كان ذلك منذ سبع سنوات فقط.. في عام 2005 نشرت صحيفة «جيلاندز بوستن» الدنماركية 12 رسما مسيئا إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم.. قامت الدنيا ولم تقعد في العالم الإسلامي كله، وخرجت مظاهرات في معظم عواصمه شارك فيها الألوف، أسفرت عن مقتل عشرات في المواجهات مع قوات الأمن.. في الدنمارك ذاتها هاجم متظاهرون من أصول إسلامية مباني تابعة للخارجية الدنماركية ومكاتب للاتحاد الأوربي، وتعرضت سفارات الدنمارك في عدة عواصم إسلامية، وكذلك في لندن، للاقتحام، وحرقت أعلامها، بينما كانت الصيحات تتعالى تطالب «بن لادن» بالانتقام للنبي.. معظم الحكومات الإسلامية طالبت الدنمارك بالاعتذار، وطلب سفراؤها الاجتماع برئيس الوزراء الدنماركي، راسموسين (الذي عين فيما بعد سكرتيرا عاما لحلف الأطلنطي)، فرفض لقاءهم لمدة ثلاثة أشهر. في هذه الأشهر الثلاثة أعادت 143 صحيفة في 56 دولة (بينها دول إسلامية) نشر الرسومات ذاتها أو بعضها، وأعلنت أنها تفعل ذلك ليس مساندة للصحيفة الدنماركية فقط، وإنما دفاعا عن حرية التعبير أيضا.. هاجم العديد من هذه الصحف الحكومات الإسلامية، وقالوا إنها لن تستطيع تقييد حرياتنا كما تفعل في مجتمعاتها.. لوحظ وقتها أن الصحف الأمريكية والبريطانية تعاطفت مع صحيفة «جيلاندز بوستن»، لكن معظمها لم ينشر الرسومات.. الخارجية الأمريكية أصدرت بيانا وصفت فيه الرسومات بكونها مسيئة إلى المشاعر، وقالت إن «التحريض على الكراهية العرقية والدينية أمر غير مقبول»، أما وزير الخارجية البريطانية فقد صرح بأن «حرية التعبير لا تستلزم الإهانة بالضرورة». أخيرا، اجتمع راسموسين بالسفراء العرب في كوبنهاجن، لكنه رفض تقديم اعتذار صريح، لأن حكومته ليست مسؤولة.. سحبت سوريا والسعودية وليبيا سفراءها، واشتعلت المظاهرات مرة أخرى في العالم الإسلامي تنادي بالانتقام.. في ذلك الوقت كنت أقيم في دبي، حيث تعالت الدعوات فيها، كما في أنحاء الخليج كله، لمقاطعة البضائع الدنماركية، ولم يكن مشهدا غريبا أن ترى هذه الدعوات معلقة على أبواب معظم المحال والمراكز التجارية.. أذكر أن الشيخ القرضاوي ألقى عندئذ خطبة قال فيها: «علينا أن نخبر الأوربيين بأننا نستطيع العيش دونهم، لكنهم لا يستطيعون العيش دوننا»، أما أنا فكنت متحمسا للمقاطعة في الحدود المستطاعة.. في برنامجي «قلم رصاص» طالبت بالتركيز على مقاطعة نوع واحد من الزبد الدنماركي شائع الاستعمال في الخليج.. رفضت إدارة التلفزيون إعادة حلقة البرنامج كما هو معتاد، خشية خسارة إعلانات قدرت بآلاف الدولارات، لكن حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد، عندما علم بالخبر أمر بإعادة البرنامج مرتين بدلا من واحدة، وفي وقت المشاهدة القصوى.. ربما تكون حملة المقاطعة قد نجحت، إذ إن شركة الألبان المنتجة للزبد قلصت إنتاجها وسرحت بعض العمال، لكن عددهم لم يكن كبيرا (125 فقط) بحيث يؤثر على اقتصاد الدنمارك. رغم الاحتقان الذي أحدثته الرسومات في العلاقات الدولية، فإن موقف الأممالمتحدة كان فاترا، واكتفى أمينها العام وقتئذ، كوفي أنان، بالإدلاء بتصريح طالب فيه الجانبين (العالم الإسلامي والعالم الغربي) بعدم