منذ حوالي عقدين من الزمن، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية وتفتت بعض البلدان الدائرة في فلكه، راجت بعض الأفكار حول وجود مخطط لبلقنة المشرق العربي وتقسيم مجتمعاته على أساس عرقي وطائفي، ومن ضمنها تفكيك الوطن السوري المعروف بتنوع تركيبته السكانية وتعدديته، لكونه يستمد من النموذج السوفياتي الكثير من مقومات بناء الدولة والمجتمع، ولكي تنفرد إسرائيل بقيادة المنطقة، والهيمنة على مقدراتها، بدفع دولها إلى الغرق في أتون الحروب الأهلية. وقتئذٍ لم تلق تلك الأفكار أي اهتمام، بل قوبلت بالسخرية والاستهزاء أو بعبارات التخوين والزجر مشفوعة بالثقة بأن هذا البلد، ذا المكونات العرقية والدينية المتنوعة، خلق هكذا وسيبقى هكذا، ولا تستطيع قوة على الأرض تفتيته، وأن عراقة حضارته وعمق تعايش مكوناته تاريخيا هما صمام أمان وحدته التي تفتقر إليها المجتمعات الأخرى. تراجع الحديث عن مخطط البلقنة إلى اليوم، ليعود إلى الظهور مجددا في ظل بيئة خصبة حاضنة، خلقتها حدة الصراع السياسي والأمني المتصاعد في سوريا منذ ما يقارب عامين وأساليب العنف السلطوي المفرط والممارسات الاستفزازية ومحاولات تشويه وطنية الثورة وحصرها في البعد الطائفي، وتحويل الصراع إلى صراع وجودي، ينقض أسس العيش المشترك، وربما لأن التقسيم جارٍ فعلا على الأرض من خلال المناطق التي تخرج عن السيطرة وتدار من قبل قوى المعارضة، أو لأنه الخيار الأخير للسلطة للحفاظ على استمراريتها ولو على جزء من البلاد تستطيع الدفاع عنه، إن فشلت في إعادة إنتاج سيطرتها على المجتمع كله. وإذا كانت فكرة التقسيم تحظى في هذه الآونة بهذا الاهتمام، فلأن البعض يرى أنها أمر يسير نحو التحقق مع كل يوم يمر، وسط رفض النظام الحاكم أية معالجة سياسية وإصراره على التعبئة والتجييش الطائفيين وعلى استخدام كل صور العنف والقهر للحفاظ على سلطته بما في ذلك حصار وقصف مدن وبلدات كثيرة. أفلا يوحي استخدام العنف بهذه الطريقة التدميرية التي تتعرض لها أماكن السكن في معظم المدن والأرياف السورية والحصار المزمن لها والضغط على حاجاتها وخدماتها وشروط معيشتها بأن النظام لم يعد يهتم بالحفاظ على اللحمة الوطنية أو بالبحث عن دوافع تشجع هؤلاء السوريين المنكوبين على البقاء جزءا من المجتمع الواحد. ويضيف أصحاب هذه الفكرة أن لا خيارات كثيرة أمام نظام فشل في سحق الثورة أو الحد من قدرتها على التجدد، وفقد سيطرته على مزيد من المواقع والمساحات، وتزداد حركة الانشقاقات في صفوفه في شكل مثير، وصار تهديده بحرب إقليمية شاملة أو بحرق المنطقة وتفجير الصراعات فيها أشبه بحبر على ورق، وقد حاصرت أغلبية دول الجوار محاولات تصدير أزمته. ويرجح هؤلاء أن يلجأ النظام، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلى الانسحاب نحو مواقعه الاجتماعية ونحو المزيد من العنف الطائفي، بل يرون أن الأماكن المختارة للمجازر التي حصلت في حمص وحماة وما تبعها من تهجير، كأنها محاولة لخلق خط متجانس طائفيا يرسم حدود التقسيم العتيد، يعززه تشجيع الأكراد في الشمال الشرقي من البلاد على إقامة منطقة حكم ذاتي أو علاقة فيدرالية بالوطن الأم، وصب الزيت على نار حقوق الأقليات الأخرى بإثارة شكوكها ومخاوفها من التغيير. «ما لا يدرك كله لا يترك بعضه، فإذا تعذرت إعادة السيطرة على كامل البلاد يمكن الاكتفاء بشريط جبلي وساحلي منسجم طائفيا يشكل عنصر قوة ومنعة»، هي أفكار يروجها بعض أنصار النظام الذين ذهبوا في عنفهم إلى آخر الشوط، ربما لتخفيف قلقهم من هزيمة شاملة، وإشارة إلى أن لديهم خيارا أخيرا، أو مكانا يؤويهم ويحميهم من المتابعة والمحاسبة