حقوق الإنسان في المغرب مثل شخص يسكن منزلا بلا عقد كراء أو شراء، وبالتالي فإن صاحب البيت قد يطرده وقتما شاء أو يتركه تحت السقف وقتما أراد. لا توجد وضعية نهائية لحقوق الإنسان في المغرب. مرة تسمح الدولة بفتح الكتاب الأسود لخروقات حقوق الإنسان وبتعويض ضحايا هذه الانتهاكات، ومرة تلجأ إلى إعادة إنتاج نفس الممارسات التي أدانتها هيئة الإنصاف والمصالحة، والتي اعتقد الجميع أنها صفحة طويت إلى غير رجعة. قبل إعلان العالم عن الاحتفال بالذكرى ال60 لميلاد الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، فجرت منظمة العفو الدولية فضيحة كبيرة تتعلق بمشاركة عناصر أمنية مغربية في تعذيب معتقلين في موريتانيا.. أصبح المغرب مصدرا للتعذيب. وقبل هذا التقرير، صدم الرأي العام الداخلي والخارجي بالحكم السابقة على جريدة «المساء» بأداء 600 مليون سنتيم، في محاولة لإغلاق جريدة المغاربة الأولى، وقبل هذا الحكم قُدم ثلاثة شبان أمام المحكمة (مهندس الفيس بوك والراجي وبلعسل) بتهمة واهية تتعلق بالإخلال بالاحترام الواجب للملك. طاف الحكم في عالم الأنترنيت ثم تراجعت السلطة عن إدانة هؤلاء لما وصلت سمعتها إلى الحضيض. وقبل هذا أعلن أكثر من معتقل أنه تعرض للتعذيب والاختطاف ولمحاكمات غير عادلة. الأمن أصبح يمارس «القوة المفرطة» في الشارع كل يوم دون إحساس بالذنب تجاه حركة المعطلين التي تطالب بالشغل، ثم انضافت سياسة العقاب الجماعي كما حصل في سيدي إفني عقب تظاهرات اجتماعية تجاوزت بعض تعبيراتها القانون. لماذا لا تحظى حقوق الإنسان بأية حصانة في المغرب؟ ولماذا نخطو خطوة إلى الأمام ثم نرجع خطوتين إلى الوراء؟ لابد من الاعتراف بأن الدولة بذلت مجهودا كبيرا منذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم من أجل تنظيف بيتها الداخلي من بقايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وهذه المجهودات كان الحسن الثاني قد بدأها منذ التسعينات عندما أفرج عن معتقلي تازمامارت وعن عائلة أوفقير، ثم عمد إلى إنشاء مجلس استشاري لحقوق الإنسان، ثم وزارة لهذه الحقوق عُهد إليها بوظيفة إعادة رسم صورة جديدة لمملكة أصبح تاريخها أسود في تقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية. لقد كان مفهوما وحتى مقبولا أن يعمد الملك الجديد إلى تثبيت شرعية حكمه على أسس إضافية –ولا أقول جديدة لأن الملكيات محكومة بمنطق الاستمرارية لا القطيعة- ومن هذه الأسس العمل على طي صفحة الماضي الحقوقي الأسود، بالتعاون والشراكة مع وجوه حقوقية عانت من الظلم. وفي هذا الإطار، جاء تشكيل هيئة للإنصاف والمصالحة التي كلفت بمعالجة ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من سنة 1956 إلى سنة 1999. ولما انتهت الهيئة من عملها، ورغم أن هناك العديد من الملفات بقيت عالقة، كُلف المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بمتابعة أشغال هذه الهيئة والسهر على تنفيذ توصياتها التي شكلت خطوة هامة على طريق زرع منظومة الحقوق والحريات في عقل الدولة الأمني والسياسي... لكن ما حدث هو أن الدولة تعاملت ب«برغماتية ضيقة» مع هذه الهيئة وتوصياتها، والتي لم تكن مقبولة من قبل بعض القيادات في الدرك والجيش والداخلية وبقايا العهد القديم في وسط أجهزة النظام. ما حدث أن الدولة صفقت لعمل بنزكري الذي استطاع بماضيه النضالي ومرونته الفكرية والسياسية أن يُجنب الدولة مخاطر «تجريم» نظامها ورموزه المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان، مقابل أن تلتزم الدولة بعدم تكرار ما جرى، وأن تفتح صفحة جديدة في علاقتها بحقوق الإنسان، لكن بمجرد نهاية الحفل ونيل «شهادة طي صفحة الماضي»، رجعت الدولة إلى عاداتها القديمة. لقد تم تجميد توصيات الهيئة في ثلاجة المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي فقد رئيسه السابق، الراحل إدريس بنزكري، وجاء آخر جديد لا يحظى بنفس الدعم الذي كان لسلفه. وهكذا وجد أحمد حرزني نفسه معزولا عن الحركية السياسية والحقوقية التي كان بنزكري داخلها يحاول أن ينتزع قدر ما يستطيع من مكاسب على أمل الرهان على «ترويض» يد الدولة على العمل داخل القانون وليس خارجه... التراجع المتزايد عن احترام حقوق الإنسان هو فشل مزدوج. من جهة، هو فشل للدولة في تحصيل مصادر جديدة للشرعية «الحقوقية» المبنية على دولة الحق والقانون، ومن جهة أخرى، هو فشل لمقاربة سياسية كانت تريد أن تجعل من آلية «العدالة الانتقالية» مدخلا لتصفية تركة الانتهاكات الجسيمة وفتح صفحة جديدة، دون المرور عبر مساءلة المتورطين عن انتهاك حقوق الإنسان، ودون خوض معركة وضع ضمانات سياسية ودستورية وقانونية لعدم تكرار ما جرى. فشل الدولة وجزء من الحركة الحقوقية هو الذي يفسر عودة انتهاكات حقوق الإنسان، وهو الذي يفسر بقاء توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة على حالها.. حبرا على ورق لا صلة له بالواقع.