إذا راجع المرء وقائع الأيام الثلاثة الأخيرة من المواجهات بين قوّات النظام السوري ومختلف كتائب المقاومة والجيش الحرّ، فإن الحصيلة تبدو مثيرة للدهشة، في جوانب عديدة، عسكرية ولوجستية؛ تفضي، بالضرورة، إلى ترسيم محتوى أكثر إدهاشا للجوانب السياسية أيضا، وقبلئذ في الواقع. لقد دارت اشتباكات مباشرة في أكثر من 340 نقطة مواجهة، ساخنة منذ أسابيع، وليست طارئة؛ وتمكن المقاتلون من اقتحام كتيبة الدفاع الجوي في ريف حلب الغربي، ومدرسة الشرطة، والفوج 46 قوّات خاصة وفوج النقل 274، ومقرّ قيادة لواء التأمين الإلكترونية في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، وكتيبة الدفاع الجوي في منطقة الحجر الأسود، جنوب العاصمة، وكتيبة الدفاع الجوي والإشارة، جنوبدمشق، بالقرب من منطقة السيدة زينب؛ وأسقطوا طائرة مروحية في كفرزيتا، ريف إدلب، وأخرى في الغوطة الشرقية؛ وسيطروا على مطار الحمدان، في البوكمال، على الحدود السورية العراقية؛ ويحاصرون مطار دير الزور العسكري... في المقابل، قصف طيران النظام أكثر من 400 نقطة، في مختلف أنحاء سورية؛ وتعرضت أكثر من 77 منقطة لقصف بالهاون، وقُصفت 76 بالمدفعية الثقيلة، و22 أخرى بالقصف الصاروخي؛ وتتواصل الحملة العسكرية على بلدة داريا، في ريف دمشق، المحاصرة منذ عشرة أيام، تحت وابل الأسلحة الثقيلة كافة، مع انقطاع تامّ للماء والكهرباء؛ وسُجّل استخدام الغازات السامة ضدّ بلدة حرستا، ريف دمشق؛ وراجمات الصواريخ، للمرّة الأولى، في مناطق دمشقالجنوبية؛ ولم يتوقف قصف قرى جبل الأكراد، سلمى والمارونيات والمريج وسواها، في اللاذقية. عدد الشهداء تجاوز ال300، بينهم 17 طفلا وعشر نساء، معظمهم من دمشق وريفها وحلب وإدلب وحماة ودرعا ودير الزور وحمص. جلي، إذن، أن النظام يتقهقر على الأرض أو يتفادى القتال المباشر في معظم المناطق؛ كما أنه (وهذا تفصيل لافت تماما) لا يعود لاسترداد المواقع التي خسرها، حتى إذا كانت تحتوي، بحكم اختصاصها، على مخازن أسلحة حساسة وصاروخية، مثل كتيبة الأفتريس في غوطة دمشق، حيث الصواريخ ليست بعيدة المدى فقط، بل يمكن أن تحمل رؤوس أسلحة كيماوية أيضا. جلي، كذلك، أن النظام بات يكتفي بالقصف الجوّي أو الصاروخي أو المدفعي، ويركّز القسط الأكبر من الجهد العسكري لقطعاته الموالية، الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري بصفة خاصة، في العاصمة وريف دمشق؛ ويُبقي على وحدات أقلّ في محيط حلب، بعد تعذر «الحسم» الذي وعد به النظام؛ وفي دير الزور أيضا، لأسباب صارت تنحصر في غرض شبه وحيد، هو الإبقاء ما أمكن على منطقة فصل بين الشمال الشرقي ومحاور حلب/ جبل الزاوية/ إدلب/ معرّة النعمان. وليس عسيرا إدراك هذه الإحداثيات، العسكرية الصرفة، إذا استرجع المرء سلسلة الحقائق المضادة التي اقترنت، وتوجّب أن تقترن، بالخيارات المركزية التي استقرّ عليها النظام في قهر الانتفاضة؛ فاللجوء إلى العنف العاري، كما في ارتكاب المجازر في مناطق مأهولة بسكان من السنّة، تعويلا على دفعهم إلى ارتكاب مجازر مضادة في مناطق مجاورة مأهولة بسكان من الطائفة العلوية، انتهى إلى فشل ذريع، خاصة في قرى منطقة الغاب. والإيمان بإمكانية الحسم العسكري، في حصار حلب ودير الزور وحوران وريف دمشق بصفة خاصة، تكشّف عن عجز ميداني فاضح، عرّى أيضا معنويات قوّات النظام الهابطة إلى الحضيض. والمراهنة على أفضلية السلاح الثقيل في صفّ النظام، مقابل السلاح الخفيف في صفّ المقاومة والجيش الحر، انقلب