كشف محمد الحبابي، أحد القادة التاريخيين لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في تصريحاته لجريدة «المساء»، ركن «كرسي الاعتراف»، عن أشياء تسلط الضوء على أعمال وأنشطة بعض الشخصيات التي نشطت الحياة السياسية لهذا الحزب الساعي إلى لعب دور طلائعي. ومعلوم أن الحبابي يعتبر، لمجرد التذكير، الذاكرة الحية لفترة انقضت من تاريخ الاتحاد الاشتراكي.. فترة هيمنت عليها زعامات حزبية كبرى، مثل المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعمر بنجلون وعبد الرحمان اليوسفي. باختصار، لقد عاش وعاصر فترة كان للسياسة فيها معنى، وكانت لممارسيها مُثُل وأخلاق. طبعا، الشهادة التي يدلي بها الحبابي لا تخلو من ذاتية، لكن معرفتنا بشخصه وعفويته ومعنى الشرف عنده يجعلنا نثق في شهادته وأحكامه. بماذا تفيد هذه الشهادة؟ أولا، العلاقات بين المخزن والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ظلت دائما تتباين بين الاصطدام والتحاور. وهذا شيء يعلمه الجميع، ولا داعي إلى الإطناب في الحديث عنه. غير أن الأكثر إثارة للانتباه هو الطريقة التي تغلغل بها المخزن في الحزب عبر بعض الشخصيات، التي لم تتردد في التضحية بماضي نضال الحزب وتضحياته في سبيل وعد بالولوج إلى الحكم، ذلك أن سماع قيادي في الاتحاد الاشتراكي يقول للحسن الثاني: «كلماتكم دستور لنا» مفاجأة من العيار الثقيل ومنعطف بنسبة 360 درجة؛ ورؤية آخرين يرتمون على أولى العظام الملقاة إليهم لتأهيلهم ليصبحوا من كبار خدام المخزن مؤشر آخر على هذا التوجه الذي حوّل حزب بنبركة وبوعبيد إلى حزب عادي صالح ليستخدم كعجلة احتياطية. ودون أن نذكر الأسماء (وإن ذكرها الحبابي)، يبدو لنا أن السلطة أفقدت هذا الحزب روحه عبر التغلغل داخله. ولهذه الأسباب، آل التناوب التوافقي إلى فشل ذريع. وحسب الحبابي، فإن بوعبيد استبق الأمر وحذر من الخطر المحدق بالحزب واعترض على ترويج أسماء بعض عناصره. غير أن وزير الداخلية الشهير وقتها عجل بخططه وشرع في تنفيذ هذا المشروع، والنتيجة اعتلاء رجال مقربين من السلطة مناصب حكومية رئيسية في حكومة التناوب التوافقي.. بعضهم اعتلى مناصب استراتيجية واستغل مواقعه ليلعب دور الوساطة بين الوزير الأول وباقي أعضاء الحكومة؛ وبعض آخر أنيطت به مسؤوليات إلى جانب الفريق الحكومي؛ ولذلك انفجرت حكومة اليوسفي من الداخل؛ والنتيجة: فشل وفقدان مصداقية. والمثير أن المخزن يعيد إنتاج هذه السياسة مع فريق حكومي آخر وصل إلى الحكم في سياق مختلف عن سابقه. بتعبير آخر، ظل المخزن وفيا لتصوره التقليدي: العربة المخزنية لا تغير مسارها ولا البضاعة المحملة عليها، لكن الأحصنة التي تجرها وشكلها الخارجي يجب أن تخضع لعملية ملاءمة مع روح العصر. إنه مبدأ أساسي يقوم عليه النسق برمته، وهو ما تحاول السلطة ترسيخه وتكريسه في الممارسة السياسية المغربية. وقد اقتنعت الطبقة السياسية، التي تشغل المشهد السياسي المغربي اليوم، بشكل كلي، بهذه الرؤية، وتتصرف وفق هذا المنطق؛ في حين كان هذا الأمر يسري في الماضي على الأحزاب الإدارية فقط. كما أن أغلبية المواطنين لا تزال في منأى ومعزل عن هذه اللعبة التي حولت الفاعلين السياسيين إلى دمى، والسكان إلى متفرجين محايدين بلا رأي. هل نخلص إلى أن السياسة في المغرب ستظل تحت سيطرة العهد السابق؟ واضح أن الأشياء لم تتغير جذريا رغم التطورات المسجلة منذ بداية العهد الجديد.. فقد ظلت الحياة السياسية موشومة بمجريات الأربعين سنة الماضية من العهد السابق الذي نجح فيه رجل سلطة بسيط (يكنى...) في السيطرة على جزء كبير من النخبة، حتى صار قادرا على صناعة الزعماء وتكوين الفاعلين الذين سيتولون تنشيط المشهد السياسي وصناعة المفكرين ورسم معالم الحياة السياسية على سجيته؛ فماذا تبقى من هذا الإرث؟ يجب الاعتراف بأن الرجل خلف وراءه مدرسة ل»التفكير» تعمل على استدامة نموذجه وملاءمته مع مستجدات السياق الراهن.. تُخلق الأحزاب، على غرار المعمول به سابقا، ويُفرض الزعماء وتوزع الأدوار، ويُقنع الواقع بقناع الحداثة، ويتم توظيف الأحزاب. واللافت أيضا أن فئة من النخبة، أخرجها وزير الداخلية الأسبق بنفسه إلى الوجود، لا تزال تتصدر واجهة المشهد السياسي وتقترح نفسها للعب دور طلائعي. طبعا، ليست الوحيدة، بل برزت إلى جانبها فصيلة سياسية جديدة استغلت المناخ السياسي الحالي لفرض أسمائها على واجهة الحياة السياسية المغربية. ويعد انتخاب الأمين العام لحزب الاستقلال نموذجا حيا لهذا الأمر، ويوشك أن يتكرر ذلك لدى حزب تاريخي آخر يستعد حاليا لعقد مؤتمره. إجمالا، ليست الشعبوية، التي تفضي إلى الباب المسدود وتسلب أصحابها مصداقيتهم، ولا التطرف، الذي يواجه برفض مجتمع يزداد وعيا بخطره، ما يؤخر المغرب ويهدد مستقبله، بل هذا الابتذال الذي يجثم على حياتنا السياسية ويحكم علينا بالبقاء في عنق الزجاجة في الوقت الذي ينهض فيه الآخرون. بتعبير آخر، سياسة البؤس أو بؤس السياسة أكثر ضررا علينا. فما العمل للقضاء عليهما؟ ادريس بنعلي