تم، خلال السنوات الفارطة، تدشين نقاش واسع، عبر ربوع العالم، حول ما يسمى، عادة، بحوار الحضارات أو التحالف بين الحضارات أو التواصل الحضاري... لكن هذا النقاش ظل تأثيره محدودا عند ما حققه من صدى إعلامي غطى، في الحقيقة، على جوهر الداء، حينما كان يقدم مهدئات عديمة الجدوى دون الإقدام على طرح القضية بكامل الوضوح دون لفٍّ أو دوران. ولأن هذا النوع من الحوار يخص، بدرجة أولى، الغرب في علاقته بالعالم العربي الإسلامي، فقد تم ربطه بشبكة من المصالح التي تم نسجها، من خلال التحالف القائم بين النموذج التكنولوجي الغربي ومصادر الطاقة التي تتمركز في الشرق الأوسط خاصة، وعلى امتداد رقعة العالم الإسلامي بشكل عام. حوار الحضارات أم صدامها؟ من هنا يمكن أن نتساءل، بشكل عفوي: هل كان الحوار، أصلا، حوارا حضاريا، يسعى إلى تقريب المسافة الفاصلة بين نموذجين حضاريين مختلفين، جمعت بينهما قرون من الصراع؟ أم كان حوارا تتحكم فيه المصالح الاقتصادية المتبادلة بين الطرفين، ما دام كل طرف يقدر درجة التهديد الذي يمكن أن يشكله الطرف الآخر؟ وبالتالي يمكن لهذا النوع من الحوار أن يعيش على إيقاع المد والجزر، في علاقة بدرجة المصالح أو التهديدات الموجودة. إن الأزمات المتوالية التي طبعت علاقة الغرب بالعالم العربي الإسلامي كانت، في الحقيقة، امتدادا لنوعية العلاقة الرابطة بين الطرفين، وهي علاقة يطبعها جهل مزدوج، أي أن كل طرف يصر على تجاهل المقومات الحضارية للطرف الآخر، ولذلك فهو لا يتوانى في احتقارها بل وتهديد وجودها. لكن، إذا كان جزء كبير من العالم الإسلامي قد دخل، منذ القرن التاسع عشر، في تثاقف مثمر مع الحضارة الغربية، من خلال الانفتاح على آدابها وعلومها واقتصادها، وذلك من خلال بذل مجهودات فكرية جبارة من طرف النخبة الفكرية والسياسية والاقتصادية. وقد ساهمت هذه المجهودات، إلى أبعد الحدود، في جسر الهوة الفاصلة بين الطرفين، لينتقل بذلك الغرب، في المتخيل الإسلامي، من دار الكفر والحرب إلى امتداد حضاري، أصبحت نسبة كبيرة من المسلمين تنفتح عليه وتستفيد منه دون أدنى مركب نقص. إذا كان الأمر كذلك في العالم الإسلامي، فإن الأمر كان مختلفا تماما لدى الطرف الآخر، فقد نظر الغرب، منذ بوادر نهضته الأولى، إلى العالم الإسلامي باعتباره دار حرب ودار كفر، بالمعنى القروسطوي للكلمة، ولذلك فقد استباح سفك دمائه، بالمعنى المادي والرمزي، وقد كان الثأر هو المتحكم في علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، ومن ثم تمت استعادة معجم حربي متكامل لتأثيث المشهد السياسي المنفجر، من الإنسان الأبيض/المسيحي المتفوق الذي يغزو العالم لنشر القيم والحضارة، إلى الحرب الصليبية المحشوة بلفاف ديني/طهراني، يبيح للغربي (المؤمن) قتل وتشريد المسلم (الكافر). إن أزمة المآذن التي أثيرت في سويسرا، وكذلك أزمة الرسوم المسيئة إلى الرسول (عليه السلام)، وأخيرا حرق نسخة من المصحف الشريف، وبعده الفيلم المسيء إلى نبي الإسلام وبتزامن معه رسوم كاريكاتورية مسيئة... إن هذه الأحداث جميعها ليست، في الحقيقة، سوى الشجرة التي تخفي الغابة المتوحشة التي ترفل في اللاشعور الجمعي للغرب، غابة تفرج عن وحوشها المفترسة، كلما تعلق الأمر بقضية ترتبط بالإسلام والمسلمين. وإذا عدنا إلى افتحاص وتفكيك الصورة، التي نسجتها نخبة الغرب عن الإسلام والمسلمين، يمكن أن نستوعب بشكل جيد هذا الرعب؛ فقد صاغ هكتنكتون كتابا كاملا (صدام الحضارات) حذر فيه الغرب من العدو الأخضر القادم، والذي لا يختلف في شيء عن العدو الأحمر (الشيوعية) المندحر، لذلك يجب أن تستعمل نفس الوسائل القديمة في المواجهة القادمة، والغاية المحورية هي المحافظة على طهرانية الغرب المسيحي-اليهودي من دنس الشرق الإسلامي-الكونفوشيوسي. لذلك يجب على الغرب أن يحافظ على تماسكه ونسقيته، باعتباره يشكل