قبل أيام ضربت الطائرات الإسرائيلية السودان، ضربة لم تكن الأولى ولا الأخيرة، ولكن الأسوأ من الضربات هو ما يلي الضربات من تصريحات وبيانات تصدر بعد كل اعتداء، بالاعتماد على مصادر وصحف أولئك الذين قاموا بالاعتداء، وتناقلهم غير الرسمي لرواية ما حدث في سلسلة لا تعدو كونها مكملة للمهمة الأولى، ونلهث نحن لالتقاط طوق النجاة بسرد روايتهم و(فش خلقنا) وحلحلة عقدة خوفنا من قول الحقيقة. يعرف الكثير ممن فضلوا الصمت أن الضربة التي أصابت السودان لم تكن ضربة واحدة موجهة إلى مجمع اليرموك، وإنما ثماني ضربات لثماني مدن مختلفة، كما يعرفون أن الهدف لم يكن شحنات أسلحة في طريقها إلى غزة، بل كان منظومة كاملة من شبكة دفاع جوي لصواريخ «سام 7» ضربت على الأرض قبل تركيبها، وراجمات صواريخ «بي 611» و«إس واي 400»، كانت في طريقها إلى قواعدها بعد استخدامها في عرض عسكري، سبق الكارثة بيوم واحد، وأن الطائرات التي حاولت إسرائيل أن توهم المواطن العربي بأنها أتت من إسرائيل لم تأت من إسرائيل، بل أتت من جزيرة «دهلك» و«دهلك الكبير» وجزيرة «حالب وفاطمة» في الجنوب الغربي من البحر الأحمر، وهي جزر إريترية تستأجرها إسرائيل من إريتريا منذ عام 1995، وأن الجزء الآخر من تلك الطائرات وعملية الحماية قد انطلق من جزيرة «سنتيان» المواجهة لباب المندب، وجزر «جبل الطير» الإثيوبية التي تسلمتها إسرائيل من أمريكا بعد أن كانت تستأجرها منذ عام 1967. لقد جعلنا تناقل الرواية الإسرائيلية للحدث وكأننا أمة زائدة بين الأمم، نحني رؤوسنا أمام هزائمنا، ونحاول بدأب شرس أن نعلن براءتنا مما اتهمنا به، ونعاقب من يحاول اغتيالنا باستمرار من خلال احتفاظنا بحق الرد، وكأننا نكتب قصصا لإفساد أخلاق الأجيال القادمة. إن النفس الذي يحمل العبارات الوطنية في تلك البيانات هو نفس صحي، ولكنه لا يمثل جواز السفر الذي تحفظ به الدول هيبتها واحترامها بين الأمم، فتلك العبارات يجب أن تكون مجرد وقود لعربة تتحرك، وللأسف هي تائهة في ظلمة الهروب من حقيقة الواقع، حيث يظهر ذلك أفضل ما فينا من أن إرث الهزيمة موجود، ولا بد من مواطن يتحرك لتغييره، ويسلط أضواء على أبشع ما فينا من أن العنتريات موجود ويقودها حزب «عنزة ولو طارت»، حزب مكابر حد الإعجاز، له تفسيره الخاص بحق الرد وتحديد زمان ومكان المعركة، وأحزن ما فينا أن الأمل ما زال يدغدغ مشاعرنا بالرد القادم، حالنا حال المراهقين المدججين بالسلاح. ولعل أكثر ما يثير القلق أنه رغم الربيع العربي ما زلنا نشجب ونستنكر، وفي كل مرة لا نستطيع أن نقرر الثأر العربي، ولا السلام أو الاستسلام، وكل ما نقرره هو كلام رخيص يتسلط على عقولنا وكرامتنا. ما حدث مع السودان في هذه المرة والمرات السابقة هو عدوان صريح وفق التعريف الوارد في تقرير اللجنة الخاصة المعنية بتعريف العدوان، المنشأة عملا بقرارها 2330 (د- 22) المؤرخ في 18 دجنبر 1967، خصوصا ما جاء في المادة الثالثة، حيث حصر العدوان في: أ) قيام القوات المسلحة لدولة ما بغزو إقليم دولة أخرى أو الهجوم عليه، أو أي احتلال عسكري، ولو مؤقتا، ينجم عن مثل هذا الغزو أو الهجوم، أو أي ضم لإقليم