في الثاني من نونبر عام ألفين واثني عشر قال رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني، السيد محمود عباس، لمذيع على القناة الثانية الإسرائيلية إنه لا يعتبر مدينة صفد التي ولد فيها جزءا من فلسطين، وإن فلسطين عنده هي الضفة الغربية وقطاع غزة لا غير، أما بقية فلسطين التاريخية فهي، عند السيد محمود عباس، إسرائيل. كذلك طمأن السيد محمود عباس الإسرائيليين بتأكيده على أن انتفاضة فلسطينية مسلحة أخرى لن تقوم ما دام هو في منصبه. إن دوافع السيد عباس لقول ما قال بينة، فهو لا يريد أن تعتبره إسرائيل والولاياتالمتحدة «غير ذي صفة» و«عقبة في طريق السلام» كما فعلتا مع ياسر عرفات من قبله، وكان هو نفسه شاهدا على عملية تهميش عرفات سياسيا، وعزله ثم حصاره في مكتبه في آخر أيامه. يريد السيد رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أن يثبت للإسرائيليين أنه مفيد فيتركونه وشأنه، ويتركون له ولاية الرّي الحديثة، وهي شارعان وربع شارع في رام الله. إلا أن إسرائيل والولاياتالمتحدة لا ترضيان منه بالكف عن المطالبة بحقوق الفلسطينيين والسكوت عن ظلم غزاتهم لهم فقط، بل تريد الدولتان من السيد عباس أن يشارك بنفسه في هذا الظلم، أن تكون السلطة الوطنية الفلسطينية مشاركة في تأمين إسرائيل، تأمينها ما وراء الخط الأخضر، ثم تأمين مستوطنيها في الضفة الغربية حيث لا تسمح الشرطة الفلسطينية بأي عمليات ضدهم، ثم تأمين جنود جيش الدفاع القائم بالاحتلال على الحواجز وفي الدوريات السيارة التي تجوب طرق الضفة، لأن الشرطة الفلسطينية لا تسمح بأي عمليات ضد هؤلاء كذلك. تريد إسرائيل من عباس أن يخرج بنفسه لقتال المقاومة، وقد فعل. إن ما قاله السيد محمود عباس عن منع انتفاضة فلسطينية مسلحة يعني بالضبط أنه يحمي الاحتلال، وأنه لا يهدده إلا عن طريق محاولته إقناع المجتمع الدولي والأمم المتحدةوالولاياتالمتحدة بالأدب واللياقة والحسنى بأن على إسرائيل أن ترجع إليه أرضا لا يكلفها احتلالها شيئا. وقد أثار هذا التصريح من الغضب بين الفلسطينيين ما أثاره، وأنا أفهم أن نغضب، ولكن لا أفهم أن نتفاجأ؛ فما قاله السيد محمود عباس هو بالضبط ما وقعت عليه منظمة التحرير الفلسطينية من قبل في اتفاقيات أوسلو عام ألف وتسعمائة وثلاثة وتسعين، وهو ما وقع عليه السيد محمد أنور السادات في اتفاقية كامب ديفد عام ألف وتسعمائة وتسعة وسبعين، بل إن ما قاله محمود عباس هو ما قالته الدول العربية المجتمعة في بيروت عام ألفين واثنين في ما سمي مبادرة السلام العربية، وكانت تقضي بأن انسحاب إسرائيل من الضفة الغربيةوغزة وإقامة دولة فلسطينية فيها سيكافأ باعتراف جميع الدول العربية بأن ما تبقى من فلسطين التاريخية، حيفا ويافا وعكا وصفد، ليس إلا إسرائيل. إن الظالم لا يرضى منك أن تسكت على الظلم لتحظى بثماره، بل عليك أن تشارك فيه. وإسرائيل لم ترض ولن ترضى عن حكامنا حتى يكونوا شركاءها في قتلنا، حتى يكونوا كلهم كميليشيا أنطوان لحد في جنوب لبنان وبشير جميل وإيلي حبيقة وسمير جعجع، الحي منهم والميت سواء. لقد أصبحت عادة عند إسرائيل أن تذل حلفاءها غير آبهة بأن إذلالهم ذاك يضعفهم، إن إسرائيل تحسبنا جميعا نشبه حكامنا، تريد أن تقول لنا هؤلاء الحكام هم مرآتكم، إذا كانوا هم ضعفاء فأنتم أضعف منهم لأنهم متسلطون عليكم. إن وجود هؤلاء الحكام وولايتهم علينا جزء من حرب نفسية ضدنا، وجوههم رسالة إسرائيلية لنا تقول أن لا فائدة، لا جدوى من