في كتاب "المأدبة" ينصح أفلاطون المقبل على الفلسفة بأن يذكر النفس كل حين، خشية أن يغفل، أن مشاغل الفيلسوف ليست لعبة ذهنية عديمة الجدوى، ولا تمرينا للعقل يشبه الكلمات المتقاطعة، بل هي ملاحظة مفعمة بالمشاعر. ونحن نسأل بدورنا، إذا كانت المشاعر على هذا القدر من الأهمية في الفلسفة، والفلسفة مجالها العقل؟. فما شأنها في النقد أو في الخطاب الواصف بوصفه منهجا ورؤية واستبارا حسيا وعقليا لخطاب؟ ذلك أن : "تحليل قصيدة من الشعر ليس مجرد تمرينات أو استعراض معلومات ولكنه موقف من العالم، له أبعاد معرفية وفلسفية ومعتقدية" كما يقول محمد مفتاح. إن الموضوع، على بساطة عنونته، مخادع ينطوي على فخ منصوب، ودلالة ماكرة. ثمة ما يقود إلى تقليب النظر في فكرة المحور.. وما يستوقف المتأمل في التركيب من حيث هو حمال أوجه ومعان. من ذلك أن الجملة خبر لمبتدأ محذوف.. وأنها إقرار بواقع الحال: (هذا راهن النقد الشعري في المغرب) لا غير. والمسكوت مكشوف، إذ فيه مصادرة على البحث والمنشود. أو أن هذا الراهن مرتهن في وجوده ومشروط بوجود قبلي بما يفيد قيام الشعر في المغرب وانتشاره وتلقيه. وإذا احتكمنا إلى الحد اللغوي المعجمي، أمكن الوقوف على مفارقة لطيفة وغريبة: واقتضاؤها المعنوي يستوجب التوسيع والتحميل والرحابة. فعن أي نقد شعري ينبغي أن نتحدث؟ عن نقد الشعر المغربي المكتوب بالعربية أو المكتوب بالفرنسية أو المكتوب بالأمازيغية أو بالعامية (الزجل)؟ كما أن النقد كما مورس على الخطاب الشعري في فترات ضاربة ليس هو النقد الذي يمارس على الكتابة الشعرية راهنا: فالسابق وفي بمعناه ومنجزه ودوره في تمييز الجيد من الرديء، وتقويم الأعمال الأدبية، وإصدار الأحكام القيمية على المقروءات، بينما ينحصر راهن النقد الشعري الآن ومنذ عقود ثلاثة في الأقل، على المقاربة الواصفة والتحليل والتطبيق أحيانا، والتأويل في الأبعد من دون افتحاص التجربة الشعرية/ التجارب الشعرية المختلفة، وتصنيفها بعد التمحيص والمدارسة والمساءلة... لتمييز ألق الشعر من رماده ! وأين نضع مفهوم القراءة الشعرية؟ والمقاربة والمقترب، والدراسة النصية؟ ولماذا يلتبس النقد بهذه التسميات كما تلتبس به؟ وهل عندنا نقد شعري بالفعل؟ إن التحليل جزء من النقد، وهو أحد مقوماته التي ينهض عليها. فهو تشريح وحوار ومفهمه وتوسيع بهدف استبطان المعنى وإعلانه. والقراءة جزء من النقد أيضا.. فهي انتواء لرفع الأستار أوالحجب الأولى، وابتناء بما يتيح للنص المقروء الإنسجام الكلي، واتساق مكونات الخطاب، واستجلاء دلالات القرب، ودلالات البعد ?بينما تختبر المقاربة وثوق الخطو من ارتباكه. وهو ارتباك تقول به الذات المقاربة ارتعاشة العشق، و ارتجاف اليد، وهي تعلي البرقع أو تنزل اللثام عن مقام الوجه المستور لتحترق فجأة بالنور المتدفق، والضياء القاسي. من هنا، يتم الحديث عن القراءة العاشقة، إذ هي هي، إلا إذا قيدت المقاربة بالصفة: النقد أو بالمصدر الصناعي : (النقدية: مقاربة نقدية. فحينها يصبح العشق تورطا، والخطوة الخجلى اختراقا وانتهاكا ما يفيد الاستبطان والاستضمار والترحل في أطواء القصيدة والنزول إلى مهاويها... أو الصعود والعروج إلى أجوازها وسماواتها. فأين نضع ما يقرأه النقاد بالتسمية المحض أو النقاد الشعراء بالصفة القيد؟ هل ما نشر ضمن كتب أو في مجلات وصحف سيارة نقد شعري؟ أم نقد للشعر؟ أم قراءة أم تحليل أم مقاربة أم مقترب؟ أم هذه جميعها مكونات تتعاضد وتتشابك في المفهوم الجامع : (نقد) لتقول تأويلها في الشعر المنقود، متوسلة منهجا معينا أو مناهج مزجية، أو معولة على رجع صدى المقروء وانطباعه في نفسيتها وإحساسها وذائقتها أو حدسها ووجدانها أو عقلها؟ وفي كل الأحوال، فما لا نختلف فيه هو أن الخطاب الوصفي يتجه. وهذا أحد أبعاده ? إلى خلق وعي بالظاهرة الأدبية. أشير ثانية، إلى أن نقد الشعر ليس هو النقد الشعري. فالجملة الأولى نكرة رغم اتشاحها بالتعريف، فالمركب الإضافي أدنى من المعرف بالألف. وفوق ذلك، فالنكرة تتخطى الشعر... لتصل إلى كافة الأجناس الأدبية. أما الجملة / الفكرة، فتجعل النقد محصورا في الشعر، مبللا به بمقتضى قيد الوصف والتوصيف، ومتورطا في مضايقه. وإمعانا في الفرق نضيف أن "نقد الشعر" يستدعي العدة والإبقاء على المسافة، وإخضاع النص لسلطة اللوغوس والميتوس. وبالتالي يكون المحور قد طرح السؤال الضمني الذي ينبغي طرحه وهو: ما هي حال النقد الشعري في المغرب راهنا؟ أو كيف تنظرون إلى راهن النقد الشعري في المغرب؟ أو : هل هناك نقد شعري راهن في المغرب يسهم في التعريف بهذه الشعرية عاشقا، ومحللا ومؤولا، ومفككا ومركبا، وساعيا إلى رصد الخطاب الشعري المغربي من حيث إظهار جوهره، وقيمته المضافة ورهانه الجمالي، وحمل الناس بالحسنى على محبته وتشربه؟ ونزيد توسيعا للمحور حين نعتبر أن النقد الشعري بالمغرب يستنزل في مجاله وضمن أفقه كل ما كتبه نقاد مغاربة أو نقاد شاعريون في الشعر العربي أو الغربي، وبالتالي تنفتح اللائحة في وجه الخطيبي واللعبي والعربي الذهبي ومحمد مفتاح وكيليطو ورشيد يحياوي وحسن نجمي ومحمد خطابي ومصطفى الحسناوي وحسن مخافي و سعيد الحنصالي ويوسف ناوري... إلخ. بالإضافة إلى الأطاريح والرسائل الجامعية التي اتخذت النقد الأدبي مطية والشعراء العرب المعاصرين موضوعا وهدفا. ثمة جملة من الأسئلة تنطرح على ضمور الخطاب الواصف الراهن، وتترجح بين التبرير، والرمي بالعي، والوصم بالمعيارية والتخشب. ولنا أن ننصت لبعض الملاحظ المختلفة تمهيدا للإدلاء بوجهة نظرنا. لن نخوض في مسألة تاريخية الخطاب المغربي الواصف ولحظات بنينته، لأن الراهن يسيج الخطو، ويتحكم في زمنية القصد والمسعى. حسبنا الإشارة إلى محطاته القوية وأسمائه المؤسسة. فهل نصادر على التفرعات والتشعبات ونقول بالقطبين اللذين ناس بينهما النقد المغربي جذبا ونبذا، عنينا: النقد الواقعي الجدلي الذي امتد إلى البنيوي التكويني، والمقاربة اللسانية السيمائية التي تغيب التأويل، واستيحاء النظريات الجمالية؟ ومع ما نزعمه من صواب ظننا، فلا أقل من أن نستأنس بالمهادات الميتالغوية التي أسست لوعي ثقافي وجمالي إلى حد ما بالظاهرة الإبداعية. 1-النقد السجالي الذي عرفه النقد السبعيني من القرن الفائت في سنواته الأخيرة: 87-88-89 على يد ثلة من الكتاب والشعراء وهم: (حسن الطريبق- كبور المطاعي (أحمد المجاطي)- نجيب العوفي محمد بنيس ?بنسالم حميش- محمد فقيه- العياشي أبو الشتاء- محمد بنطلحة ?