والعقاب. وعند هؤلاء، إلى جانب الحاجة الخاصة، ثمة عوامل خارجية تشجع اللجوء إلى التقسيم باعتباره خيارا أخيرا، أهمها المصالح الروسية والإيرانية، ولكل منها حيثياته، فقادة إيران لا يريدون التفريط -أيّا تكن النتائج والآثار- في الحلقة السورية من سلسلة محور نفوذهم المشرقي، وقد بذلوا جهودا مضنية لبنائه، حتى ولو تقلصت هذه الحلقة إلى شريط ساحلي مع ما يتطلبه ذلك من توظيف جهود وإمكانات لمدها بأسباب الحياة، وروسيا ربما لا يهمها حصول تغيير في خرائط المنطقة بمقدار ما يهمها الاحتفاظ بالورقة السورية وبالقاعدة العسكرية المتقدمة في مدينة طرطوس لتعزيز موقعها التفاوضي مع الغرب. ويبدو أن إسرائيل تسير على المنوال ذاته، فخيار التقسيم في حال تضعضع النظام هو الأيسر عندها للخلاص من التهديد المزمن للكيان السوري الموحد، ورهانها أن يفضي التعاطي مع دويلات صغيرة وضعيفة إلى تأمين أمنها موضوعيا لعشرات السنين وطي صفحة الجولان المحتل، بإحالته إلى ملف النسيان، تشبها بمصير لواء إسكندرون الذي صار جزءا من تركيا. في المقابل، ثمة وجهة نظر تعتبر أن أي حديث عن التقسيم في سوريا ليس أكثر من اجترار للأوهام، وهو لا يملك أية فرصة للتحقق على الأرض. فالسوريون هم من أفشل مشروع الاستعمار الفرنسي بتقسيم بلادهم إلى خمس دويلات، وحافظوا عليها كيانا واحدا تحت الانتداب، وصولا إلى الاستقلال، وهم الذين عززوا دولتهم الموحدة وبلوروا في صورتهم الجغرافية والسياسية شخصية وطنية جامعة متجاوزين حتى ما أظهروه من ميل وتعاطف قوميين وحنين إلى دولة عربية واحدة بعد اندفاعهم السريع لإقامة الوحدة مع مصر؛ وهم الذين تجنبوا الانجرار إلى حرب أهلية في محن سابقة ونجحوا في الحفاظ على تماسكهم وهزم التنازع وفكرة التقسيم، وسارعوا فور انتهاء السنوات العجاف إلى العض على الجراح وتجاوز ما حصل من عنف ودماء لمواصلة حياتهم العامة وتعايشهم في إطار وحدتهم الكيانية والسياسية. ويعزز هؤلاء موقفهم بفشل محاولات تقسيم بلدان في المنطقة هي أقل تماسكا، منها محاولة تقسيم لبنان خلال الحرب الأهلية (1975-1990) وكذلك العراق بعد الحرب الأمريكية عام 2003، بل إن مشروعا شبه منجز لانفصال الأكراد في شمال العراق لم ينجح، مما يعني صعوبة السير بتقسيم سوريا نحو التنفيذ العملي في ظل الشروط الإقليمية والدولية القائمة. كما يرون أن سقف ما قد يحصل هو تمترس سياسي للسلطة في دويلة صغيرة، يسهل تحصينها اجتماعيا وحمايتها عسكريا لبعض الوقت، لكن لن تكتب لها حياة طويلة، وربما غرضها، إطالة أمد المعركة والرهان على حل يشبه اتفاق الطائف في لبنان يوزع الحصص السياسية في الدولة السورية على أساس طائفي، أو في الحد الأدنى تكون ورقة تفاوض توفر لمن يتبقى من النظام الحاكم مخرجًا مُرضيا. ويضيف أصحاب هذا الرأي أن هناك قوى خارجية، إقليمية ودولية، لا مصلحة لها في التقسيم وتخشى تداعياته؛ ففي منطقة كمنطقة المشرق العربي، المتداخلة بشريا وديموغرافيا، يصعب حصول تغييرات كيانية أو تقسيم لبلد ما أو انزلاقه إلى أتون حرب أهلية، دون أن تنعكس وتمتد إلى البلدان المجاورة، بفعل مكونات عرقية وثقافية متداخلة، والقصد حصول الأسوأ وأن يتصاعد العنف، وتتورط فيه المجتمعات المتجاورة أكثر فأكثر، ويتخذ أشكالا طائفية أو إثنية على نحو متزايد، مما يفتح الباب لتعديل اتفاقية سايكس بيكو وإعادة رسم الخرائط السياسية لبلدان المشرق العربي، كلها أو غالبيتها؛ وهذا الأمر إن حصل سيهز بشدة استقرار المنطقة ويضرب -أو على الأقل يضر- الاستراتيجيات الإقليمية والدولية ومصالح كثير من الدول ذات العلاقة. والسؤال المطروح: كيف ستنجح دولة كهذه في تخطي