إن أهم ما يميز مهنة التوثيق العصري في الآونة الأخيرة هو القانون الجديد 09 - 32 المنضم لهذه المهنة، والذي صدر بعد انتظار طويل دام حوالي 8 عقود. هذا القانون، وكما يعلم الجميع، سيدخل حيز التنفيذ في 22 من الشهر الجاري، وقد تضمن مقتضيات جديدة، نقتصر على بعضها كالمادة الأولى التي عَرفَّت التوثيق بأنه مهنة حرة تمارس وفق الشروط وحسب الاختصاصات المقررة في هذا القانون، رغم أنها أسقطت تعريف الموثق الذي تعرفه أغلب القوانين بأنه ضابط عمومي يمارس مهامه بصفة حرة وتحت رقابة القضاء، كما عرفته دول أخرى بأنه موظف عمومي كما هو الحال في القانون المغربي الحالي. وتجدر الإشارة إلى أن الموثق يعتبر مستشارا ماليا وجنائيا وقانونيا، بل ذهب القرار عدد 4195، الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 12/10/2010، إلى أبعد من ذلك، حيث لم يحدد مهمة الموثق في إضفاء الصبغة الرسمية بل جعله أمينا وحريصا ومستشارا للزبناء. وخلافا لباقي المهن الحرة، فإن التعيين في هذه المهنة يكون بناء على قرار لرئيس الحكومة باقتراح من وزير العدل بعد إبداء اللجنة المكلفة بالتعيينات والامتحانات رأيها في الموضوع. وتتكون هذه اللجنة من وزير العدل أو من يمثله بصفته رئيسا، والوزير المكلف بقطاع المالية أو من يمثله، ورئيس أول لمحكمة استئناف أو نائبه، ووكيل عام للملك لدى محكمة استئناف أو نائبه، وقاض بالإدارة المركزية من الدرجة الأولى بصفته مقررا، ورئيس المجلس الوطني للموثقين. وقد تضمن القانون الجديد مستجدات أخرى مرتبطة بالتعيين، ذلك أن الموثق كان، في ما سبق، يعين بمقتضى ظهير ملكي شريف، أما اليوم فإنه أصبح يعين من طرف رئيس الحكومة بقرار إداري. وشمل القانون الجديد مستجدات من حيث تأديب الموثقين، إذ نصت المادة 65 على مراقبة مزدوجة يكلف بها كل من الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف التي يوجد في دائرة نفوذها مكتب الموثق والوزارة المكلفة بالمالية، وذلك في ما يخص المحاسبة المالية والودائع والقيم التي يتولى حساباتها الموثق أو في ما يخص صحة عقودهم وعملياتهم واحترامهم للقانون، ويحضر أطوار المراقبة رئيس المجلس الجهوي أو من ينوب عنه. وأحدث بموجب هذا القانون صندوق لضمان الموثقين المتعلق بتنظيم المهنة، وهو يهدف إلى ضمان أداء المبالغ المحكوم بها لفائدة الأطراف أو التعويض في حالة انعدام التأمين وعدم كفاية المبالغ المؤداة من طرف شركة التأمين، إذ يعتبر هذا القانون، إلى حد كبير، حماية لمهنة التوثيق ذاتها، وذلك بنصه على حالات التنافي ووضعه شروطا جديدة للانخراط، كتحديد السن الأعلى والأدنى واستثناء المحكوم عليهم ببعض الجنايات أو الجنح ولو مع رد الاعتبار وجعل الولوج إلى المهنة متوقفا على اجتياز مباراة، ونص على إحداث معهد للتكوين وإقرار نظام خاص للتمرين يتضمن مجموعة من الاختبارات، ثم الامتحان المهني، إضافة إلى وضع مدونة القيم والسلوك التي يخضع لها لزوما كل الموثقين والنص على العقوبة الجنائية ضد كل من انتحل صفة موثق. وعلى الموثق أن يتأكد من هويات الأطراف وصفاتهم من أجل حماية أصحاب الحقوق الأصليين وقطع الطريق أمام المتلاعبين. وفي نفس السياق، يجب على الموثق إسداء النصح إلى الأطراف ويوضح لهم الأبعاد والآثار التي قد تترتب عن عقودهم في حالة جهل هؤلاء للغة التي حرر بها العقد، فمن حقهم الاستعانة بترجمان محلف، والموثق ملزم بالسر المهني في كل ما يتعلق بعقود وتصريحات الأطراف، وعليه أن يضع المبالغ المودعة لديه فور تسلمها بصندوق الإيداع والتدبير، ولا يحق له أن يتقاضى أكثر من أتعابه المشروعة. وقد مكن هذا القانون الموثقين من إبرام عقود المشاركة في الوسائل اللازمة لممارسة المهنة وإدارة وتسيير المكتب وفق نموذج موحد يضعه المجلس الوطني. وتمت حماية الموثق كذلك ضد الأغيار في الفقرة الأولى من الفصل 92 من هذا القانون بتمتيعه، أثناء مزاولة مهامه، بالحماية التي تنص عليها مقتضيات الفصلين 263 و267 من مجموعة القانون الجنائي. ورغم كل هذه المكتسبات، فإن هذا القانون لم يشف غليل الموثقين بالمغرب، حيث كان بالإمكان تحقيق المزيد، لكن الظروف التي عرفتها مهنة التوثيق خلال المسار التشريعي لهذا النص -والتي تميزت أساسا بتوالي الشكايات والاعتقالات