حنون مبارك)، حيث الأفضية والاقنية هي أعمدة الملحق الثقافي لجريدتي "العلم" و"المحرر". وبرغم انفعالية هذا النقد، ولغته المتشنجة، وما حملت من إحن وسخائم، فإنه لم يخل من التماعات وبوارق إذ طرح المسألة النقدية باحتداد، وإن في خضم نشر الغسيل والتعرية. ووضع اليد على جملة من القضايا المرتبطة بالمصطلح النقدي والمنهج العلمي، والأداة المعرفية، والأدب بعامة، ومعنى الأدلوجة. 2-النقد الصحفي: يقول نجيب العوفي: "(كانت الصحافة هي الموئل الأول والمتاح الذي وجد فيه النقد المغربي المعاصر منتجعه ومتنفسه، وكانت الملاحق الثقافية على نحو خاص هي حواضن جهوده، وأمكنة حضوره، في سياق ثقافي كانت إمكانات الطبع والنشر فيه محفوظة بالمشاق والتكاليف): ورقة مؤتمر اتحاد كتاب المغرب). غير أن الممارسات اللغوية الواصفة لم تسلس قيادها، على علات تلك الممارسات، إلا لثلة من الكتاب الذين جعلوا من متابعة ورصد المنجز الأدبي ?آنئذ- شاغلهم وهاجسهم، وموضوع متابعتهم ومقاربتهم، وهم حصرا: ادريس الناقوري وعبد القادر الشاوي ونجيب العوفي وإبراهيم الخطيب. كان المنهج الواقعي ?الجدلي حتى لا نقول الإيديولوجي- وأطياف لوكاتش المعطوبة ترجميا، ديدنهم ودليلهم إلى ولوج ليل النصوص. (لم يحضر منذور رغم استضافة برادة له ? ولا طه حسين رغم استضافة أحمد بوحسن له من جهته). ففي ضوء رؤاها الإيديولوجية والجمالية مع بعض التحفظ، تم اختبار صدقيتها ومقصديتها وجماليتها ولو بشكل شاحب ورجراج. وتحت ظلال البنيوية ?التكوينية الكولدمانية، والأسلوبية الكوهينية والدلائلية والشعرية المكتوب باللغة العربية من لدن محمد بنيس وعبد الله راجع، مع إغفال- أو عدم إدراك- الأبعاد الجمالية للخطاب المقروء من حيث الفلسفة الاستيتيقية التي تسندها، إذ غاب مفهوم الشكلانيين للأدبية، وغامت الحدود الأبستيمية بين المناهج الوسائط القرائية للمنتوج الإبداعي. نقول ذلك، ونحن نستحضر سلطان المرحلة وحرائقها، فلا مجال لمحاكمة الخطاب الواصف المنقوع في التاريخ والواقعية، والإلتزام وأدبيات البنية التحتية، (فلقد ظهر نجيب العوفي ?مثلا- والحكم يسري على الرعيل المجايل له- في مرحلة كان بروز المثقف فيها، مشروطا بالإندماج في غمرة المعتقدات الشائعة وقتها، عن النهضة ?والتقدم وبناء الثقافة الوطنية والديمقراطية، وسواها من الاختيارات التي جعلت الفاعل الثقافي محكوما بالتجاوب الواعي مع أشواق التغيير الماثلة تعبيراتها الواضحة والرامزة، وفي الوجود العام للأفراد والمجتمع، مع الاعتبار الذي يمكن أن نراه هنا حلية لجيل كامل من المشتغلين بالعمل الثقافي والفكري.، وأعني به الوعي النقدي الذي كان لهم دليل ممارسة)- (عبد القادر الشاوي من تذييله لكتاب العوفي : "مساءلة الحداثة"). وكان للنقد الجامعي اليد الطولى في استنبات معرفة جديدة بالخطاب الواصف العربي في تمظهره اللساني والسيميائي. وتحققت هذه المعرفة من خلال اختبار منطلقات ومبادئ وأسس الخطاب إياه على وفرة من النصوص الشعرية، مما أفضى إلى الرفع من درجة الانتباه، وتداول الخطاب الشعري المعني، وإعادة النظر في شروط القراءة وأدبية النص المتلقى. لكن بعضه سقط في المنهاجوية والتعمية والاستعراضية. يقول نجيب العوفي: (.... وأعني بها الارتهان غير المشروط للمنهج على حساب النص المقروء. والمناهاجوية بذلك تؤدي إلى وثنية أو "فيتيشية" المنهج؛ فيستعاض عن المبدإ المعروف : (النص ولا شيء سوى