إلى ما يشبه الخيار صفر في الإنجاز العسكري على الأرض، وبات السلاح الثقيل المفضّل عند النظام هو... البراميل المحشوة بموادّ متفجرة، تُلقى من الجوّ كيفما اتفق، فيحدث أن تسقط على أرتال المواطنين المتجمهرين أمام مخبز أو محطة وقود. ولعلّ جهاز النظام العسكري (وهو، للتذكير، ليس الجيش السوري النظامي، ولا حتى مقدار الثلثَين في عديده وعدّته) بلغ ذروة عليا في وتائر الضغوطات اليومية التي أخذ يخضع لها منذ مطلع الانتفاضة، حين زُجّ في معركة مفتوحة ضدّ الشعب، بدأت بمواجهة بين بنادق العميد عاطف نجيب ضدّ المتظاهرين في درعا، مقابل زهور الشهيد غياث مطر الملقاة تحت أقدام عسكر ماهر الأسد في داريا، وكان محتما أن تنتقل إلى الطور الراهن: حراك جماهيري ديمقراطي ضدّ استبداد وراثي فاسد، ومقاومة شعبية ضدّ جيش مسلّح حتى النواجذ ومنفلت من كلّ عقال. ومرّة أخرى يصحّ التذكير بأن السذج وحدهم، إلى جانب المتعامين عن إبصار الاعتمالات الجدلية الأبسط في حركة التاريخ، هم الذين يواصلون الحنين إلى زمن الزهور مقابل البراميل المتفجرة (إذ إن عهد البنادق قد مضى وانقضى!)، وإلى مظاهرات لا تخرج من المسجد ولا تضمّ في صفوفها إلا أشباه الملائكة حَمَلة أغصان الزيتون، أيا كانت طبائع الوحوش الكاسرة التي تواجههم في صفّ النظام؛ ولا نعدم بينهم مَنْ يتابع التفجع، الكاذب غالبا، وسيئ الطوية عموما، على «ثورة سلمية» صارت اليوم «ثورة مضادة», لأنها... تعسكرت! النمط الأوّل من الضغوط اليومية على جيش النظام (وكتائب الفرقة الرابعة هي مثاله الأبرز) مصدره اهتراء المعنويات أمام الصمود الأسطوري للحراك الشعبي، واستمرار الشعارات في علاقة طردية باشتداد آلة القهر. كلما حوصرت منطقة، ودُمّرت بيوتها وسُفكت دماء أبنائها، نساء ورجالا وشيوخا وأطفالا، ارتفعت أكثر فأكثر روحية المطالبة بإسقاط النظام، وتسمية رموزه العليا. وكلما أوغلت هذه الوحدات في اتخاذ الإجراءات الكفيلة ببثّ الفرقة بين السوريين (مثل قصف مئذنة هنا، أو العبث بمسجد هناك، أو كتابة شعارات مذهبية وطائفية بين حين وآخر، فضلا عن ارتكاب المجازر المباشرة...)، جاء الردّ الشعبي أكثر تمسكا بالوحدة الوطنية، وأعلى وعيا بالغايات الأبعد لتلك الإجراءات. نمط الضغط الثاني ما تزال تصنعه حقيقة أن عسكر النظام، تماما على شاكلة الفرقة الرابعة، هو هجين مختلط من بقايا وحدات عسكرية سابقة، كانت لها صولاتها وجولاتها في السجلّ القمعي على امتداد تاريخ «الحركة التصحيحية»، وتوجّب على حافظ الأسد أن يفككها ويعيد تركيبها، بين حقبة وأخرى. أهداف التفكيك وإعادة التركيب كانت تتراوح بين قطع الطريق على الأجندات الخاصة لقادة تلك الوحدات، من أمثال رفعت الأسد (قائد «سرايا الدفاع»)، وعلي حيدر (قائد «الوحدات الخاصة»)، وعدنان الأسد (قائد «سرايا الصراع»)، أو تغيير وظائفها في سلّم خدمة الاستبداد، من شديد إلى أشد. صحيح أن هؤلاء باتوا خارج المشهد القيادي، حتى قبل أن تبدأ عمليات توريث الأسد الابن، إلا أن ما جرى تكريسه على نطاق التوريث داخل البيت الأسدي، جرى أيضاً استلهامه بصياغات متغايرة على صعيد مناقلة النفوذ والامتيازات بين قادة الصف الأوّل، ووكلائهم قادة الصفوف الثانية والثالثة. وهكذا، يعرف الضابط في الفرقة الرابعة أنّ ماهر الأسد اختار له البقاء في كتائبها، فلم يشمله بأعمال التطهير التي أعقبت اندلاع الانتفاضة، لأن ولاءه ثابت، وقد تمّ التحقق منه خلال هذه العملية أو تلك؛ كما لا يجهل، وهنا التفصيل