في مذكراته «متهم حتى تثبت إدانته»، يحكي الصحافي خالد الجامعي كيف ارتمى في عالم الصحافة تاركا جَمل وزارة الثقافة، التي كان يشتغل في ديوان وزيرها، بما حَمل، متنازلا عن السيارة والتحية العسكرية التي كانت «تُقرقب» له كل صباح. ذات صباح من ماي 1973 سيقتاد الجامعي معصب العينين من مقر «لوبينيون» نحو المجهول، والتهمة: نشر صورة لطفل، لم يكن غير الأمير مولاي رشيد، إلى جانب بدويات يفترشن الأرض. في «متهم حتى تثبت إدانته»، التي تنشرها «المساء» على حلقات، فصول مشوقة حتى الإيلام لصنوف من التعذيب، ومفارقات بالجملة لوجوه كانت تعبر زنزانة خالد الجامعي، طيلة ستة أشهر من اختطافه، فيما هو ينتظر الذي يأتي: الجلادون، والذي لا يأتي: الفرج. وبين كل «علقة» وأخرى يردد ما أوصاه به والده بوشتى الجامعي: «إذا اعتقلوك يا بني فتماسك، واحذر أن تتخاذل أبدا». في «متهم حتى تثبت إدانته» نتعرف على شخصية خالد الجامعي التي تجمع بين كارل ماركس وعلال الفاسي، على ما بينهما من تناقض. ويتوصل خالد الجامعي، أخيرا، إلى أن اعتقاله لم يكن بسبب صورة الأمير الصغير، بل بسبب اقترابه من شخصين مسجلين خطر: أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي. لما كنت معتقلا في تلك الكوميسيرية الملعونة، كان تفكيري محصورا دائما في أسرتي. كنت أتخيل الرعب الذي كانت تعيشه باستمرار، وأتساءل حول ما إذا كانت معاناتها أفظع وأضعف من معاناتي. فقد حكت لي زوجتي فيما بعد عن ذاك الجحيم الذي كانت تتلظى بلهيبه يوميا. جحيم الاستنطاقات، والتساؤلات، والضغوطات، والشكوك، والحيرة، والإشاعات، وخيبات الأمل في أولئك الذين كنا نعدهم من الأصدقاء الحميمين المعول عليهم في ساعة العسرة، فإذا بحقيقتهم الجبانة تنكشف عند أول امتحان. بعضهم تنكر لزوجتي تنكرا كاملا وأصبح يشيح عنها بوجهه كلما صادفها في الشارع وكأنه لم يعرفها في حياته قط. وبعضهم كان صريحا على الأقل، فاعترف بخوفه من المخزن وصرح بكل بساطة بأنه لا يرغب في المخاطرة بمستقبله من أجلنا. أما منتهى الجبن والجحود، فقد عرفته من إدارة جريدتنا الغراء ... ذلك أنه لولا تدخل صديق لصالحي في نهاية كل شهر، لكانوا قطعوا راتبي الهزيل ولبقيت أسرتي الصغيرة تحت رحمة العوز والخصاص... مقابل هذا، كم من نساء ورجال قاموا في تلك الظروف العصيبة بمبادرات كانت في منتهى الكرم والشجاعة؟. بعضهم تستر بجنح الظلام ليظل مجهولا ليعبر عن تعاطفه ومساندته إما بقفة مملوءة بكل ما تحتاج إليه الأسرة، وإما بمبالغ مهمة جدا من المال. وبعضهم أتى جهارا نهارا وصنع الجميل دون مواربة أو من. أذكر من هؤلاء، الأخ و. م. من مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالرباط، الذي جاء لمساندة أسرتي ماديا ومعنويا باسمه واسم منظمته. وكذا قلة قليلة من الأصدقاء والصديقات الذين ظلوا ثابتين على الوفاء والعهد، من أمثال الأخ مصطفى القوبي، والأخت ثريا السراج، اللذين لم يمنعهما لا انتماؤهما إلى وزارة الإعلام، ولا تلك الحراسة البوليسية التي كانت مضروبة عليهما ولا الضغوطات التي كانا يتعرضان لها، من الوقوف إلى جانب أسرتي وقفة الشرفاء النبلاء... لقد كانت الشجاعة حقا عملة نادرة جدا في سنوات الجمر والرصاص... سنوات عاشت خلالها عائلات المعتقلين والمختطفين والمحتجزين من الويلات والمعاناة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر... وقد أثر ذلك تأثيرا بليغا في نفوس أبناء الضحايا، تأثيرا شنيعا ظل محفورا بسكين المرارة والفجيعة