النص، بمبدإ ناسخ ومضاد: (المنهج ولا شيء سوى المنهج. والنتيجة الحتمية التي تفضي إليها المنهاجوية آخر المطاف، هي اغتراب النص والمنهج والناقد والمتلقي). بينما اكتفى بعضه الآخر بالموطوء والمطروق والمحروث بدعوى التشابه والاستنساخ والحافرية، والعوز المعاناتي، وانفلاش التجربة الروحية والحياتية، وضمور العائدية المعرفية والتراثية فيما يخص شعر الأنا والذات. وفي هذا ما يشي بقصور القراءة المعيارية التي تلوذ بهذه المزاعم في تقدير "صلاح بوسريف" الذي يقول: "ما تزال القراءات التي تلامس أو تحاول أن تقارب تجارب جيل الثمانينات أسيرة وعي نقدي معياري تحتكم في محاكمتها لشعر الثمانينات إلى نفس الأداة، وإلى نفس الوعي النقدي الذي قرأ أو حاكم به جيلي الستينيات والسبعينيات، وكأن كل هذه الأجيال كانت تكتب نصا واحدا، أو أنها ذات تاريخ ومرجع مشتركين، وهذا محال، وهو أحد المزالق التي ما يزال نقد الشعر في المغرب، وأستثني هنا ما كتبه الشعراء، بيني عليه رؤيته للشعر والشعراء لا فرق، في الوقت الذي نجد فيه النص يغير مواقعه باستمرار، ويزور، ولا يطمئن لشكل أو نمط واحد...". ثم يقول في مكان آخر من كتابه: ".. في القراءات التي قاربت أو تقارب الخطاب الشعري الحديث والمعاصر، نادرا ما نعثر على قوة السؤال... السؤال باعتباره لحظة إبداع وانشغال متوترين...". (المغايرة والاختلاف في الشعر المغربي المعاصر). فهل هي جرأة الكتابة والتجريب بدءا من الثمانينيات ولدى بعض المشائين السبعينيين الذي ما فتئوا يحققون في منجزهم الشعري ما يبهر من أسلبة جديدة وإيقاع جسدي وإبدالات، ما اربك حسابات الخطاب الواصف المطمئن والمتراخي، وجعله استتباعا يتخلى مهزوما عن هذه التجارب القلقة التي بقدر ما تضع "مفهوم الديمومة الجوهرية للماضي في الحاضر" بتعبير هنري برغسون، بقدر ما تنداح أصواتها آتية من المجهول واللانهائي؟ أم أن الخطاب الشعري المغربي المعاصر والحداثي غض وفي ميعة صباه ما يجعل من كل مقترب يتوخى العلمية والإحاطة والإحتفاء ضربا من التسرع والتجني واستباق مرحلة النضوج التي ينبغي أن يصلها الخطاب من دون تركيم الأملاح والأسمدة والتوابل؟ سيقول إدريس بلمليح: (إن تجربة الشعر المعاصر في المغرب تجربة حديثة العهد، ولذلك فإنها قابلة لكل قراءة ممكنة، إذ تعاني من صعوبات جمة في مستوى التلقي بحكم افتقار المبدع والمؤول لذخيرة مشتركة بينهما، قد يستطيعان عبرها، إقامة هذا التفاعل ولو بعد حين، فإننا في مقابل ذلك نستطيع الإدعاء بأن أهم ما ينقصنا في سبيله إنما هو هذه الذخيرة، وذلك لأن الإبداع أي إبداع لابد له من مرحلة تاريخية يستطيع أن يكون خلالها وبمعية القارئ طبعا، جملة مواضعات تقنية وجمالية قادرة على أن تجعل منه تجربة تواصلية، أي حدثا للإرسال والتلقي، ثم أشكالا محددة للدراسة أو التأويل) : (القراءة التفاعلية). إن قصور الخطاب الواصف متأت من شموخ الخطاب الشعري الراهن وتشابك مستوياته وطبقاته اللغوية، وتعقيدات بنياته، وارتهانه بالذاكرة، وشرائط البنيان السوسيوثقافي؟ ذلك: (أن الشعر العربي ?