والمحاكمات التي طالت بعض الموثقين وهم قلة مقارنة بعدد الموثقين بالمغرب- أضعفت الموقع التفاوضي للغرفة الوطنية للتوثيق العصري، الممثل الشرعي الوطني في إطار القانون القديم، في مواجهة الحكومة والمشرعين، حيث اقترحت الغرفة تعديلات مهمة، لكنها لم تلق التجاوب الكافي لوجود لوبيات قوية مضادة لطموح الموثقين. علاوة على ذلك، تجب الإشارة إلى الفصل 37 من هذا القانون الذي اعتبره كل الموثقين فصلا خطيرا لأنه حمل الموثق مسؤولية التحقق من هويات الأطراف وصفاتهم وأهليتهم للتصرف ومطابقة الوثائق المدلى بها إليه للقانون. فكيف يمكن للموثق التحقق من الأهلية والمطابقة؟ وأين هي حماية الموثق الذي لا يتوفر على الوسائل اللازمة للتحقق في الوثائق المدلى بها إليه، خصوصا مع ما يعرفه عالم التزوير من إبداع وتطوير؟ وأين هي حماية الموثق من مواجهة مقتضيات المادة 27 التي تحمله المسؤولية عن تصريحات وبيانات احتمالية كان بإمكانه العلم بها أو معرفة مخالفتها للحقيقة؟ ثم أين هي حماية الموثق من مقتضيات المادة 34 التي تمنع إبرام عقود تنصب على أموال غير قابلة للتفويت أو أن تفويتها يتوقف على إجراءات غير مستوفاة دون تقييد هذه العقود بالنهاية؟ مما يفهم من ظاهره أن بعض الوعود بالبيع أو بعض التفويتات المعلقة على شروط واقفة لم تعد تجد لها مكانا في مهنة التوثيق. وقد احتلت المادة 8 من هذا القانون حيزا كبيرا من الجدال بين الموثقين الذين رفضوا كلهم الشروط التفضيلية لولوج بعض الفئات مهنة التوثيق وهم: المحامون وأساتذة التعليم العالي والحاملون للدكتوراه في القانون والقضاة من الدرجة الأولى والمحافظون على الأملاك العقارية ورؤساء أقسام التسجيل بعد تقديم الجميع استقالتهم على أن لا يتعدى سنهم 55 سنة، إذ أجمع الموثقون في لقاءاتهم على رفضهم لهذه الفئات ولهذا الامتياز غير المبرر تكريسا لمساواة والاستحقاق والكفاءة ومناهضة الامتيازات. وفي إطار الورش الكبير للحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة، أقترح ما يلي: - تقديم ملتمس عاجل إلى وزارة العدل أو الهيئة العليا من أجل تصحيح الوضع ورفع الحيف بتعديل هذه المادة والإقرار بمبدأ المعاملة بالمثل بين مهنة التوثيق وباقي المهن المعينة بالاستثناء وبالولوج التفضيلي؛ تنظيم لقاءات وندوات بين المجالس الجهوية ومحاكم الاستئناف للتقارب أكثر ولتفادي الأخطاء التي ارتكبها الموثقون أثناء مزاولتهم لمهامهم والوقوف على جميع إشكالات هذه المهنة، وذلك حماية للموثق وضمانا لحقوق المتعاقدين حتى نساهم في تطوير واستقرار المعاملات. ومن أجل هذا وذاك، يتطلب الأمر قراءة سليمة لهذا القانون ضمانا للتطبيق الأنجع والسليم له؛ كما نقترح إجراء تكوين للموثقين وقضاة النيابة العامة والرئاسة وإصدار دليل عملي للتوثيق العصري حتى نتمكن من توحيد مساطر المتابعات، وذلك بتعاون مع المجالس الجهوية ومحاكم الاستئناف. إضافة إلى ذلك، نقترح تدريس مادة التوثيق بالمسار الدراسي والتكويني للقاضي حتى يتعرف على أصول مهنة التوثيق وقوانينها ومراسيمها التطبيقية، والتدرب بضعة أيام في مكاتب الموثقين حتى يكون هناك انسجام لمكاتب التوثيق مع القضاء ومع النصوص والعمل القضائي. ومن جهة أخرى، لا بدّ من التأكيد على الهاجس الذي يشغل الموثقين وهو المسؤولية الجنائية التي يتعرضون لها أثناء القيام بمهامه، خصوصا مع وجود نصوص غامضة تنظم مهنة التوثيق، حيث اعتبره جلهم بمثابة قانون جنائي جديد كالمادة 27: «يتحمل الموثق مسؤولية كل ما يضمنه في العقود والمحررات من تصريحات وبيانات يعلم مخالفتها للحقيقة أو كان بإمكانه معرفتها أو العلم بها»، أو المادة 29: «إذا امتنع الموثق عن القيام بواجبه بدون سبب مشروع تحمل مسؤولية الضرر المترتب عن هذا الامتناع». وفي هذا الصدد، نطالب جميع الهيئات القضائية، من نيابة عامة ورئاسة وقضاة تحقيق، بإعطاء الفرصة للهيئات الممثلة للموثقين أو من خبرائهم لإبداء الرأي في الشكايات ضد الموثقين حتى تتبع هذه الشكايات مسارها الحقيقي والقانوني لأن الفيصل بين البراءة أو المسؤولية التأديبية أو المسؤولية الجنائية فيصل صغير جدا، وهذا يشوش على عمل الموثق والسير العادي لمكتبه. موثق بوجدة ورئيس الغرفة الجهوية للتوثيق العصري للمنطقة الشرقية