في الوقت الذي تحرص السلطات المنتخبة والمحلية في الدارالبيضاء على التأكيد بأن الدارالبيضاء تحولت في السنوات الثلاث الأخيرة إلى ورش مفتوح عبر إنجاز مجموعة من المشاريع الكبرى في الدارالبيضاء (مارينا، الطرامواي، المسرح الكبير، تأهيل منطقة أنفا...)، ما تزال العديد من المشاريع ذات طابع القرب في الكثير من المقاطعات البيضاوية تنتظر فك الحصار عنها، حيث عجزت هذه السلطات عن تبني خطة قادرة على تحريك عجلات هذه المشاريع، مما جعل معظمها يتحول إلى ملجإ للفئران والحشرات الضارة، بعدما استنزفت الكثير من المليارات. وبسط مجموعة من المستشارين في مجلس مدينة الدارالبيضاء الأسباب الحقيقية التي حالت دون خروج هذه المشاريع إلى حيز الوجود، مؤكدين أنه حان الوقت لتفعيل خطة شاملة قصد تنفيذها. في التجارب الجماعية السابقة في الدارالبيضاء اتخذت مجموعة من المكاتب المسيرة قرارات بإنجاز مجموعة من المشاريع ذات الطابع الإداري والاجتماعي، إلا أن هذه المشاريع أقبرت وسط الطريق، وظلت تشكل وصمة عار في جبين من اتخذ القرار بإحداثها، حيث صرفت ملايين السنتيمات على إنجازها دون أن ترى هذه المشاريع النور ويستفيد منها سكان هذه الجماعات. واعتقد الكثير من متتبعي الشأن المحلي البيضاوي بأنه بمجرد أن تدخل الدارالبيضاء تجربة وحدة المدينة ستزيل الغبار عن هذه المشاريع، إلا أن ذلك ظل مجرد أمنية من الأماني الكثيرة التي لم تجد الطريق معبدا لها للتنفيذ، بسبب مجموعة من الإكراهات. وقد ظلت هذه المشاريع تشهد على عصر كان العديد من سكان المدينة يؤكدون أن العاصمة الاقتصادية كانت بمثابة بقرة حلوب، ولكن هاهي سنوات كثيرة مرت على دخول الدارالبيضاء هذه التجربة، فلماذا لم تتحرك عجلة مجموعة من المشاريع المتوقفة؟ ولماذا لم يحرك مجلس المدينة المياه الراكدة لهذه المشاريع؟ ألم يكن من الممكن بدل إنجاز مشاريع جديدة إتمام الأوراش التي كانت مفتوحة؟. هذه الأسئلة وغيرها تتبعت «المساء» بعض خيوطها عبر محاورة مجموعة من المتدخلين في المدينة، الذين وإن اختلفوا في تحميل المسؤولية للسلطات المحلية والمنتخبة التي تدبر شؤون المدينة حاليا، فإنهم يتفقون على أنه حان الوقت للتفكير الجدي من أجل إعادة الاهتمام بالمشاريع المتوقفة، لأن ذلك سيخدم بشكل كبير سياسة القرب في الدارالبيضاء، بدل تسليط الضوء فقط على المشاريع الكبرى للمدينة. خطة التحريك حاول محمد بو الرحيم، نائب عمدة مدينة الدارالبيضاء، أن يعود قليلا إلى الوراء، وبالضبط إلى سنوات التجربة الجماعية السابقة، ليؤكد أن هناك خطة تبناها المجلس من أجل تحريك المشاريع المتوقفة، وكانت هذه الخطة تقوم على اختيارين لا ثالث لهما: إما التركيز على إيجاد حلول للمشاريع المتوقفة بدل تضييع الوقت في الأسباب التي أدت إلى توقيفها أو التأشير على انطلاق مشاريع جديدة. وفي نهاية المطاف تم الاختيار الحل الثاني دون أن يعني ذلك غض الطرف نهائيا عن المشاريع السابقة. «لقد كنا أمام خيارين، وفي الأخير اخترنا إنجاز مشاريع جديدة، وتغيير أهداف بعض المشاريع القديمة، حتى تكون منسجمة مع الواقع الجديد، إذ لا معنى لوجود مقرات إدارية ضخمة، في الوقت الذي تشهد العديد من المناطق نقصا كبيرا في المشاريع ذات الطابع