إن السياق شرط للكلمة. إنها الكلمة التي تميز بين «المشروع» والصفقة، بين التدبير والتبذير، بين التنمية وهدر المال العام، بين الظلم والعدل، وبين الاستقلال والتبعية. كتب الصديق يحيى اليحياوي في العدد 1923 من جريدة «المساء» ليوم الجمعة 30 نونبر 2012 مقالا تحت عنوان «فن المشاريع الكبرى عديمة الجدوى» ليؤكد، من خلال الإحالة على مقال آخر بالعنوان نفسه للصحفي ألن ديفاليو بمجلة «لوموند دبلوماتيك» الشهرية، عدد غشت 2012، أن مشروع القطار فائق السرعة الذي سيربط بين مدينتي طنجةوالدارالبيضاء «قد أخطأ الهدف حقا وحقيقة، وجانب الصواب والواقعية في توقيته (...) وأنه لا تساوق مع اقتصاد بلد متخلف». وبمناسبة انطلاق ترامواي الدارالبيضاء يوم 12-12-2012 باعتباره صفقة مماثلة لصفقة ال»تي جي في»، نؤكد بدورنا أن «المشاريع» من هذا النوع لا تعد، في الحقيقة، مشاريع اقتصادية أو تنموية وإنما هي صفقات ظالمة وغير عادلة بين الدول المصدرة للصفقة والدولة المستقبلة لها. ولعل الإجابة عن سؤال: لماذا هذه «المشاريع» الآن وليس قبل 40 أو 30 سنة على الأقل؟ من شأنها أن تقيم الدليل على المهانة المتوازنة وراء هذا النوع من الصفقات حيث استنزاف المال العام لبلد فقير مثل المغرب من طرف بلد مجبول على جينة استعمارية لا تعوزه الحيلة لسرقة أموال شعوب مظلومة. وقبل بسط حيثيات الإجابة عن سؤالنا أعلاه، نحيل على مفارقة عجيبة من خلال وقائع وخطابات ذات صلة بهذا الموضوع. لقد أشار الصديق يحيى اليحياوي إلى أن الصحفي ألن ديفاليو قال في مقاله سابق الذكر إن «المشاريع الكبرى لتهيئة التراب لا تستهدف دائما تلبية الحاجيات؛ فلبيع خط قطار فائق السرعة، حيث لن يستخدمه زبناء كثر، أو مشروع مطار بجهة ليست بحاجة إليه، يتصارع المهندسون والمنعشون العقاريون ومكاتب الدراسات في ما بينهم على خلفية من الدهاء والخطابة (...) إن تبرير ما هو غير مجد وغير نافع أضحى ثقافة حقيقية، حيث من السهل فهم قواعدها وطقوسها والسياق الذي يضمن لها الوتيرة»؛ وهو قول يفضح مكر تعليق الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي على مشروع ال»تي جي في» بأنه يدخل المغرب عصر الحداثة ويجعل مبررات أرقام إدارة السكك الحديدية بالمغرب حول الحاجة إلى هذا القطار فائق السرعة، نظرا إلى ما أصبحت تعرفه القطارات العادية من زيادة الطلب عليها، ديماغوجية فجة لشرعنة صفقة غير عادلة؛ كما يميط اللثام عن سيل لعاب الفرنسيين على المال المغربي السائب الذي يعبر عنه تباهي المسؤول عن ترامواي بأن ورشة صيانة وتجميع قاطرات ترامواي الدارالبيضاء تعد أكبر ورشة في العالم بينما يسخر قول صحفي «لوموند ديبلوماتيك» من صور ظهور والي الدارالبيضاء ورئيسي مجلسها الحضري ومن معهم وهم يجربون ترامواي الدارالبيضاء مبتهجين فرحا وكأنهم أطفال صغار واقعون تحت تأثير صدمة حداثة لعبة أجنبية ألقى بها البحر في ساحل مدينة من قرون ما قبل التاريخ. لقد تناسى هؤلاء جميعا أن علم الاقتصاد ومجال إدارة الأعمال والخدمات يميزان بين ثلاث لحظات أساسية في عصر الصناعات والخدمات أو المنتوجات بصفة عامة؛ فهناك لحظة يكون فيها المنتوج (صناعة أو خدمة) في وضعية نمو وصعود، حيث تكون وتيرة استعماله والطلب عليه في تزايد وارتفاع مطردين. وهناك لحظة يدخل فيها المنتوج مرحلة النضج، حيث تبدأ جاذبيته في التراجع نظرا إلى تغطية حاجيات السوق، ليدخل المنتوج، بعد ذلك، لحظة الاضمحلال، حيث يتراجع الطلب عليه إلى المستويات الدنيا التي يصير فيها عبئا على منتجيه الذين يتحولون إلى منتوج آخر أو يستغلون فرصا أخرى لإطالة عمره في أسواق جديدة مثل حالة المغرب هاته ليستأنف المنتوج حياة جديدة قد تمتد لعقود عديدة من الزمن. إن هاته اللحظات الثلاث في حياة أي منتوج هي التي تجيب عن سؤالنا: لماذا ال»تي جي في» وال»ترامواي» الآن وليس بالأمس البعيد؟ فبالأمس لم يكن في مصلحة فرنسا أو غيرها أن تسوق لنا هذه المنتوجات وغيرها كثير، مثل الألعاب البلاستيكية التي اكتسحت حدائق وفضاء ألعاب الأطفال أو خدمات الأسواق الكبرى، لأنها لا تزال صناعات وخدمات رائجة لديها ولم تضق بها البيئة الفرنسية أو الأوربية أو الغربية عموما. أما اليوم، وبعد أن ضاقت بلدانهم بابتكاراتهم التحديثية، فليس من المعقول أن يبحثوا لها عن مقبرة للتخلي عنها وهي تمثل رمز فخرهم. إن الحكمة تقتضي تصديرها إلى دول أخرى ضد سيادتها وإرادتها وأولوياتها لتؤدي فاتورتها الباهظة بالعملة الصعبة لقرون حتى ولو تطلب الأمر تمويل فرنسا حاليا لجزء من تكلفة المشروع في شكل قروض؛ ففضيلة العولمة جعلت رأس المال يتحول من مُخَزِّنٍ للقيمة إلى سلع معروضة في الأسواق. والعولمة تتجسد كذلك في تبعية اقتصادية في المنتوجات التكنولوجية بين الأقوياء والضعفاء. ولعل حكمة الفرنسيين -الشريك التاريخي للمغرب، عفوا المستعمر الأزلي لبلدنا- تتأسس على تصدير هذه المنتوجات إما عبر المؤسسات الرسمية للدولة أو من خلال وسطائهم وممثليهم بالمغرب لتمديد وإطالة عمر هذه المنتوجات حفاظا على جيوش مناصب الشغل الثقيلة التي تقف وراءها؛ فال»تي جي في» وال»ترامواي» مثل ألعاب الأطفال البلاستيكية وسوبرماركيت علامات معْرِفَة وأسرار صناعة وراءها مجهود علمي وتاريخ في البحث ورمزية سمعة عالمية وطقوس استهلاك وترفيه حضارية لعلم وثقافة يتحديان الضعفاء والمتخلفين ويغريان الكبار والصغار ويسيلان لعاب اللوبيات والشركات الماصة للدماء والمال الذي لا ينضبط للغة الأخلاق، إذ كل شيء معد للبيع والربح وجاهز لعبر الحدود ترغيبا وترهيبا. في العقود الماضية لم يكن من المنطقي تصدير هذه المنتوجات إلى المغرب، حتى يهيئ ويهيكل مجاله الترابي بشكل جيد قبل أن تمتلئ مدنه بحظيرة السيارات التي ضاقت بها المدن الكبرى ومرائب العمارات والفيلات. لقد كان التحضر والرقي يتمثل في الحصول على سيارة، فأصبحت الحداثة اليوم هي ركوب ال»تي جي في» الذي يطوي المسافات بسرعة البرق وال»ترامواي» الذي يجلب نسيم البحر لساكن الهوامش في حركة حلزونية سحرية مأمونة بحضور أجهزة الأمن؛ أما شق نفق تيشكا فصناعة يابانية أو صينية غير مفيدة أو مجرد حاجة إلى نوعية بشرية لا تستحق الاهتمام؛ وتوسيع شبكة طرق العالم القروي أو إنجاز مستشفيات الحق في الصحة والحياة للمغرب النائي أو تسريع اجتثاث براريك العار الشامخة في كل مكان أو النهوض بجامعاتنا التي أفلست بميزانياتها الهزيلة أو هيكلة اقتصاد متخلف وضعيف لبلد بات فيه الفقر والبطالة تحديين استراتيجيين لعبقرية مسؤوليه وبيروقراطييه وتقنوقراطييه، فكلها مطالب لم يحن وقتها بعد، وإنْ كانت موضوعا لشعارات لا ينبغي أخذها مأخذ الجد. بالأمس، كان المغاربة من أهل الكهف لا يعرفون كيف يركبون القطار فائق السرعة؛ أما اليوم، فلا بأس أن تمُنّٓ عليهم فرنسا بدفع فاتورة صناعتها الكاسدة لإنقاذ جيوش خبرائها من البطالة واستيراد الحديد والأسلاك الكهربائية والإسمنت المسلح والقناطر وعلامات التشوير وأيقونات التوقيت والإشهار بالعملة الصعبة وبفوائد قروض طويلة الأمد ترهن الحاضر والمستقبل. ولتعمية المشهد المُعَتَّم كان لزاما تزيين المسارات بنخيل يشهد على صنعة تحويل المدن المغربية من واحات إلى حواضر. في سياق الربيع العربي، راج بقوة رقم 2 كرقم نَحْس على الأنظمة التي جرفتها رياحه؛ أما عبقرية المسؤولين المغاربة فأبت إلا أن تؤرخ به لاستمرار السياحة ضد التيار من حيث حضوره الكثيف في تاريخ 12-12-2012. وإذا كان ال»ترامواي» حقيقة لا مفر منها الآن، فإن صفقة ال»تي جي في»، وهي «المشروع» النخبوي الذي يشكل نشازا في مخططات السياسات الاجتماعية، يجب التراجع عنها وتحويلها إلى مشاريع مواطنة تخدم الاستقرار.