حدث ذلك منذ سنوات طويلة.. كنت حديث التخرج أعمل نائبا (طبيب مقيم) في قسم جراحة الفم بجامعة القاهرة، وكنت أتدرب على إجراء الجراحات. ذات يوم، كنت أجري جراحة في فم أحد المرضى عندما مر مدرس بالقسم معروف بشراسته. انتظر المدرس حتى انتهيت من الجراحة ثم قال لي: - الطريقة التي أجريت بها الجراحة غلط. دخلت مع المدرس في مناقشة علمية طويلة دافعت فيها عن وجهة نظري، لكنه أصر على أن ما فعلته خطأ. أثناء الحديث، لمحت أحد أساتذة القسم فطلبت منه أن يتدخل ليحكم بيننا. عرضت للأستاذ وجهتي النظر (بدون أن أحدد من منا يتبنى أي رأي)؛ فوجئت بالأستاذ يتطلع نحو المدرس ويسأله: - إنت رأيك إيه..؟ قال المدرس رأيه، فقال له الأستاذ: - إنت رأيك صح. أحسست بالقهر والغضب. وفي اليوم التالي، أحضرت معي كتابا شهيرا في الجراحة، وذهبت إلى مكتب الأستاذ؛ وما إن رآني ومعي المرجع حتى قال ساخرا: - إنت جايب لي الكتاب عشان تثبت رأيك..؟! أنا عارف إن رأيك صح. - لكن حضرتك قلت إن رأيي غلط؟ تطلع إلي الأستاذ وقال بلهجة من يلقي بحكمة عميقة: - أنت مازلت نائبا، وهو مدرس أكبر منك بعشر سنوات على الأقل. لا يمكن أن أقول له إنه غلطان قدامك. لازم أحتفظ له بالهيبة. لم أجد فائدة في الحديث مع الأستاذ، فشكرته وانصرفت. بعد شهور، سنحت لي الفرصة فسافرت للدراسة في جامعة إلينوي بالولايات المتحدة، وأسعدني الحظ بالعمل مع واحد من أهم علماء الهيستولوجي (علم الأنسجة) في العالم، هو الدكتور دنيس ويبر. كنا مجموعة بحثية من طلبة الماجستير والدكتوراه يشرف علينا الدكتور ويبر الذي جمعنا بعد شهر وقال: - اسمعوا. أريد أن أستمع إلى أفكاركم. إذا كان هناك ما يضايقكم في العمل أو كنتم تعتقدون أنني قد ارتكبت أخطاء أرجوكم قولوا لي. كان الموقف فوق قدرتي على الاستيعاب فلذت بالصمت، أما زملائي فقد اشتدوا في نقد الدكتور ويبر، وراح كل واحد منهم يدلل على نقده بأمثلة عملية في عملنا البحثي. ظل العالم الكبير هادئا يسجل كل الملاحظات، وفي النهاية قام بالرد عليها واحدة واحدة وشرح لنا خطة العمل بالتفصيل واعترف ببعض التقصير وتعهد بإصلاحه، ثم شكرنا وأنهى الاجتماع. ظللت أياما أراقب علاقة الدكتور ويبر بالطلبة الذين انتقدوه بقسوة، فوجدت معاملته الطيبة لهم لم تتغير. هاتان الواقعتان أتذكرهما معا. في جامعة القاهرة، الأستاذ دائما على حق حتى لو أخطأ حفاظا على هيبته أمام الأطباء الشبان؛ وفي جامعة إلينوي يطلب منك أستاذ كبير أن تقول ملاحظاتك السلبية على عمله ثم يستمع ويشرح ويعترف بتقصيره ويعد بإصلاحه. هذا هو الفرق بين الاستبداد والديمقراطية. لو أنك بحثت في كل وسائل الإعلام الغربية عن كلمة «هيبة الدولة» فلن تجدها أبدا لأن الهيبة الوحيدة للقانون؛ أما في مصر فإن مصطلح الهيبة شائع ومتكرر، وهو يخفي دائما ظلما وتعسفا.. هيبة الدولة معناها الاستبداد بحياة المواطنين؛ هيبة الشرطة معناها قمع المواطنين وضربهم وتعذيبهم وتلفيق التهم لهم إذا اعترضوا؛ هيبة القضاة معناها ألا تجرؤ على أن تنقد قاضيا حتى لو اشترك في تزوير الانتخابات أو ثبت أن له علاقة بأمن الدولة؛ هيبة الرئيس معناها أن يحاكم ويسجن أي شخص بتهمة