الثقافي والاجتماعي». وأضاف بو الرحيم أن من بين الإشكاليات التي حالت دون خروج بعض المشاريع إلى حيز الوجود القضايا المرتبطة بالتعقيدات الإدارية أو حدوث مشاكل مع بعض المقاولين، وقال في هذا السياق: «لقد اكتشفنا أن بعض المشاريع تتوقف ليس بسبب المشكل المالي, ولكن القضية تكون مرتبطة بالجانب الإداري أو بوجود مشاكل مع المقاول المشرف على هذه المشاريع». وأوضح نائب عمدة الدارالبيضاء أن العديد من المشاريع المتوقفة في الدارالبيضاء تحتاج إلى «ميزا جور»، حيث إن أهداف عدد من المشاريع لم تعد صالحة في الوقت الراهن، مما يستدعي تغيير هذه الأهداف وفق الحاجيات الأساسية الحالية للمواطنين. الاستراتيجية المغيبة وإذا كان محمد بو الرحيم برأ ذمة مجلس المدينة، فإن نائب رئيس مجلس مقاطعة سيدي مومن، عبد الغني المرحاني، حمل بشكل كبير مسؤولية عدم تفعيل المشاريع المجمدة إلى المكتب المسير لمجلس المدينة، قائلا إن «عدم تحريك عجلة المشاريع المجمدة راجع بشكل أساسي إلى غياب استراتيجية موحدة لتنمية المدينة، فالمكتب المسير يشتغل حاليا دون أي مخطط جماعي، عكس ما يؤكده الميثاق الجماعي الذي ينص على ضرورة صياغة مخطط بالنسبة لكل المجالس المنتخبة». وأضاف المرحاني أن هناك مشروعين في سيدي مومن ما يزالان ينتظران الحل، هما المركب الثقافي والقاعة المغطاة، وهو الأمر الذي يثير، حسب رأيه، تساؤلات كثيرة حول الأسباب التي تحول دون خروج هذين المشروعين إلى حيز الوجود. واعتبر المتحدث ذاته أن هناك مجموعة من المشاريع في مناطق مختلفة أصبحت في طي النسيان، ولم يعد أحد يعرف الأسباب التي أدت إلى توقفها، وقال إن «هناك الكثير من المشاريع المتوقفة في الدارالبيضاء لم نعد نعرف لماذا توقفت ومتى ستنطلق». وأكد المرحاني أن هذا الأمر يرجع إلى مسألة مهمة، حسب رأيه، تتعلق بمنح مديرية الشؤون الاجتماعية الإشراف على بعض المشاريع، مؤكدا أن هذا الأمر لابد أن يتولاه قسم الهندسة في المجلس. ومن الأشياء التي كانت عاملا مشتركا بين المرحاني وبو الرحيم القضية المتعلقة بضرورة تغيير أهداف المشاريع المجمدة، مؤكدا أنه من باب الحكامة الجيدة إعادة النظر في الأهداف التي من أجلها أنجزت هذه المشاريع، وقال في هذا السياق: «يجب أن تكون الأهداف الجديدة للمشروع تتلاءم وحاجيات السكان، لأنه تبين أن مجموعة من المباني الإدارية أصبحت غير ذات جدوى، فلابد أن تكون هناك حكامة جيدة في التعامل مع هذه المشاريع، بمشاركة جميع المتدخلين، سواء السلطات المحلية أو المنتخبة أو المجتمع المدني، من أجل وضع حد لحالة الفوضى التي يعرفها قطاع التعمير في مدينة الدارالبيضاء». البيروقراطية وإذا كانت وحدة المدينة عجزت عن حل المشاكل البنيوية الكثيرة في هذه المدينة، فقد وحدتها من حيث قضية المشاريع المجمدة، حيث لا تكاد تخلو مقاطعة من وجود مشروع متوقف، وهو الأمر الذي جعل رئيس مقاطعة المعاريف يؤكد أن المساطر الإدارية المعقدة هي التي جعلت هذه المشاريع تتأخر في الإنجاز، وقال: «إنني أتفق مع كل الآراء التي تؤكد عدم إعطاء الأولوية للمشاريع المؤكدة، فلو كانت هناك إرادة حقيقية لإنجاز مشاريع القرب لتم إعطاء الاهتمام لهذه القضية». وأضاف أنه حان الوقت لإعادة النظر في بعض