المقاومة، هكذا كنتم وهكذا ستبقون.. بعد حرب العبور عام ثلاثة وسبعين يواجهوننا باحتضان السادات لبيغن، وبعد الانتفاضة الأولى ووقوف الأطفال أمام الدبابات يواجهوننا باتفاقية أوسلو، وبعد الانتفاضة الثانية يواجهوننا برئاسة محمود عباس، وبعد الثورة المصرية يواجهوننا بما نحن فيه من مهادنة للولايات المتحدة وإسرائيل وحرب تُشن على أهلنا في سيناء. إن إسرائيل لم تنشر خطاب تعيين السفير المصري إلا لتبعث رسالة إحباط إلى الشعب المصري بعد ثورته، يقولون لنا ها أنتم ثرتم فلم تقدروا إلا أن تأتوا بمن يصادقنا ويخافنا ويتعهد بالحفاظ على أمننا. لقد نجح العدو في أن يجعل من قياداتنا السياسية أسلحة موجهة ضدنا في حرب نفسية، يذلهم ليذلنا ويذلنا لنيأس، لأننا إذا يئسنا قبلنا بالعدو كأنه قضاء وقدر. وما يجعل الأمر أكثر إيلاما هو أننا في لحظة تاريخية ليس بيننا وبين النصر فيها إلا أن نؤمن بأننا قادرون عليه. وقد قلت من قبل إنه بعد سقوط حسني مبارك، وإذا تفادينا حربا أهلية في الشام تتحول إلى حرب أهلية عامة بين كل سنة الأمة وكل شيعتها في لبنان والعراق وما حولهما، فإن بإمكان الفتيان منا أن يروا فلسطين حرة قبل أن تشيب رؤوسهم. لكن أكبر فصائل المعارضة السياسية في مصر امتنعت عن الإجهاز على نظام مبارك وأبقت على شبكة تحالفاته الخارجية، وأبى الشام إلا ما ترون. وكان ممكنا لأهل مصر أن يخرجوا من طوع أسْر الولاياتالمتحدة، وكان ممكنا تفادي هذه المذبحة في الشام، لكن طمع البعض في الانفراد بالحكم هنا وتمسك البعض بالانفراد بالحكم هناك أوصلنا إلى هنا. كذلك، فإن المنطق الطبيعي كان يملي علينا بعد سقوط حسني مبارك أن يسقط أكثر النظم العربية اعتمادا عليه وتبعية له، وهو نظام محمود عباس في رام الله، ولكن مسار الربيع العربي تفادى فلسطين بقدرة قادر، وذهب إلى ليبيا وسوريا واليمن والبحرين، لينتج تدخلا من حلف الناتو وحربا أهلية واحتواءين سعوديين بالترتيب، ويؤدي هذا كله إلى محاصرة مصر ودك دمشق، وبالتالي إلى تأجيل أي حراك في فلسطين المعتمدة دائما وأبدا على هاتين العاصمتين حتى يقدر الله لهما أو لإحداهما النجاة، كأن كل ما جرى بعد الثورة المصرية لم يجر إلا لاحتوائها وتأمين إسرائيل من خطرها، ولا شيء أخطر على إسرائيل من ثورة في مصر تتبعها ثورة في فلسطين، ولم تكن هناك قوة في الأرض يمكن أن تحتوي الثورة المصرية لو لم توافق القيادة الحالية لجماعة الإخوان المسلمين على احتوائها وإبقاء مصر في حلفها الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة خوفا من الفقر وطلبا للمال وتذرعا بالانتظار. يقولون لنا انتظروا لتروا، إن هذا التقارب مع أمريكا تقارب مرحلي، كذلك كانت تقول لنا القيادة الفلسطينية إن السلام مع إسرائيل مرحلي، وها هي المرحلية أوصلتنا إلى تصريح السيد عباس ولا حول ولا قوة إلا بالله. أيها الناس، في مصر وفي فلسطين، خير العقل ما أشبه الجنون، وأنا ما زلت أرى أننا أقوياء، وأقوى بكثير مما نظن. لا تصدقوا أن ضعف قادتكم هو من ضعفكم، هو ضعفهم هم، إنما أنتم أهل قرية في تونس لم يسامحوا في عربة خضر فغيروا العالم، فلا تسامحوا حكامكم الذين أوصلونا إلى هنا، ولا أستثني منهم أحدا، ولا تسامحوا للعدو في فلسطين. وإن كان أبو مازن لا يريد أن يعيش في صفد، فاعلموا أن بعض من يقرؤون هذه الحروف سيعيش فيها محررة ويبتسم، فقط، إذا لم تفرقكم الطائفية والعرقية وخوف الفقر، فقط إذا أردتم ذلك، وصدقتم أنكم قادرون عليه.