يتحدث عبد الجليل القديم، أستاذ مبرز ودكتور في اللغة الفرنسية وأستاذ مكون في المدرسة العليا للأساتذة في مكناس، في هذا الحوار عن المراحل التي مر منها تدريس اللغة الفرنسية، والتحدي الذي يواجهها، مضيفا أننا «في حاجة إلى ضبط إيقاع الإصلاحات والتحكم في وتيرتها، ومن المحزن أن نسمع عند انطلاق كل عملية إصلاح لمنظومتنا أن ما كان قبلها خراب في خراب». - رصد التقرير الأول للمجلس الأعلى للتعليم، والذي اعتمد في وضع ما يعرف بالمخطط الاستعجالي، اختلالات كثيرة، منها ضعف التحكم في الكفايات اللغوية لدى التلميذ المغربي، والأمر ينطبق طبعا على تعلم اللغة الفرنسية، ما هو تصورك للطريقة المثلى في تعليمها وتعلمها؟ تتطلب الاجابة عن هذا السؤال العودة الى أسباب تعثر المقاربات التي اعتُمِدت الى وقت قريب، والتي كانت تنبني على أسس نظرية ولسانية معينة.. فقد مر تدريس اللغة الفرنسية بمرحلة بنيوية شكلانية في ثمانينيات القرن الماضي، ثم بمرحلة غلب عليها الطابع البراغماتي التواصلي، ولهذا التحول ما يبرره، فقد ساد الاعتقاد، مع طغيان النموذج اللبيرالي الرأسمالي، أن اللغة كخاصية بشرية يمكن تحويلها إلى أداة وظيفية، إلا أن واقع تدريس اللغة الفرنسية أثبت، بعد سنوات من اعتماد هذه المقاربات على حقيقة صادمة: تلامذتنا يجدون صعوبة كبيرة في التعبيرين الكتابي والشفوي، وهذا يمكن في نظري تفسيره بعاملين: أولا: الخلل الموجود على مستوى التهييء القبلي للإصلاح، فلمدرس اللغة الفرنسية حاجة إلى وقتٍ كاف لاستيعاب الأسس النظرية التي تؤسس المناهج والبرامج الجديدة، وهنا يأتي دور التنظيم المعقلن لعملية التكوين المستمر، ثم التكوين الذاتي عندما فتح أبواب الجامعات في وجه الأطر التعليمية لتعميق تكوينها المعرفي، ثم أن تشجيع الاختبارات المهنية الثقافة البيداغوجية على حساب التعمق في مادة التخصص.. فإن هذا سيؤدي، حتما، إلى إضعاف مساهمة التكوين الذاتي في إنجاح الإصلاحات المنشودة. ثانيا: عدم توفير الشروط الموضوعية لنجاح المقاربات المقترحة، فالمقاربة التواصلية في تدريس اللغة الفرنسية تستوجب الاشتغال مع مجموعات لا يتعدى عدد تلاميذها العشرين تلميذا، حتى يتمكن المدرس من التتبع الدقيق لمدى امتلاك التلميذ الكفايات المسطرة سلفا.. ثم إن التحدي الأكبر الذي يواجه تدريس اللغة الفرنسية، عموما، يكمن في إعادة الاعتبار إلى المقروء إلى القراءة، وهنا يتحتم علينا، كمكونين، ابتكار مقاربة شمولية يتم من خلالها الربط بين الأهداف التواصلية لتدريس اللغة بالبعد الجمالي والفكري. -أنت أستاذ مكون في المدرسة العليا للأساتذة، وهذه المؤسسة تعيش اليوم وضعية غامضة منذ تم إلحاقها بالجامعة، إذ ستصبح مجرد مؤسسة تحتضن تكوينات لا تعكس هويتها وتاريخها في تكوين الأطر.. ألا تفرض هذه الوضعية الحاجة إلى تفعيل الشراكة بين قطاع التعليم المدرسي وقطاع التعليم العالي، للاستمرارية في الاستفادة من خبرة هذه المدارس في تكوين المدرسين؟ عانت منظومتنا التربوية من كثرة الاصلاحات، ولا أعتقد أن هناك دولة راكمت هذا الكم من الإصلاحات، كما فعل المغرب، فنحن في حاجة إلى ضبط ايقاع الاصلاحات والتحكم في وتيرتها، ومن المحزن أن نسمع عند انطلاق كل عملية إصلاح لمنظومتنا أن ما كان قبلها خراب في خراب.. ومن المحزن أن نجد الدول العريقة في مجال التربية والتكوين راكمت قرونا في بعض منظوماتها ونحن ننسخ، كل مرة، منظومة بأخرى دون تراكم.. في ما يخص المغرب، لا أحد يجادل أن مؤسسات تكوين الأطر كانت في حاجة إلى صياغة جديدة في تنظيمها وأهدافها، وقد كان المكونون أول من نادى بضرورة الإصلاح، معبرين عن استعدادهم للانخراط في جميع الأوراش المتعلقة ببلورته، وبالتالي فالسؤال عن الدور الذي سيكون للمدرسة العليا للأساتذة مستقبلا لن يكون إداريا محضا، لأن هوية أي مؤسسة تكوين لا تتحدد من خلال المنظومة الإدارية التي تنتمي إليها، بل بالدور الذي تضطلع به في إطار تصور شموليّ لعملية التكوين، ففي السابق كان أساتذة جامعيون يساهمون في تأليف كتب