الأهمّ، أنّ انتماءه إلى هذه العشيرة أو تلك، من هذه الضيعة التابعة لهذه المنطقة وليست تلك التابعة لمنطقة أخرى، كان حاسما في ترشيحه للبقاء. لكنه، أغلب الظنّ، لم يتطهر تماما من ذاكرة شخصية تضمنت ولاءه السابق، وامتيازاته التي لم تكن أقلّ، بل كانت أوفر ربما، مع ضباط من أمثال العقيد معين ناصيف (صهر رفعت الأسد، والضابط الأبرز في «سرايا الدفاع»)، أو العميد هاشم معلا (بطل حصار حلب، 1980، و»مدمّر الإخوان المسلمين» حسب التسمية المفضّلة لدى محبّيه)، أو العميد محسن سلمان (حاكم لبنان العسكري أواسط الثمانينيات، إسوة بحاكمها الأمني غازي كنعان)... ثمة، هنا، اختلاط في ماضي المرجعيات وحاضرها، ليس لأنّ القدماء كانوا شرفاء مع الشعب، والجدد أوغاد، فالموازنة هنا غير مطروحة أساساً؛ بل لأنّ الولاء الأعمى لا تكفيه عصا واحدة يتوكأ عليها، خاصة إذا اختلطت امتيازات الأمس بكوابيس اليوم، وتبدّى المصير من خلال هذا الخليط المتنافر، ضد الشعب تحديدا، وفي مواجهة شارع لم يرفع حجرا في وجه الدبابة خلال الأشهر الأولى من عمر الانتفاضة. أمّا حين صارت الدبابة عُرضة لقذيفة مضادة للدروع، وبات مَنْ في داخلها غير محصّن من احتمال الموت حرقا داخلها، وأضحى كابوس العودة إلى الأهل مقترنا بالكفن... فإن طراز الضغوطات الأولى انصهر في طراز الضغوطات الثانية، لكي يصنع طرازا ثالثا من ضغوطات يختصرها هذا السؤال الحارق: حتام نقاتل أهلنا، ونقتلهم أو نُقتل بأيديهم، دفاعا عن آل الأسد وآل مخلوف وآل شاليش وآل الأخرس...؟ وهذه حال سياسية جدلية، بدورها، يتوجب أن يتفقه فيها القائلون بمخاطر «الثورة المضادة»، إذا أجازوا لرؤوسهم أن تخرج قليلا من الرمال: كما أن منطق المواجهة اقتضى حق «جبهة النصرة» في الدعوة إلى «دولة إسلامية عادلة»، لأن أفراد الجبهة هم في طليعة المقاتلين ضدّ جيش النظام، فإن منطق المواجهة ذاته اقتضى، على الصفّ الآخر، إطلاق شعار «الأسد، أو نحرق البلد»، لكي لا يقتبس المرء شعارات أخرى أشدّ بغضاء وطائفية وشططا، على الجانبين. وكما أن من حقّ زيد أن يرفض الدعوة الأولى، فإن من حقّ عمرو أن يأبى الثانية، دون تخوين أو تشبيح أو تكفير؛ ويستوي، هنا، أن يكون الرافض مسلما، سنيا أو علويا أو درزيا، أو مسيحيا؛ متدينا أو علمانيا، متعسكرا أو متمدنا؛ ومن الخير ألا يُطرح عليه أي سؤال يخصّ الهوية المذهبية، أصلا، سواء اكتُسبت بالولادة أو بالانتماء، وكذا الحال في ما يخصّ هويته الإثنية. تلك مسائل بديهية بالطبع، ولا مناص من تكرارها والتشديد عليها، كلما تعيّن التذكير بالبديهي. ما يدهش، في المقابل، هو أنّ سيرورات «عسكرة الانتفاضة» وعبادة البندقية هنا، وسيرورات «سلمية الانتفاضة» وعبادة الصدر العاري هناك، اقتضت من أنصار العبادتَين، معا وبالتكافل والتضامن، أن يتوحدوا في... ذمّ «الائتلاف الوطني السوري» الوليد؛ لأنه يبشّر بإمكانية ائتلاف، ناجح على نحو ما، قابل للأخذ والردّ والتعاطي، بين البندقية والصدر العاري! هنا تتخلّق، استطرادا، حصيلة سياسية ناجمة عن حصيلة الجوانب العسكرية واللوجستية في سلوك النظام الراهن، بحيث إنّ ما يُطرد من سياسة عبر باب العسكرة، يدلف من النافذة في إهاب سياسة تعسكرت، أو عسكرة تسيّست. وهذا، في الحالين، تركيب جدلي لا ينفع معه الاختزال: لا انتفاضة أشباه الملائكة، ولا حرب العسكر. ومن محاسن الثنائيات الجدلية أنّ السيرورة يمكن أن تصبح متبادلة، فيختفي شبيه الملاك خلف درع المحارب، والأخير خلف أجنحة الأوّل!