على قلوبهم الصغيرة إلى اليوم... أجل... لقد كانت أمهاتنا وزوجاتنا فارسات شجاعات بالحق والحقيق... ثلاثون سنة بعد ذلك أربع وثلاثون سنة ونيف مرت على هذه الأحداث... أحسست بحاجة ملحة لتدوينها في شكل شهادة حية للأجيال الناشئة، لعلني أفلح في المساهمة بتسليط ولو شيء من الضوء على تلك السنوات الجهنمية التي مرت علينا كما يمر الريح الصرصر الذي لا يبقي ولا يذر. سنوات شديدة قاتمة عصيبة، قدم فيها البعض منا حياته قربانا للكرامة والحرية، وخرج منها البعض الآخر بإعاقة نفسية أو جسدية لازمته إلى الأبد. كما أود من خلال هذه الكتابة كذلك، أن أشير إلى أنه في قلب الرباط النابض، أي بجوار ساحة «بييتري» المشهورة بسوق نوارها الجميل، كان يقبع مركز رهيب للتعذيب، يشبه في بشاعته معتقل جماعي نازي. مئات المرات قبل اعتقالي فيه مشيت بمحاذاة أسواره دون أن أسمع صراخ المعذبين واستنجادات الهالكين... وأعترف اليوم، أني كلما مررت بجواره إلا وسرت في جسمي رعشة باردة وأنا أتذكر سوء العذاب الذي خضع له أولائك الإخوان المجهولون الذين دفنوا فيه أحياء. لقد كانت الكوميسيريات أمثال تلك، أشبه شيء بمعتقلات نازية مصغرة كان البوليس فيها يتصرف تصرف الأباطرة، يفعل ما يشاء، وقتما شاء، ومع من شاء، دون حسيب أو رقيب، ما دام القانون كان ملغيا وما دام كل شيء كان مباحا ممكنا كما قال جيورجيو أكامبين في كتابه «إمكانيات بلا حدود»: «أشخاص جردوا من كل إطار قانوني وحولوا مطلقا إلى مجرد حياة عارية». أجل، لم يكن أمام النظام القائم سوى حياة بيولوجية صرفة بدون أدنى وساطة، حيث كانت كل التجاوزات محتملة، والخروقات واردة، والجرائم ممكنة. وتبعا لكل هذا، فقد كانت تلك الكوميسيريات عبارة عن محميات وضعت خارج تغطية النظام القانوني العادي لجبرها على الاشتغال بآليات قوانين حالة الاستثناء. لقد أردت في كتابتي هاته أن أتسلح بأكبر قدر من الموضوعية، علني أتوفق في حكي الماضي كما كان. فإن كنا نريد حقا أن نبني دولة الحق والقانون، فإن الأمانة التاريخية تحتم علينا أن نتبع في كل ما جرى من فظاعات، سلسلة الأوامر والتعليمات، حلقة حلقة، حتى نتمكن من وضع أصبعنا على موضع الخلل، ثم نقوم بتحديد المسؤوليات، لنبدأ بعد ذلك ببناء الحواجز الراسخة، وتركيب الآليات الناجعة، للحيلولة دون الوقوع مرة أخرى في تلك الانحرافات الآثمة والرجوع مجددا إلى تلك الممارسات البائدة المجرمة. إن ماعاناه آلاف المواطنين والمواطنات من تعذيب رهيب، وما بذلوه من تضحيات جسام في سبيل فرض الحق في التعبير والحق في الاختلاف، حرام وعار علينا جميعا أن يذهب أدراج الرياح... فلا يمكننا بتاتا أن نطوي صفحات تاريخنا كما يحثوننا على ذلك دون أن نقرأها قراءة متملية مستفيضة رغم كل ما سنشعر في أثناء مراجعتها من قسوة ومرارة وألم. ونحن إن لم نفعل ذلك، فسوف «نسعد» مجددا لا قدرالله ببروز العديد من تزممرات وقلعات مكونة ودارات المقري ودروب موالينا الشرفاء... وما ذلك سوى لأن الشعوب التي تبادر إلى إسدال ستار النسيان على ماضيها، فهي شعوب تسارع إلى رهن مستقبلها إلى الأبد. إن اعتقالي لم يدم سوى شهور معدودة، وهذه الشهور قد تبدو هباء بالمقارنة مع ما عاناه العديد من الأصدقاء. غير أن التعذيب والاهانة والألم يحولون كل دقيقة من عمر الضحية إلى أبدية. توضيح أخير: أنا، من الناحية القانونية، لم يطلق سراحي بعد، والسبب هو أنني من الناحية القانونية كذلك، لم يسبق لي أن اعتقلت قط... حلل وناقش... ترجمة- أحمد المرزوقي