مدرسية، وكانت هناك رؤية مُشترَكة يشتغل تحتها الجميع، لذلك نحن في حاجة إلى إحياء هذه الروح التكاملية والتشاركية، فالجامعة تنتج المعارف، أما المدارس العليا فتشتغل على ديداكتيك التخصص، أي على تحويل المعارف النظرية إلى معارف قابلة للتدريس، بمعنى آخر فالمدارس العليا يمكن أن تكون أكثر فعالية في المراحل المقبلة. فالمطلوب من وزارتي التربية الوطنية والتعليم العالي أن تبلورا رؤية مشترَكة تحتفظ بمقتضاها المدارس العليا بخصوصيتاها وتكويناتها في إطار من التشارك، وخاصة تكوين أساتذة التعليم الثانوي التأهيلي والتبريز، خصوصا أن هذه المدارس تتوفر على موارد بشرية راكمت سنوات من الخبرة في مجال التكوين. - ارتباطا بموضوع تكوين الأطر، ما تزال فئة المبرزين تنتظر تنفيذ وعود الوزارة بصياغة قانون أساسيّ خاص بها، مع أن هذه الفئة ستكون العمودَ الفقري في كل الإصلاحات التي ستتبناها الوزارة مستقبلا، ألا يشير هذا إلى وضعية متناقضة؟ كما قلت سابقا، فإن أحد أسس إصلاح منظومتنا التربوية يتمثل في الموازنة بين المعرفي والبيداغوجيّ، وبالتالي فقد جاء إحداث التبريز في ثمانينيات القرن الماضي لإغناء منظومتنا التربوية بتكوين يجمع بين هذين العنصرين بشكل شامل ودقيق في نفس الوقت. وقد ساهم الأساتذة المبرزون في خلق دينامية جديدة في كل المواقع التي اشتغلوا بها: مراكز تكوين، الأقسام التحضيرية، الثانوي التأهيلي... لكن شجاعة الوزارة بخلق تكوين بهذا النوع لم تواكبها شجاعة في الاعتراف بخصوصية الاستاذ المبرز.. ونحن هنا لسنا بصدد مشكل فئويّ محض، بل إنه خلل عامّ تعاني منه المنظومة الإدارية لوزارة التربية الوطنية، فكثيرا ما نسمع أن خلق إطار خاص بكل فئة لا يخدم نسقية الهيكلة الإدارية للوزارة، وهذا الطرح يجانب الصواب لسببين اثنين: أولا، إن القانون لا يخلق الواقع بل العكس، القانون وعاء للواقع الشاخص، نحاول تقنينه وضبط آليات اشتغاله، وعلى هذا الأساس لا يمكننا إلغاء خصوصية الأستاذ المبرز وفئات أخرى تحت ذريعة أنّ القانون لا يسمح بذلك، أو أن القانون لا يحتمل التفتيت أو التجزيء الفئويين.. إن قوة أي منظومة إدارية لا تكمن في طمس الاختلافات بل في إدماجها في إطار شموليّ يعتمد على مبدأي الاستحقاق والشفافية. ثانيا: إن إلغاء خصوصية التبريز ساهم بشكل كبير في انحسار التكوين الذاتي المرتبط بالمباريات المهنية التي تقترحها الوزارة نفسها، ونحن نلاحظ، بأسف كبير، تناقص عدد المترشحين لاجتياز مباراة ولوج سلك التبريز سنة بعد أخرى، لكون التبريز ليس محفزا، أي إلغاء الدور التحفيزي للتكوينات المهنية التي كانت تساهم بقدْر كبير في خلق دينامية معرفية داخل منظومتنا التربوية، لذلك على الوزارة الوصية أن تتحلى بالشجاعة الكافية للدفاع عن مشروع تبنته بقوة منذ ولادته ووفرت له الظروف للنجاح، وبالتالي فإحداث إطار خاص بالمبرزين سيكون له تأثير إيجابيّ في بناء منظومة تعليمية عمادها الجودة و الكفاءة. - الترجمة، كما تعلم، ليست فقط وصف اللغة للغة ومحاكاة فكر لفكر، بل هي حوار وتواصل متصلان، ليس بين مترجم وكاتب فحسب، بل تواصل وحوار بين مرجعيتين كونيتين، ما هي في نظرك الشروط الواجبة في أي عمل ترجمي ليحقق هذا العمق التواصلي الكوني؟ الترجمة هي الفضاء الأمثل لمحاورة الآخر وإقامة الجسور بين الثقافات والحضارات المختلفة، والمترجم ليس شخصا عاديا، فهو لا يمتلك لغتين فقط بل منظومتين فكريتين عليه أن يحسن العبور من إحداها إلى الأخرى. وعملية العبور هذه ليست عملية تقنية محضة، بل إنها تتطلب ضبطا للمفاهيم والمصطلحات، بل وإلماما بالحيثيات التاريخية المحيطة بالمفردات والتراكيب، فترجمة النصوص الأدبية، مثلا، تطرح مشاكل خاصة، فهي تتطلب، إلى جانب ما تم ذكره، امتلاك حسّ أدبي وجمالي يمكن المترجم من إعادة كتابة النص، مع المحافظة على طابعه الأدبي الخالص.. وهنا يصبح المترجم مبدعا أيضا، وليس مجردَ عابر من لغة إلى أخرى، فالترجمة علم وفن في آن واحد، لكونها تتطلب إلمامَ العالم اللغوي وإحساسَ الروائي أو الشاعر.