السياسي هو فن التواصل مع الجمهور الواسع والتعبير عن أحلامه وقراءة ما يدور في عقله والذهاب به في اتجاه ما يريده؟ إذا كانت هذه هي الشعبوية، فإنها، من هذه الناحية، هي التطور الأرقى للعمل، سواء كان سياسيا أو اجتماعيا أو ثقافيا أو فنيا. الشعبوية هي ضد النخبوية، لأنها تنسف من الجذور الدعامات التي يقوم عليها الخطاب النخبوي، القائم على الترميز والمبالغات في الإشارات والالتزام بقانون سير يخفي الرياء والنفاق السائد داخل الطبقة السياسية. ولذلك، حين يتمدد الخطاب الشعبوي في الشارع فإنه يكنس المنضدة من الأساس، ويقرع الجرس منبها إلى بوار ما تردده هذه النخب في الأحزاب من كلمات كبيرة فضفاضة ومن قراءات سخيفة للواقع، وينتهي الأمر إلى ركن اللغة الخشبية في كراج المتلاشيات. الشارع المغربي يطمح إلى من يصارحه بلغة جديدة وواضحة، وإلى من يرسم له مخرجا من الوضع الذي تسميه التقارير الاقتصادية ب»الأزمة»؛ فهذا الشارع، الذي يشكل الشبابُ قاعدَته العريضة، هو في حاجة ماسة إلى حوار من طبقة معينة وبوقع حار، حوار قريب من القلب ومن الأذن، وسريع النفاذ، يتوسل بما تتيحه الثورة التواصلية من إمكانات، ويخرج قليلا من رطوبة مقرات الأحزاب وكراسيها المهترئة وجوِّها المدخن إلى فضاءات أخرى. اليوم، الكائن الحزبي، بالمعنى الحرفي، يتضاءل ويتراجع أمام كائنات أخرى، أين هي الشبيبات الفوارة داخل التنظيمات الحزبية والنقابية والمدنية؟ لماذا لا تستطيع تنظيمات حزبية، تقول عن نفسها إنها تضع الشباب في المرتبة الأولى من اهتمامها، النفاذ إلى الطبقة العميقة من جلد المجتمع؟ أين هذه الجحافل العريضة من الشباب الموجودة في الشارع وفي نواصي المقاهي وفي مدرجات الملاعب وفي أماكن أخرى من خطابات وبرامج من يهاجم الشعبويين ويحذر منهم ويدعوهم إلى التخلي عن مخاطبة الناس باللغة التي يحبونها والتي يفهمونها والتي فيها يجدون مغربيتهم؟ التحذير من الشعبوية ومن مخاطرها ينطوي، في عمقه، على دعوة صريحة إلى جعل السياسة والشأن السياسي «قطاعا خاصا»، والإمعان قدما في عزل الجمهور -حتى لا نقول الجماهير، لأن هذه الكلمة بدورها شعبوية أكثر من اللازم- عن الاهتمام بالشأن العام، ولذلك تجد الجبهة المناهضة للشعبوية مستعانها في الانضمام إلى الجوقة الصغيرة التي تقول إن الشعبوية يجب أن تكون «مقننة» وعلى المقاس، وأن تصبح حتى هي «حكرا» على من يتقنها ولا يلعب بنارها، وأن اللعب على الأوتار الحساسة للشارع يمكن أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. وهي الجوقة نفسها التي تخرج مدافعها في فترات الانتخابات، مستعيرة قناع الشعبوي، ومتشكية من أن انصراف الناس عن السياسة ومن انسداد شهيتهم للذهاب إلى صناديق الاقتراع، داعية إلى تنويع الأطباق وتنويع الوعود والإغراءات حتى وإن كانت من مرق الشعبوية، ولسان حالهم يقول «الشعبوية لنا لا غيرنا».