نهاية للتاريخ وتتويجا للتطور الإنساني، منذ العصور البدائية الأولى وإلى الآن، يقول فوكوياما (الكونفوشيوسي على الطريقة الأمريكية). إن كل تطرف، على مستوى الممارسة، يزكيه تطرف مماثل، على مستوى الفكر، ونحن هنا لا نجانب الصواب حينما نعتبر أن الحركة اليمينية المتطرفة في الغرب تعتبر صياغة إيديولوجية متماسكة لمجموع الأفكار التي طرحت منذ هيجل، ومرورا بالمرحلة الاستشراقية، وانتهاء بفوكوياما وهكتنكتون. وهي أفكار انطلقت من مركزية أوربية شوفينية تعتبر أن الغرب هو مركز الحضارة التي يجب أن توزع بالتقسيط على شعوب العالم. وقد قادت مثل هذه الأفكار حركة استعمارية متوحشة خلال القرن التاسع عشر، وهي ما تزال إلى حدود الآن تقود حروبا تدميرية بشعة، باسم نشر الديمقراطية والحرية خارجيا، وفي نفس الآن تقود، داخليا، حركة يمينية متطرفة تعادي كل ما هو مغاير ومختلف عن النموذج الأوربي-الأمريكي، بادعاء الخطر الذي يشكله هذا المختلف والمغاير على النموذج الطهراني للغرب. إن النقاش الدائر اليوم حول الانتهاكات الجسيمة التي يمارسها الغرب، مؤسسات وأفرادا، في حق منظومة حضارية ضاربة جذورها في أعماق التاريخ والحضارة الإنسانية، وذلك باسم حرية التعبير المفترى عليها، أن نقاشا من هذا النوع لا يجب أن يقتصر على المقاربة الوصفية السطحية التي تكتفي إما بمسايرة الفعل (من منظور ليبرالوي فج) أو برد الفعل (من منظور سلفي متهافت)، ولكن يجب أن نتجاوز ذلك إلى تفكيك وتحليل ما يجري ووضعه ضمن سياقه التاريخي والفكري، والأمر هنا يتجاوز الفعالية الاحتجاجية (العنيفة) التي تسيء إلى قضيتنا أكثر مما تخدمها، وذلك في اتجاه التأسيس لفعالية فكرية مؤهلة لفهم وتحليل ما يجري، في علاقة بالمثيرات التي تستهدف تحقيق استجابات من نفس جنسها. ضرورة تفكيك مفهوم الحرية تعتبر الحرية قيمة أساسية ضمن المنظومة الفكرية والقانونية الغربية، إذ يقترب الأمر أحيانا من مستوى القداسة. ويعود ذلك، تاريخيا، إلى مجموعة من العوامل التي يمكن تناول بعضها: - مارست الكنيسة طوال قرون من الزمن حجرا تاما على المواطنين، بدعوى تمثيلها للحق الإلهي الذي كانت تفوضه للملوك. وقد شمل هذا الحجر جميع مجالات الحياة، فعلى المستوى الديني لم يكن يسمح بأي نقاش خارج البراديغم الفكري/الكنسي السائد، ولذلك منعت كتب ابن رشد من التداول، لأنها تدعو إلى إقامة الاتصال بين الشريعة (الدين) والحكمة (الفلسفة/التفكير)، كما حوربت جميع المحاولات الداعية إلى الإصلاح الديني (مارتن لوثر/كالفن). ونفس القانون سرى على مستوى الممارسة العلمية، فقد حورب العلماء بادعاء أنهم يزعزعون الإيمان ويمثلون خطرا على النسق الديني الكنسي، وخير مثال يحضرنا يرتبط بكل من كوبرنيك، صاحب نظرية دوران الأرض ومركزية الشمس، وكذلك كاليلو، الذي دعم هذه النظرية وأثبتها بالدليل الرياضي، فقد أدين العالمان من طرف الكنسية وتم حظر كتبهما؛ - كرد فعل على القيود التي فرضتها الكنيسة، في شراكة مع الملوك والباباوات، على حرية التفكير والإبداع والتعبير، قامت ثورات عارمة عمت كل أوربا، وإذا كانت مطالب هذه الثورات سياسية، بالدرجة الأولى، عبر الدعوة إلى القطيعة السياسية مع الأنظمة الملكية المطلقة الحاكمة، فإن الصراع كذلك لم يخل من الشحنة القيمية، حيث حضرت الدعوة إلى الحرية، باعتبارها قيمة القيم، وذلك بهدف تحطيم القيود الكنسية السائدة؛ ولذلك فقد كان ثالث مبادئ الثورة الفرنسية، مثلا، هو الحرية. ضمن هذا الإطار التاريخي وهذا السياق السياسي والفكري، إذن، يمكن أن نفهم كيف تحولت الحرية إلى قيمة مقدسة، لا يمكن المساس بها، وهذا ما تمت بلورته، في ما بعد، من خلال مذهب فكري كبير ساهم، إلى أبعد الحدود، في تشكيل الفكر الغربي الحديث، وهو المذهب الليبرالي، الذي اتخذ من لفظ الحرية جذرا لغويا (وكذلك فكريا). كاتب وباحث أكاديمي