فيما يقول محمد بنيس، تصعب قراءته في غياب معرفة بالشعرية العربية القديمة. كما أن أسراره اللانهائية لا تنفتح، شيئا فشيئا، في وضعية تناسي الشعريات الحديثة الأروبية، وكذا غير الأوروبية. وهذا معناه أن الشعرية العربية القديمة، تناولت قضايا وعناصر ما تزال فاعلة في الشعر العربي الحديث، ولكنها، في نفس الوقت، محكومة بحدودها النظرية المعاصرة على قصورها....) (الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها : التقليدية). بيد أن ما يلاحظ على وجهات النظر هذه وغيرها، أنها تقيم في الماضي البسيط، والأرض المحروثة والمستباحة، وهو ما يعني دورانها على أسماء بأعيانها شبعها التقلي، وفرفطها الاستعمال الكثير، والإتكاء الدائم، وهذه الأسماء الشاعرة التي لا تخطئها الفراسة هي: السرغيني ? محمد الخمار الكنوني ? أحمد المجاطي- عبد الله راجع ومحمد بنيس، فكأن الألوان والإيقاعات التي تزركش المشهد الشعري المغربي لم تبرح هؤلاء. فأين الخطاب الواصف من الخطاب الشعري للسبعينيين والثمانيين وصولا إلى الألفيين؟ وما لم نستثن الشعراء النقاد الذين حاولوا تقديم المنجز الشعري لزملائهم، إلى المتلقي والتداول العام كصلاح بوسريف، ومحمد بودويك وعبد السلام المساوي، وادريس الملياني، وبوجمعة العوفي ومحمد الشنتوفي، وغيرهم، وبعض النقاد المعدودين كعبد الله شريق الذي أفرد كتابا توصيفيا تحت عنوان: "في شعرية قصيدة النثر" انتصر فيه لهذا المقترح الجمالي الكتابي خص به ثلة من الشعراء المغاربة من مختلفة العقود عاقدا مفصليات، ومشيرا إلى التحولات النوعية التي طالت القصيدة لدى بعض الشعراء؛ وبنعيسى بوحمالة في قراءاته العاشقة المتأملة والاستبارية، ومحمد معتصم في بعض مقارباته الذكية، وآخرين تحملوا مشاق النعمة في المتابعة والاستقصاء كمحمد بونجمة وخالد بلقاسم وعبد الرحمن تمارة وإبراهيم القهوياجي وعلي آيت أوشان... إلخ. فما لم نستثن هؤلاء فإننا نصاب بالدهشة حقا عندما نصطدم بالأسماء التي تعاورتها مناولات محمد بنيس ومحمد مفتاح وإدريس بلمليح، مستمرة في الكتب الأكاديمية الواصفة لدى كتاب شباب يفترض فيهم، وينتظر منهم: إنشاء خطاب واصف ونباش في الخطاب الشعري المعاصر حتى يحوز معنى الراهنية، ويوسم بالمواكبة العلمية والإنصات لنبض كتابة أخرى، ودبيب تجربة عارية من المساحيق تقول بتمها وواحديتها في الساعة الصفر من لازمنيتها. لنتأمل المشهد حتى لا نتهم بالتحامل والجهل : -كرس محمد الخطابي أطروحته العميقة: "لسانيات النص" لتقريب مفهوم انسجام الخطاب، وقرأ في ضوئه نصا لأدونيس. -محمد الماكرى في كتابه: "أطروحته المتميزة: "الشكل والخطاب" الذي اعتبره مدخلا لتحليل ظاهرتي ممزوجا بالسيميائية. هكذا، وبعد أن قارب التجربة الفضائية في الشعر العربي المعاصر من خلال بنيس وراجع وبلبداوي، خصص فصلا درس فيه نصا مركبا لمحمد بنيس: (هكذا كلمني الشرق- موسم الحضرة). -كما قرأ ادريس بلمليح. في ضوء نظرية التواصل التفاعلي، كلا من محمد بنيس وعبد الله راجع، وسيف الرحبي، إسوة بمحمد مفتاح الذي لم يتخط- في إطار مقارباته الدقيقة والعلمية- أحمد المجاطي، والسرغيني ومحمد بنيس والخمار الكنوني وأدونيس. -ولم يفعل سعيد الحنصالي ?