المفارقات التي يعرفها المشهد ا لثقافي في المغرب أن الكثير من المثقفين، وحتى بعض الصحافيين المعنيين بالشأن الثقافي، ما زالوا لم يخرجوا بعد من سبعينيات القرن الماضي.. أعني أن هؤلاء، ما زالوا، في ما يكتبونه، لا يتجاوزون هذا التاريخ ويكتفون بالإحالة على هذا الزمن وعلى مرجعياته، في الفكر والشعر والرواية والنقد وغيرها من حقول المعرفة والإبداع.. ما يعني أن زمن الفكر والشعر والرواية والنقد انحسر في هذه الحقبة من الزمن وأن ما بعدها، مما بلغ إلى اليوم ثلاثة عقودٍ تقريباً، ليس بنفس أهمية ما جرى في السبعينيات.. لعبت الجامعة دوراً كبيراً في تكريس هذا الواقع، لكون عدد من مثقفي هذه المرحلة هم مدرسون في هذه الجامعات، وهم من يشرفون على تدريس الفكر والشعر والرواية والنقد ويشرفون على اختيار النصوص المقررة، كما يشرفون على الرسائل والأطروحات الجامعية، ما يعني أنهم ينحازون إلى اختياراتهم وإلى ما اعتبروه الفكر والشعرَ والرواية والنقد، نافين غيره مما جاء تالياً عليهم.. ثمة استثناءات، أقْدمَ عليها بعض المدرّسين الجامعيين ممن وضعوا المعرفة والإبداع في سياقهما التاريخي وشرطهما المعرفي، الذي يفرض وجود أجيال جديدة من المثقفين والكتّاب دون تمييز أو انحياز، مما لا علاقة له بشروط البحث العلمي ولا بما تقتضيه المعرفة نفسها من تحوّلات، في الرّؤى والمفاهيم وفي طبيعة الأسئلة، التي ليست بالضرورة هي نفسها التي كانت قائمة في عقد السبعينيات ولا في ما قبلها. من يتأمَّل ما يجري في المشهد الثقافي الراهن في المغرب سيُدرك المسافة الفاصلةَ بين ما كان وما تجري عليه الأمور اليوم. وحين أحصر الأمرَ في الشّعر، دون غيره، يصعبُ على المتتبّع لِما يصدر من دواوين شعرية أن يواكب هذه الوفرة من الإصدارات، سواء ما يصدر منها عن ناشرين أو عن بعض المؤسسات الثقافية أو على نفقة الشعراء أنفسهم.. يصعب تجاهُل هذه الوفرة أو اعتبارها غيرَ مفيدة في قراءة المشهد الشعري الراهن في المغرب، بغضّ النظر عن قيمتها. فهذا أمر يعود إلى لمتابعة النقدية وإلى قراءة هذه الأعمال ومراجعتها، باعتبارها اقتراحات «إبداعية»، اختارت الشّعرَ كتسمية أو نوع كتابي، بالأحرى. الجامعة خارج سياق ما يجري ولا علاقة لها بمحيطها الثقافي وهي، في جملتها، ما تزال تتغذى من الماضي، والنقد أصبح خارج النص، لأنه انحاز إلى الأشخاص، ما جعله يفقد القدرة على التمييز وإدراك معنى ومفهوم «القيمة» في النص، والصِّحُف لم تعد تواكب الكتابات الجديدة، أغلبها لا تتوفر على ملاحق أو صفحات ثقافية حقيقية. وهذا الوضع المُركّب هو ما جعل المشهد الثقافي يكون مُشوشاً، مُلتبِساً وبدون معرفة واضحة، ما أدَّى إلى الاكتفاء بعقديْ الستينيات والسبعينيات، لكون هاتين المرحلتين عرفتا اهتماماً ومتابعة، رغم ما تحتاجانه، بدورهما، من مراجعات، في ضوء ما حدث من مستجدّات ومعطيات وما أدّى، بالتالي، إلى اعتبار العقود الأربعة اللاحقة غيرَ مفيدة في المراجعة والمقاربة والحكم.. ليس مفيداً، تماماً، أن يكون تاريخ المعرفة مغلقاً أو مكتفياً بجيل دون جيلٍ أو بزمن دون زمنٍ.. لأن تاريخاً بهذا المعنى هو تاريخ لم يغادر ماضيه وهو ناكص على عقبيْه، لا مستقبل له أبداً. شاعر وناقد مغربي