المساطر الإدارية من أجل معالجة هذه القضية، لأن أغلب المشاريع المجمدة يكون السبب الرئيسي فيها هو تعقد هذه المساطر». اختلالات هيكلية وقالت خديجة الطنطاوي، مستشارة بمجلس المدينة عن حزب الاتحاد الدستوري، إن الدارالبيضاء أصبحت تعاني من اختلالات هيكلية طالت كل مرافقها وخيمت بظلالها على كل مستويات العيش والمصير المشترك لكل ساكنتها، وهذا ما يجعل العديد من ممثلي مجلس المدينة ومجالس المقاطعات ينادون بمبادرة مستعجلة لوقف نزيف يعود إلى عوامل مختلفة نتيجة الانفجار السكاني للمدينة وتأثرها بتمركز اقتصادي وتجاري مقارنة بباقي مدن المملكة. وأكدت الطنطاوي أن من بين أوجه هذه الاختلالات وجود مشاريع البناء المعطلة، التي توقفت، حسب رأيها، عملية البناء فيها بعد إنجاز نصف المشروع أو أكثر، وقالت إن «هذه المشاريع ظلت طيلة عقود من الزمن على هذه الحالة، حتى أصبح السكان يألفون العيش وسطها، رغم أنها تحولت إلى أطلال تشوه صورة العاصمة الاقتصادية، التي تتطلع إلى أن تصبح قطبا سياحيا دوليا، وهذا يتناقض بين الطموحات والواقع المقلق، ومن جهة أخرى تعتبر هذه المشاريع المعطلة هدرا غير مباشر للمحصلات الضريبية لمجلس المدينة. وأضافت المتحدثة ذاتها أن هذه المشاريع تحولت إلى مزابل وأماكن للتخلص من مخلفات البناء، وهذا يؤدي إلى تحول مصالح البلدية عن وظائفها الأساسية إلى تنظيف هذه الأماكن باستمرار، والأدهى، تضيف الطنطاوي، ما تسببه هذه الأماكن من خطر أمني بسبب المتشردين وأطفال الشوارع، مما يستدعي تدخلات أمنية استجابة لشكايات السكان المجاورين لها. وأضافت الطنطاوي أن «هذا الأمر يعتبر استنزافا لموارد الدارالبيضاء التي تحيط بها الأزمات من كل النواحي. إن هذا المشكل الخطير يدعو إلى خطة منهجية لمعالجته بشكل جذري، استجابة لمطالب المواطنين صونا لكرامتهم وتحريرا لإمكانات وموارد المالية وإصلاحا لسياساتها وتقويما لمؤسساتها». فنادق للفئران واعتبر عبد الحق مبشور، رئيس لجنة مراجعة العقود والامتيازات والممتلكات في مجلس مدينة الدارالبيضاء، أنه لا يمكن بأي حال إيجاد مخرج لقضية المشاريع المجمدة دون مشاركة جميع المعنييين المباشرين بهذه القضية، بمن فيهم المنتخبون، وإثارة هذه القضية خلال أشغال اللجان المنبثقة عن ميثاق الشرف الموقع بين مكونات المجلس، وقال: «لابد أن تتدخل الدولة بكل قوة من أجل حل كل المشاكل المرتبطة بالمشاريع المتوقفة، فلا يجب أن تفشل النسخة الثانية من تجربة وحدة المدينة، على اعتبار أنه إذا كانت التجربة الأولى تعد امتحانا لهذا النظام، فالجميع يجب أن ينخرط من أجل نجاح التجربة الثانية». وأكد عبد الحق مبشور أنه توجد في مقاطعة سيدي عثمان مجموعة من المشاريع المجمدة، على رأسها المشروع السابق لمقر جماعة سيدي عثمان، الذي تم منحه لوزارة التعليم العالي دون أن تتحرك عجلة هذا المشروع، وقال: «كنا نعتقد أنه حينما يتم منح مشروع جماعة سيدي عثمان لإنجاز كلية ستتحرك عجلة المشروع، لكن لم يحدث ذلك، وهذا أمر يثير الكثير من الاحتجاج، خاصة أن العديد من المشاريع تحولت إلى ما يشبه فندق لينكولن، حيث أصبحت الملاذ المفضل للمتسكعين وقطاع الطرق، وهو ما يخلق متاعب كثيرة لرجال الأمن». وأضاف أن هذه المشاريع صرفت