الظروف الدولية والإقليمية، ومن يستطيع تقديم ضمانات بأنها لن تكون مصدر فوضى واضطراب ولن تتحول إلى بؤرة صراع وتوتر يهدد سلام وأمن المنطقة، أو حافزا لاستمرار الصراع والعنف حين يرفضها السوريون ويشنون حربا مفتوحة من أجل إزالتها. والحقيقة أنه لا يمكن الركون إلى ما سبق، واعتباره الاحتمال الأرجح، وطي فكرة التقسيم المتداولة، لأن حدوث تغييرات كبيرة في الصراع القائم، كتعميم العنف وتصعيد أساليبه وما يخلفه من ضحايا وخراب، وزيادة حدة التدخل الخارجي مع تنامي الأضرار على مصالح الدول المؤثرة، عالميا وإقليما، ربما يجعل التقسيم أمرا ممكنا، كما حدث مثلا في بلاد البلقان. وحينها أعادت الحروب الأهلية والمصالح الخارجية رسم حدود الكيانات السياسية والاجتماعية على أسس جديدة، خاصة أن الوطن السوري الذي ولد مطلع القرن المنصرم من اتحاد ثلاث دويلات أنشأها الاستعمار الفرنسي، دولة دمشق وحلب والعلويين، لا يزال يفتقر إلى عقد اجتماعي ديمقراطي جامع ولا يزال، في نضج دولته وتاريخها السياسي، وطنا حديثا وطريّا. صحيح أن سوريا عريقة في حضارتها وتعايش مكوناتها، وأن هناك أسبابا بنيوية لغلبة مسار الانصهار الوطني في مواجهة نوازع التفرقة والتمييز، أهمها التفاف الشعب السوري تاريخيا حول مهام وطنية وقومية عريضة، كقضية فلسطين والوحدة العربية، تركت آثارا إيجابية على تضامنه واندماجه، وأضعفت تاليا البنى العصبوية التقليدية؛ صحيح أن السوريين، من مختلف المكونات القومية والدينية، لعبوا دورا متكاملا في بناء دولتهم وتاريخها الحديث، وشكلت عندهم قيم المواطنة والمساواة قاسما مشتركا كما غلب انتماؤهم إلى الأحزاب الوطنية على أي انتماء؛ لكن الصحيح أيضا أنه لم تتبلور في سوريا منذ استقلالها هوية جامعة قوية تستند إلى عقد اجتماعي، تتوافق عليه كل المكونات الاجتماعية، لتنتج وطنا مستقرا يؤمن الجميع به، والأهم أن السلطات المتعاقبة، وخاصة الاستبدادية منها، ساهمت في تشويه الهوية الوطنية والانتكاس بالمجتمع إلى هويات تفكيكية تعيدهم إلى ما قبل الهوية المدنية. كما تسببت مناخات القمع والتمييز في إعلاء شأن العلاقات المتخلفة، الدينية والطائفية والعشائرية، على حساب الرابطة الوطنية، وزاد الطين بلة تأثير المد الديني خلال العقدين المنصرمين الذي حفر عميقا في المجتمع السوري المأزوم وباعد بين ثقافات طالما تعايشت وتسامحت مع بعضها، ليغدو أمرا اعتياديا ومألوفا ظهور استقطاب طائفي وعرقي اليوم يفرق بين العرب السوريين حسب الهوية الدينية أو الطائفية، ويميز الكرد وغيرهم بهويتهم القومية. والحال هذه، فإذا كان الهدف من الحديث عن التقسيم هو استخدامه فزاعة ضد التغيير والمستقبل الديمقراطي، فالواضح أن هذا الهدف سيمنى بالإخفاق وسيصطدم بعبارة بت تسمعها على لسان غالبية السوريين وهي أن بقاء الوضع الراهن أو عودة الأمور إلى ما كانت عليه أسوأ من أي خيار، وعند هؤلاء السوريين لم يعد مفهوم الوطن يتساوى مع مصالح السلطة وشعاراتها أو مجرد عواطف وطنية وأناشيد حماسية، بل هو وطن الحرية والكرامة والمساواة. وبعبارة أخرى، لن يكون القول حاسما عن وطن سوري ونسيج مجتمعي متماسك، إلا إذا اقتنع كل فرد بأن حقه مصون ومتساوٍ مع الآخر وأن ليس ثمة من يستطيع التعدي عليه كائنا من كان، فشعور الإنسان بالحرية والمساواة هو صمام أمان البناء الوطني السليم والحافز المشجع كي تتجاوز القوى الاجتماعية والسياسية حساباتها الخاصة والضيقة وتغدو انتماءات ما قبل الوطنية، سواء العشائرية أو الطائفية أو الإثنية هي الأضعف والأقل حضورا أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء إلى الوطن. أكرم البني