برغم علمية الدراسة "الاستعارات والشعر العربي الحديث..." ومنهجيتها الصارمة المفتوحة في آن على شعرية اللغة والتناول، سوى تكريس الأسماء ذاتها متبلة ببعض المشارقة، والأسماء هي: (محمد بنيس- قاسم حداد...). -وإن كان يوسف ناوري في كتابه: "الشعر الحديث في المغرب العربي"، حفر عميقا في الخطاب الشعري المغاربي الحديث والمعاصر، وبالتالي، كانت له فضيلة السبق حيث التفت إلى مدونة الشعر المغربي بتخصيص أطروحة دسمة. وإلا فإن محمد بنيس مهد الطريق إلى الفكرة في إحدى مقالاته المنشورة بأحد أعداد مجلة آفاق المغربية. وانتبه يوسف ناوري، من ناحية أخرى ?إلى أسماء وحساسيات مغربية مختلفة أثثت، ولا زالت تؤثت المشهد الشعري المغربي المعاصر. فهل قدر الشعر أن يقرأه ويقاربه الشعراء بالخطاب الواصف، والتحليل الشعراء بالخطاب الواصف، والتحليل العاشق، والترحل في معابره ودهاليزه ومهاويه اللذيذة. لأنهم أعرف بمضايقه حسب قوله نبيهة لأبي نواس، رددها من بعده البحتري. وواقع الحال، وراهن النقد الشعري في المغرب، وفي غيره من دول العالم، لا يدحض ما نحن فيه، إذ: "أن الحركة الشعرية العربية عموما لم تعثر على نقاد جيدين للشعر. وإذا تأملنا المنجز النقدي المهتم بديناميات الشعر العربية. وإذا تأملنا أشكال الخطاب حول الشعر، سنجد أن أجمل ماأنجز في هذا الإطار، أنجزه شعراء. وليست هذه ظاهرة جديدة أو ظاهرة خاصة بنا في الوطن العربي، إنما ربما قد تكون خاصية مميزة للمسار الشعري الإنساني. فمنذ هوميروس حتى بودلير ومن تلاه من الشعراء ? النقاد، ظل الشعراء نقادا جيدين لكتابتهم الشعرية، ولكتابات زملائهم، واستمرت هذه الظاهرة إلى اليوم" (حسن نجمي- مجلة عمال، العدد 78) . بينما يعزو آخرون ?وأنا منهم- تهافت النقد العربي الحديث والمعاصر، وعدم اتساقه، وانسجامه، وقصروه عن مواكبة المنجز الشعري في تمظهراته الأشكالية المختلفة، إلى عطب في جهازه المفاهيمي، حيث تهاجر منظورات مصاقبة للسرد والرواية إلى صقع الشعر وبنياته المخصوصة، وإلى خلل في فهم النص الشعري، أو مفارقة مضحكة في الدنو من هشاشته بمباغتة الوحش. وإلى ?هذا هو الأهم- غياب نسق فلسفي جمالي من شأنه لو وجد، لفتح طريقا لاحبا إلى النص، وعلى منه خطابا متداولا، وكشف به ومن خلاله ما يتغياه الشعر أصلا من انوجاده وكينونته بحسبانه موصولا بسرة الكون، وجبل الطفولة، وعجين البدايات، ومديح الحب والخير والجمال. وترتيبا عليه، نزعم أن الشعر لا يزدهر إلا بإزدهار الفلسفة. علما أن الشعر العربي المعاصر سابق لعصره... "وإذا كان الشعر فعل اللغة، فالفلسفة فعل الفكر" ومن ثمة فلا مندوحة لهذا عن تلك، ولا لهذه عن ذلك. ويهمنا في الأخير أن نذكر بهذه العلاقة الجمالية الأثيرة التي صنعت مجد الشعرية الغربية السامقة بين الشعراء والفلاسفة. هكذا يمكن التذكير بعلاقة : "هايدجر بهولدرين وشيللر بكانط ? وهوسرل بمالارميه، وليفي ستراوس ببودلير. كما تجدر معرفة أهمية سبينوزا لدى غوته، وهيغل لدى ما لا رميه وبرغسون لدى ماتشادو، وشوبنهاور لدى بورخيس، أرتو لدى فوكو، وسيلان لدى ديريدا.. إلخ". هذه العلاقة النسقية المستندة إلى تراث فلسفي شعري وجمالي هو ما أعلى من شعر هؤلاء وغيرهم، مخترقا الزمكانية وعديد التلقيات عبر تواريخ ممتدة وآتية. وربما هذه الروح، روح الفلسفة والجمال بما هي موقف من الموت والوجود والعالم، وارتماء إلى الماوراء والميتافيزيقا هو ما جعل طرفة بن العبد وأبا تمام وابن الرومي والمتنبي والمعري، يستمرون في إدهاشنا وإبهارنا، وإشعارنا بضحالتنا ومحدودية آفاقنا ، وقصر باعنا.