عليها مليارات السنتيمات دون أن ترى النور، مستدلا بمشروع «الحنطات» الذي كان من المفروض أن ينتقل إليه تجار درب عمر الموجود وسط الدارالبيضاء، لتخفيف الضغط على مركز المدينة. واقترح رئيس لجنة مراجعة العقود والامتيازات والممتلكات عقد يوم دراسي يحضره جميع المتدخلين في الدارالبيضاء للوقوف على الإكراهات التي حالت دون خروج هذه المشاريع إلى حيز الوجود وتحديد جدول زمني محدد ورصد الإمكانات المادية لإنجازها. وفي خضم النقاش الدائم حول المشاريع المتوقفة في المدينة منذ أزيد من تسع سنوات، كان المتتبعون للشأن المحلي للمدينة يؤكدون أنه لا يوجد أي معنى لبقاء هذه المشاريع بالصورة الحالية، لأن ذلك يعد دليلا قاطعا على فشل التدبير المحلي لأكبر مدينة في المغرب، مضيفين أنه إذا كان هناك من يستفيد من تعطل المشاريع في الدارالبيضاء فهي الفئران والصراصير، حيث يقول عدد من الظرفاء إن السلطات المحلية والمنتخبة في الدارالبيضاء أنجزت مآوى للحشرات والفئران. واعتبر مستشارون جماعيون في المدينة أنه حان الوقت لطي هذه الصفحة بشكل نهائي، عبر تحديد المسؤوليات والوقوف على الأسباب الحقيقية التي حالت دون خروج هذه المشاريع إلى حيز الوجود في القريب العاجل، فهل سينفض العمدة ساجد الغبار على هذا الملف؟
كل زوايا الدارالبيضاء شاهدة على مشروع متوقف إن الدارالبيضاء مدينة لا تحمل إلا الاسم فقط، فهي مدينة بلا ملامح ولا هوية ولا نسق معماري وبيئي يمكنها من أن تحمل صفة المدينة. وقد راكمت عبر تاريخها، على الأقل منذ الاستقلال إلى اليوم، النكبات تلو الأخرى والفظاعات والتشوهات حتى أصبحت ملازمة لها وأصبح اسمها مقرونا بالقرف والقبح في كل شيء. ولعل أخطر ما تتعرض له المدينة هو سرقة شأنها من قاطنيها وأبنائها حتى أصبحت لقيطة ويحق لأي أحد أن يفعل بها ما يشاء دون أي رد فعل من أي كان. وأكبر كارثة أصابتها هي مسؤولوها بكل أصنافهم، منتخبين كانوا أم ممثلي السلطات بكل تلاوينها، إلا من رحم ربك، فهم قلة يكاد المرء لا ينتبه إليهم. فكيف يفسر من يهمهم أمر المدينة ومستقبلها توقف العديد من المشاريع التي كان يقال عنها بأنها في خدمة الساكنة والتنمية الاجتماعية والاقتصادية؟ كيف يفسر المسؤولون توقف مشروع المركب الثقافي لعين الشق بشارع برشيد (الذي هدمت من أجله قيسارية) منذ أزيد من عقد من الزمن حتى تحول إلى فضاء للمتسكعين والسكارى ليلا وإلى سوق عشوائي نهارا؟ وما مصير السوق النموذجي بحي الياقوت بعين الشق أيضا الذي شيد دون أن يفتح للناس؟ كيف يفسر المسؤولون تحول المركب الإداري بعمالة مقاطعات مولاي رشيد بشارع العقيد العلام إلى خراب منذ أزيد من عشرين سنة؟ كيف يفسرون وجود بنايات على مقربة من المجازر البلدية طالها الإهمال و لم يعد أحد يتذكر لماذا أحدثت؟ إن الأمثلة كثيرة في هذا الباب وكل زاوية من زوايا المدينة تتحدث عن كوارث من هذا النوع، دون نسيان المشاريع الورقية التي لا علم لأحد بها إلا الراسخون في الفساد. في تحليلي المتواضع للأسباب الكامنة وراء هذه العاهة المستديمة وهذا السرطان المستشري: غياب الشفافية والحكامة واستقواء الفساد وإهدار المال العام واختفاء المحاسبة إلى أجل غير مسمى. كمال بختي، الكاتب العام لجمعية المواهب