صب مزيد من الزيت على النار.. استهجنت الدول الإسلامية هذا الفتور، وفي إطار مؤتمرها الإسلامي تقدم سفراء هذه الدول لدى الأممالمتحدة باقتراح للجمعية العامة حتى تصدر توصية قوية بشأن تشويه صورة الأديان، تركز على احترام الدين الإسلامي خاصة، وتطالب بعدم ربط الإسلام بالإرهاب.. صدرت التوصية، إلا أن نشر الرسومات المسيئة لم يتوقف.. في 2006 أعيد نشر الرسومات في بلدان امتدت من نيوزيلندا إلى المجر والنرويج وسويسرا وألمانيا وإيطاليا، ووجدت صحيفة «فرانس سوار» فيها مادة إثارة راهنت على أنها ستنقذ الصحيفة من مصاعبها المالية.. ولم يمض عامان حتى أعادت 17 صحيفة دنماركية نشر الرسومات تحت شعار «دفاعا عن حرية الرأي»، رغم أن صحيفة «جيلاندز بوستن» كانت قد اعتذرت عن نشرها من قبل، ووصل الأمر في 2010 إلى حد إصدار كتاب في كوبنهاجن ضم الرسومات جميعا.. بالرغم من أن الجاليات الإسلامية ظلت تطارد الرسام الدنماركي سنوات في كل المحافل، حتى إن شابا صوماليا حاول قتله (حكم عليه بالسجن 10 سنوات في 2011)، وبالرغم من أن الصحيفة الدنماركية هوجمت عدة مرات، وأن قنبلة ألقيت على صحيفة فرنسية، فإن الأوربيين تعاطفوا مع الرسام، وكرمته المستشارة الألمانية «ميركل» في 2010. أسوق هذه الحقائق دون تعليق، تاركا للقارئ استنتاج ما يريده.. لكننا إذا أردنا أن نقارن الموقف وقتها بأزمة الفيلم الأمريكي المسيء لوجدنا أن الوضع الآن أشد تعقيدا لعدة أسباب: أن الطرف الآخر هذه المرة هو الدولة العظمى، الولاياتالمتحدة، وليس الدنمارك، وأن سفيرا أمريكيا قتل هذه المرة في ليبيا مع اثنين من أعضاء سفارته، وأن هذا أول اختبار لتأزم العلاقات بين الولاياتالمتحدة ودول الربيع العربي، وهو أول اختبار أيضا لتيار الإسلام السياسي الحاكم في مصر وليبيا في مواجهة الولاياتالمتحدة، وأن مصر بالذات تريد أن تتخذ موقفا قويا في مواجهة الإساءة إلى الرسول الكريم، لكنها مقيدة بوضعها الداخلي القلق واحتياجها إلى الاستثمارات الأجنبية وربما المعونات، مدنية وعسكرية، وأن الشعب في مصر وفي دول الربيع العربي عامة كسر حاجز الخوف وأصبحت له كلمة وثقل، وأن هناك مشاعر كراهية راسخة تجاه الولاياتالمتحدة ظهرت على السطح مرة أخرى لتفجر الأزمة، وأن إصدار الفيلم مدبر ليأتي مع ذكرى 11 شتنبر التي تعيد تذكير الأمريكيين بكابوس الإسلام والإرهاب، ثم إنه رغم أن الغضب اجتاح الشعب كله فإنه انقسم حول طبيعة الرد ما بين المزايدات والمناورات، وأخيرا فهناك الآن ثأر متبادل بين جانب من الشعب والشرطة يعصف بالمشهد الداخلي. بالإضافة إلى كل ذلك، فهناك اختلافات أخرى بين أزمتي الرسومات المسيئة والفيلم المسيء، لعل أهمها أن هناك مصريين مسيحيين بين منتجي الفيلم، مما ضاعف من التعقيدات في الداخل، وأن الفيلم انتشر على نطاق أوسع بعد بثه على «يوتيوب»، بذلك تداخلت أطراف أخرى في الأزمة، منها «جوجل» وغيرها من أركان الشبكة الإلكترونية.. وأخيرا، فإن جانبا من الفيلم تم بثه من خلال قناة دينية مصرية. في مسرحية «هاملت»، قال شكسبير عبارته الشهيرة: «أشم رائحة عفن في الدنمارك»، أما نحن، فإننا نشم العفن في أمريكا.. لعل لنا مقالا آخر نرى فيه ما العمل.