حلت نهاية شهر أكتوبر ذكرى وفاة الأديب والكاتب المرموق طه حسين، الذي شغل خلال حياته الناس في المشرق والمغرب، وسارت بذكره الركبان لجرأته الفكرية التي ميزته عن غيره في وقت كان العالم العربي يعيش على اجترار النصوص والتقليد. وفي الشهر الحالي تحل ذكرى ولادته ال123 . وهذه اللحظة تشكل عند العرب من الخليج إلى المحيط الأطلسي لحظة استذكار رجل جريء وشجاع لم تمنعه إعاقته البصرية إلى النظر أبعد مما ينظر المبصرون . فقد خلق الرجل جدلا قويا وحرك الراكد في الثقافة العربية ولم تمنعه الاتهامات التي وجهت إليه حينذاك من أن يحيد عما آمن به من ضرورة استعمال العقل واستنهاضه واعتماد العلم والثقافة كأساس وليس كوسيلة، وفي هذا قال حينما سئل وهو في الديار المقدسة عما ينصح به رجال الثقافة في البلاد العربية والإسلامية: «لا أنصح لهم، لأني أهون من ذلك، وإنما أتمنى أن يرفعوا الثقافة والأدب والعلم والفن فوق منافع الحياة المادية وأغراضها، وأن يؤثروها على كل شيء، وأن يتخذوها غايات لا وسائل، وهم مطمئنون إلى أن الرجل المثقف أنفع لنفسه وللناس من الرجل الجاهل، وأن العقول التي يقومها العلم ويزكيها الفن هي وحدها التي تستطيع أن تنتج، وأن تملأ الدنيا خيراً» .وبالفعل فإن طه حسين أخلص هو الأول لهذه « الوصية»، حيث ما زال التراث الذي خلفه أحد أهم مصادر الاستنارة في عالمنا الفكري والأدبي والثقافي فقد ترك لنا إرثاً غنياً يزيد عن الخمسين مؤلفاً في النقد الأدبي والقصة وفلسفة التربية والتاريخ، وكما كبيرا من الترجمات . ولم يقتصر تأثيره على قراء اللغة العربية فقط، بل امتد إلى خارجها، وخاصة اللغة الفرنسية .ويتضح هذا الأثر الذي تركه عميد الأدب العربي في عدد مؤلفاته التي ترجمت إلى الفرنسية، فمن نحو 25 مؤلفا لطه حسين قام الناشرون الفرنسيون بترجمة أحد عشر عملا له، على الرغم من عدم حصوله على أي جائزة أدبية عالمية، مما يؤكد مكانته في الأدب العالمي، علما بأن حركة ترجمة أعمال الأدباء العرب المعاصرين كانت ضعيفة آنذاك. وقد امتد تأثير طه حسين عند الفرنسيين إلى الحد الذي دعاهم إلى البحث عن جوانب حياته الشخصية، وفي هذا الإطار أصدرت دار نشر «سيرف» الفرنسية في أكتوبر 2011 مذكرات زوجة عميد الأدب العربي سوزان، وهي فرنسية الجنسية، بعنوان «من فرنسا إلى مصر، قصة حب غير عادية». طه حسين في المغرب شكلت زيارة طه حسين للمغرب بعد الاستقلال حدثا بكل المقاييس، لكن قبل ذلك كان الرجل متفاعلا مع أحداثه، وفي هذا الإطار يكتب عبد الهادي التازي، عضو أكاديمية المملكة، أن طه حسين كتب بعد نفي الملك محمد الخامس وولي عهده وسائر أسرته إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر مقالا بجريدة الجمهورية عدد 29/12/1953م يحمل عنوان «حول هوشي منه ومحمد الخامس». وأردفه بمقال آخر في الجمهورية يوم 6/1/1954م حول «محمد بن عرفة» الصنيعة التي نصبها الاستعمار عوض الملك محمد الخامس! ويضيف «ثم كتب بعد أن ظهرت بوادر النصر في أعقاب الكفاح المرير الذي خاضه الشعب المغربي من أجل إرجاع مليكه «فرض الشعب المراكشي إرادته على فرنسا فاضطرها اضطرارًا إلى أن تعترف باستقلاله وسيادته، وأكرهها إكراها على أن تفاوض السلطان الذي أنزلته عن عرشه منذ عامين ونفته إلى جزيرة نائية في أقصى المحيط، وقدرت أنها ستجعله نكالا للثائرين بها والمتمردين عليها فلم يُغنِ عنها مكانُها الرفيع وصيتها البعيد وبأسها الشديد وسلطانها الواسع شيئا، وإنما مضى الشعب المراكشي في ثورته وأضاف عنفًا إلى عنف». ويقول