دولة أخرى أو لجزء منه باستعمال القوة؛ ب) قيام القوات المسلحة لدولة ما بقذف إقليم دولة أخرى بالقنابل، أو استعمال دولة ما أي أسلحة ضد إقليم دولة أخرى؛ ج) ضرب حصار على موانئ دولة ما أو على سواحلها من قبل القوات المسلحة لدولة أخرى؛ د) قيام القوات المسلحة لدولة ما بمهاجمة القوات المسلحة البرية أو البحرية أو الجوية أو الأسطولين التجاريين البحري والجوي لدولة أخرى؛ ه) قيام دولة ما باستعمال قواتها المسلحة الموجودة داخل إقليم دولة أخرى بموافقة الدولة المضيفة، على وجه يتعارض مع الشروط التي ينص عليها الاتفاق، أو أي تمديد لوجودها في الإقليم المذكور إلى ما بعد نهاية الاتفاق؛ و) سماح دولة ما وضعت إقليمها تحت تصرف دولة أخرى بأن تستخدمه هذه الدولة لارتكاب عمل عدوان ضد دولة ثالثة؛ ز) إرسال عصابات أو جماعات مسلحة أو قوات غير نظامية أو مرتزقة من قبل دولة ما أو باسمها تقوم ضد دولة أخرى بأعمال من أعمال القوة المسلحة تكون من الخطورة بحيث تعادل الأعمال المتعددة أعلاه، أو اشتراك الدولة بدور ملموس في ذلك. وإن كانت هناك حاجة إلى قرار شجب واستنكار من مجلس الأمن، ليضاف إلى القرارات ضد إسرائيل، فإن العمل وسط دوامة الصراع التي تخلقها إسرائيل لكل الدول العربية في إفريقيا هو الأجدر، فالأمر يتطلب طلب جلسة على مستوى القمة لكل دول الاتحاد الإفريقي لمناقشة الوجود الإسرائيلي العسكري في دول إفريقيا، واستخدام الأراضي الإفريقية لتهديد الأمن القومي العربي، وشن عمليات عدوانية من خلاله، وقمة أخرى عربية موازية تبحث في الأسباب التي أدت إلى هذا المس العميق بالأمن القومي العربي من خلال الوجود الإسرائيلي في الجزر الإريترية والإثيوبية، والسبل التي يمكن اتخاذها لتشجيع تلك الدول على إنهاء تلك التعاقدات الخطيرة مع إسرائيل، فتلك الجزر قريبة قرب مجرى الدم من سبع دول عربية، والوجود البحري والجوي عليها أصبح يشكل خطرا حقيقيا على الأمن القومي العربي برمته. إن مواجهة الحقيقة مهما كانت مرارتها أفضل بمليون مرة من الهروب والاختباء وراء الروايات الإسرائيلية التي تأخذنا بعيدا عن الحقيقة التي تخافها، وتدرك أن إرادة سياسية عربية جادة لمواجهة وجودها في إفريقيا قادرة على تغيير قواعد اللعبة وخلق استقرار استراتيجي ينشده الكل العربي. من المفروض أن الشباب في العالم العربي قد تجاوز العيش على انتفاخات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى الأحلام، وأن كل احتفاظ بحق الرد لا يفقد بلداننا كفاءتها على التمسك بقيمها ومطامحها وحريتها فحسب، بل يبني أجيالا على الانكسار وتجاوز الرفض والخضوع والخوف، ويعلق مصير أمة بأكملها على منعطف مرّ يزيد ويتوسع إن لم نعالجه معالجة فعالة وشافية بمواجهة الحقيقة وتعلم فنون الاختلاف الداخلي والوحدة الخارجية. من الذي يجرؤ على القول إن البيانات التي تصدر بعد كل اعتداء ليست في الواقع إلا مخالب تنبثق من المجهول لتمزق وتنهش في أجساد المواطن العربي، وتوصل رسالة إلى المعتدي بأنه ناج بفعلته، وله أن يضيفها إلى دفتر الدين والحساب، ولنا عنده والرب كريم. لعلي أجد نفسي مضطرا إلى تذكير المواطن