إهانة الرئيس، بل إن مفهوم الهيبة ينتقل كالعدوى. بعد أن صار رئيس مصر من الإخوان، انتقل الإحساس بالهيبة إلى قياديي الإخوان فصاروا يتعاملون مع خلق الله باستعلاء وغطرسة. منذ أيام، أجرى القيادي الإخواني عصام العريان مداخلة تلفزيونية مع مذيعة من أفضل الإعلاميين المصريين، هي جيهان منصور، ولما احتدم النقاش اتهم «العريان» المذيعة بالرشوة، وأكد أنها تقبض من جهات ما لتهاجم الإخوان. لا يوجد في العالم الديمقراطي ما يسمى «هيبة الدولة أو رموز الوطن».. هذه مصطلحات الاستبداد. في الديمقراطية لا توجد هيبة إلا هيبة القانون ولا يوجد رمز للوطن إلا المواطن نفسه. الإنسان الذي أنشئت الدولة أساسا لحماية حقوقه وكرامته.. الحاكم في مجتمع الاستبداد هو رمز الوطن لأنه بمثابة شيخ القبيلة، فهو يعرف مصلحتنا أكثر منا ويقرر بالنيابة عنا، وهو يأمرنا فنطيع، وغالبا ما يكون ظالما وفاسدا، لكننا لا نجرؤ على محاسبته لأن ذلك يعد مساسا بهيبة الدولة وتطاولا على رموز الوطن.. في البلاد الديمقراطية الحاكم خادم الشعب بمعنى الكلمة، من حق أبسط مواطن ولو كان كناسا في الشارع أن يحاسب الرئيس وأن يشتد في نقده فلا يعاقبه أحد، بل إن القانون في البلاد الديمقراطية يحمي المواطن العادي من السب والقذف ولا يحمي رئيس الدولة. لو أنك قلت لجارك أمام الشهود: «أنت كذاب وأفاك» يستطيع أن يقاضيك ويحصل على تعويض؛ أما لو ظهرت في التلفزيون وقلت إن رئيس الوزراء أفاك وكذاب، فلن يعاقبك القانون لأنه يسمح بنقد المسؤول الحكومي مهما كان النقد قاسيا ومقذعا تحقيقا للصالح العام. في مصر، يبدو الرئيس مرسي مستمتعا بمحاكمة المصريين وحبسهم بتهمة إهانة الرئيس. هناك مواطن اسمه بيشوي البحيري يقضي عامين في السجن لأنه أهان الرئيس مرسي على موقع فيس بوك، وكأن رئيس الدولة ذاتٌ مقدسة لا تمس. الرئيس مرسي نفسه تربى في جماعة الإخوان المسلمين التي ينشأ أعضاؤها على الطاعة المطلقة وتقبيل يد المرشد، ولقد رأينا في تسجيل فيديو كيف يتزاحم أعضاء الإخوان حتى يفوز المحظوظ منهم بوضع الحذاء في قدم المرشد الكريمة الطاهرة. من تربى في هذا الجو سوف يحمل ثقافة الاستبداد قطعا. بعد أن نجح الرئيس مرسي في تنحية المجلس العسكري عن السلطة، دعا إلى القصر الجمهوري بعض الشخصيات العامة كنت بينهم، ذلك اليوم وجهت إلى الرئيس سؤالا محددا: - لماذا قمت بتكريم المشير طنطاوي والفريق عنان بينما تطالب القوى الثورية بمحاكمتهما على المذابح التي حدثت في عهدهما..؟! وهل يعتبر تكريمك لهما نوعا من الاتفاق معهما على الخروج الآمن بحيث تضمن لهما عدم ملاحقتهما قانونيا..؟! عندئذ أجاب الرئيس مرسي بحماس: - أريد أن أؤكد لكم جميعا أنه بعد الثورة لا يوجد أي شخص فوق المحاكمة حتى لو كان المشير طنطاوي أو الفريق عنان. هذا ما قاله الرئيس أمام شهود كثيرين، وكالعادة فعل عكس ما يقول. في الأسبوع الماضي، تدفقت البلاغات ضد المشير طنطاوي والفريق عنان تتهمهما بالكسب غير المشروع وتضخم الثروة بينما هما موظفان عموميان لهما رواتب ثابتة، وتتهمهما أيضا بالمسؤولية عن قتل المصريين في المذابح التي حدثت في عهدهما.. كل هذه اتهامات جدية تستدعي