التازي إن أيام عميد الأدب في المغرب كانت أيام أعراس علمية رددت صداها سائر أجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة. ومن بين ما يذكره اللقاء الذي كان مع الراحل محمد الخامس، الذي أجابه حين عبر طه حسين عن تأثره بمقابلته بأن «كل شخص مهما كانت مرتبته ينبغي له أن يؤدي واجبه في هذا المضمار! وإن الشعب المغربي يذكر كذلك ما قمتم به أيضا من أعمالٍ أثناء المحنة السياسية التي اجتازها المغرب ولا تزال عالقة بأذهاننا مواقفكم ومقالاتكم في الدفاع عن القضية المغربية مما كان له أكبر الوقع والتشجيع للأمة المغربية في جهادها. وزيارتكم هذه ستكون لها أكبر الفائدة بالنسبة للمثقفين المغاربة الذين يتعطشون لمناهل العلم في البلاد العربية». ويذكر عبد الهادي التازي أيضا محاضرته بكلية العلوم التابعة لجامعة محمد الخامس بحضور ولي عهد آنذاك الأمير مولاي الحسن ، وكانت بعنوان «الأدب العربي ومكانته بين الآداب العالمية». ويصف اللقاء بالقول بأن «القاعة غصت على سعتها بالذين كانوا في شوق بالغ إلى السيد العميد، ومازلت أذكر جيدًا أن هذا الجمهور، على سعته وتعدد اتجاهاته، ظل كأن على رأسه الطير كما يقولون. الكل، رجالاً ونساء، يصيخ بسمعه إلى ما يقول الدكتور الذي قدمه إلى هذا الجمهور الأستاذ عبد الكريم غلاب». ويضيف «لقد سمعنا صاحب السمو الملكي ولي العهد يقول:إنه يعتز بأنه أمسى من تلامذة الدكتور طه حسين، وقد أبى إلا أن يقيم حفل استقبال أكاديمي على شرف الأستاذ الكبير في قصره الخاص بحي السويس، وقد كان سموه في استقبال ضيفه، وصحِبَه إلى المائدة التي جلس حولها رئيس الحكومة ووزير الخارجية وعدد كبير من علية الشخصيات الحكومية والدبلوماسية والأدبية . ومن خلال تأريخه لهذه الزيارة يتحدث التازي أن طه حسين قدم مجموعة من المحاضرات في كل من الرباط والدار البيضاء وتطوان وفاس، ومن الأفكار التي كان قد تحدث عنها هي دعوته إلى عدم الاكتفاء بالاجترار :»المهم أن نقف مرة أخرى على التأكيد على ضرورة عدم الاكتفاء بذكر القدماء. إننا نريد -يقول طه حسين-أن نعرف ما عند الغرب أيضا ونجمع ما نعرفه عن قدمائنا وأن نكون لأنفسنا شخصيتنا الجديدة الحرة المستقلة. فلا ينبغي أن نورث أبناءنا ما ورثناه فحسب وإنما ينبغي أن نورث أبناءنا ما ورثناه وما أنتجناه نحن». وعبر عن «مشروعه» قائلا: «أنا أحب أن أثير المشكلات وأن أثير القلق من حولي . إني لأرجو ألا تقرؤوا كتاب الأغاني إلا لتقرؤوا ليس غير، ولا تتخذوه وحده مصدرا للتاريخ الأدبي. وقد أشار طه حسين إلى ضرورة التجديد والانفتاح كوقوفه حينئذ عند مشكل الشباب مع اللغة العربية، حيث إنه قال إن «الشباب العربي الذي أخذ يكتسب عقلية القرن العشرين يجد صعوبة كبيرة في مسايرة الطريقة المتبعة في تعليم اللغة العربية وآدابها، فإذا لم تصلح هذه اللغة وييسر هذا النحو فإننا نجد أنفسنا مسؤولين عن إعراض الشباب عن الأدب العربي، بل ونعتبر محرضين». ولم يفت صاحب «الأيام» أن يسجل ارتساماته عن زيارته للمغرب. إذ قال إن «الذي يزور المغرب الأقصى بعد استقلاله إنما يزور وطنًا من أوطان البطولة حقًا، فمن أعسر الأشياء وأشقها أن تتحدث إلى رجلٍ من رجال الحكم أو من رجال الثقافة أو من عامة الناس إلا عرفت أن له بالسجن عهدًا»! ذكرى رحيل ومولد طه حسين في خضم ما يعرفه العالم العربي من تحول صامت ومسموع من خلال ما جاء به الربيع العربي هل تكون فرصة للعرب لمعرفة أن التغيير هو وليد إسهامات الفكر الجريء والشجاع الذي ينظر أبعد من القدمين.