العربي بكلمات شارون أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست عام 1982 حين قال: «هي المنطقة التي تضم مصالح إسرائيل الاستراتيجية، وتشمل جميع مناطق العالم العربي المتاخمة، علاوة على إيران وتركيا وباكستان وشمال إفريقيا وحتى زيمبابوي وجنوب إفريقيا جنوبا. وقد توسعت هذه الدائرة في التسعينيات لتمتد من الساحل الشرقي للأطلسي غربا، إلى إيران وباكستان شرقا، ومن دول آسيا الوسطى الإسلامية شمالا إلى كيب تاون بجنوب إفريقيا جنوبا»، وهذا ليس بعيدا عن نظرية (شد الأطراف) التي ابتدعها ديفيد بن غوريون، وتعني التغلغل في الدول المحيطة بالعالم العربي وتجنيدها ضده. هذه النظرية صيغت من أجل الإجابة عن سؤال مصيري كان يواجه إسرائيل وتلخص في: كيف يمكن تحقيق الأمن لشعب قليل العدد يعيش في دولة صغيرة المساحة محدودة الموارد محاطة بكثرة عددية معادية؟ حيث أجاب بن غوريون وقتها: «نحن لا نملك القدرة على الدخول في مواجهة جبهويه مع كل الدول العربية، لكننا نملك الخيارات الأخرى لإضعاف هذه الدول واستنزاف طاقتها وقدرتها، من خلال علاقتها بدول الجوار أو الجماعات والأقليات العرقية والطائفية التي تعيش على التخوم»، وهي نظرية لا تزال سارية المفعول حاليا مع نتنياهو وليبرمان. إن كوننا نعيش حالة المخاض والتغير الداخلي في العالم العربي لا يعفينا أبدا من المسؤولية عن الأمن القومي العربي المنطلق من الأطراف، الذي أدى التهاون في التعامل معه إلى خسارة جنوب السودان، وجعل من أجواء دول عربية كبيرة مرتعا للطائرات الإسرائيلية، وتهديد مستقبلي يجب النظر إليه بكل جدية لصادرات النفط العربي عبر المحيط والبحر الأحمر، وذلك يقودنا إلى أن التغير الداخلي في العالم العربي لم يرتق إلى المستوى المطلوب على الصعيد الخارجي في ما يتعلق بمستقبل العيش المشترك والمصير الواحد. وكل ما سبق يقودنا إلى الدور المنتظر من جامعة الدول العربية التي يجب أن تخرج من الدور التقليدي في عملها إلى قضايا المصير المشترك، التي تضمن تأمين الحدود العربية ورسم معالم الأمن القومي العربي وحماية الاقتصاد العربي وتحرير الثقافة العربية من قلة الحيلة إلى العمل الذي يتلاقى وطموح الشباب العربي في الكرامة والأمن للأجيال القادمة. قد نختلف إلى حد تبادل اللكمات في تعريف مفهومنا لحدود الأمن القومي العربي، ولكننا لن نتنازل عن الاعتقاد التاريخي بالمصير المشترك، وأن ما يحدث في الشرق يؤثر في الغرب والعكس صحيح؛ ولعل تجربة الربيع العربي خير دليل، وهزائمنا وانتصاراتنا وكل الحقبة التاريخية الحديثة بوجعها المسطور في فلسطين وأهلها، علامة وبوصلة، تجبرنا على الانقضاض على ثقافة الماضي، وشطب الاحتفاظ بحق الرد من قاموسنا، والرد لا يعني دوما الحرب، فلنا من إمكانيات الرد مسالك، وعناصر القوة كثيرة، ولكن الفن يكمن في حكمة استغلالها الاستغلال الأمثل، وهذه المرة لن أدعي أنني على صواب مطلق، وأطرح الموضوع للنقاش على أوسع نطاق، أطالب فقط بالشجاعة، فهي أهم من البراعة، وأطالب بالمنطق فهو أهم من الإرث المؤلم، وأطالب بالواقعية فهي أهم من الزيف، وأطالب بالتمرد حين يكون الخضوع عارا.