المحاكمة، لكن الجيش أصدر بيانا يدين فيه إحالة طنطاوي وعنان على المحاكمة ويعتبر ذلك تعديا على هيبة القوات المسلحة وإهانة لرموز الوطن.. أما الرئيس مرسي فقد تملّكه الخوف وأعلن في اليوم التالي أنه لن يسمح أبدا بإهانة رموز الجيش ولا قياداته الحالية أو السابقة.. كما أكد الرئيس أنه يريد أن يطمئن الجيش على مخصصاته وميزانيته ومشروعاته التي لن يمسها أحد.. إن المنطق الذي يقدمه بيان الجيش وهو يرفض محاكمة طنطاوي وعنان يعني، ببساطة، أن المصريين ليسوا سواء أمام القانون. مادمت ضابطا كبيرا في الجيش فمن حقك أن تفعل ما تشاء وليس لأحد أن يحاسبك لأنك أصبحت رمزا للوطن. من حق أي قائد للجيش، إذن، أن يأمر جنوده فيقتلوا المتظاهرين ويلقوا بجثثهم في القمامة ويسحقوهم بالمدرعات ويهتكوا أعراض البنات ويسحلوهن في الشوارع. وليس من حقنا أن نحاسب أحدا على هذه الجرائم حفاظا على هيبة الجيش. من حق قائد الجيش أن يقتني القصور والأراضي الشاسعة ويراكم ثروة ضخمة ولا يجرؤ أحد على سؤاله «من أين لك هذا؟!»، لأنه صار رمزا للوطن لا تجوز مساءلته.. في مصر التي يعيش نصف سكانها تحت خط الفقر تنشئ القوات المسلحة مشروعات بالمليارات لا نعرف عنها شيئا. أموال طائلة نرى آثارها على بعض قادة الجيش ولا نعرف أبدا حجمها ولا مصدرها ولا طريقة توزيعها وكأن الجيش قد صار دولة داخل الدولة. إن احترامنا واعتزازنا بالقوات المسلحة ثابت وعميق، لكن حماية المخطئين لأنهم عسكريون سلوك ظالم لا يمكن قبوله في دولة محترمة. إذا كان الرئيس مرسي يرى في محاكمة المشير طنطاوي والفريق عنان مساسا بهيبة الجيش فلماذا يوافق على محاكمة أحمد شفيق الذي كان قائدا للطيران، وبالتالي يعتبر رمزا للوطن مثل طنطاوي..؟! وإذا كان ذلك منطق مرسي فلماذا يوافق على محاكمة مبارك.. ألا يعتبر أيضا رمزا للوطن؟! وهل تجوز محاكمة جمال وعلاء مبارك.. ألا يعتبران أيضا رمزين (ولو صغيرين) للوطن مثل أبيهما.. فلنتعلم من الآن فصاعدا أن الوطن ليس له رموز. رمز الوطن الوحيد هو المواطن. الدولة ليست لها هيبة، لكنها تستمد هيبتها من قوة القانون وليس من حماية القتلة والفاسدين.. إن صورة الرئيس مرسي الآن أوضح من أي وقت مضى. الرئيس مرسي رجل يعد ولا يفي أبدا وهو يقول كلاما جميلا ويأتي بأفعال قبيحة. الرئيس مرسي مصرّ على إبقاء الإخوان المسلمين كتنظيم خارج القانون وفوق المحاسبة. إننا لا نعرف ميزانية الإخوان ولا نعرف ما إذا كانوا يتلقون تمويلا من داخل مصر أو خارجها، بل إننا لا نعرف إن كان الرئيس مرسي يتخذ قراراته بنفسه أم إنه يتلقى تعليماته من مرشد الإخوان الذي قد يكون الحاكم الفعلي لمصر، بل يتضح الآن لنا ما هو أخطر: لقد عقد الرئيس مرسي اتفاقا للخروج الآمن مع المجلس العسكري ضمن فيه عدم ملاحقة أعضائه قضائيا، وهكذا تنكر الرئيس لدماء الشهداء وأعطى عفوا لا يملكه إلى من لا يستحق.. مرة أخرى، تخلى الإخوان عن الثورة وباعوا مبادئها من أجل السلطة. لقد قامت الثورة المصرية من أجل الحق والعدل.. لن تسمح الثورة بأن يكون أحد فوق المحاسبة مهما يكن منصبه في الدولة.. الثورة مستمرة حتى تتحقق أهدافها كاملة. الديمقراطية هي الحل.