تدخل بعض علماء المسلمين الكبار، وعلى رأسهم الدكتور يوسف القرضاوي، لتهدئة الشارع العربي بعد الاحتجاجات الغاضبة التي انفجرت في أكثر من عاصمة، انتصارا للرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، بعد الإساءات البذيئة التي تعرض لها على أيدي حفنة من الأقباط الحاقدين الذين يعيشون في أمريكا، حتى إن حركة الإخوان المسلمين الحاكمة حثت أنصارها على عدم المشاركة في مليونية احتجاجية كانت مقررة الجمعة الماضية في ميدان التحرير. ولكن في مقابل هذه المواقف المسؤولة العاملة على وأد الفتنة، تعمل الإدارة الأمريكية على صبّ المزيد من الزيت على نارها، انطلاقا من رغبات انتقامية صرفة. وحتى نكون أكثر وضوحا وتحديدا في هذا الإطار، نشير إلى وجود بارجتين أمريكيتين في المياه الإقليمية الليبية مقابل مدينة بنغازي، وهبوط وحدات من قوات المارينز إلى اليابسة، ووجود أكثر من عشرين طائرة بدون طيار (Drones) في الأجواء الليبية لمطاردة المتورطين في اقتحام القنصلية الليبية في بنغازي. وجود قوات أمريكية على الأراضي الليبية وطائرات بدون طيار في أجوائها هو احتلال وانتقاص للسيادة، وتأكيد على أن ليبيا غير مستقلة، وأنها، في أفضل الأحوال، محمية أمريكية؛ الأمر الذي سيوفر الذخيرة اللازمة للجماعات المتشددة للتوسع والتكاثر، وتبرير أي هجمات مستقبلية لها ضد هذه القوات، وربما قوات الحكومة المركزية في طرابلس، على غرار ما يحدث في أفغانستان حاليا. السيد محمد المقريف، رئيس المؤتمر الوطني (البرلمان)، اعترف دون مواربة بأن تنظيم «القاعدة» موجود في ليبيا، ومسؤول عن تنفيذ الهجوم على السفارة الأمريكية وقتل السفير وثلاثة من الدبلوماسيين الآخرين، وأكد أن المواجهة مع هذه الجماعات ضرورية وحتمية، ولكنها تحتاج إلى جيش قوي، ودعا «الميليشيات الحميدة» إلى المشاركة في قتالها، وحثّ الإدارة الأمريكية على عدم التصرف بشكل فردي. تحريض السيد المقريف على قتال الجماعات المتشددة هو تحريض خطير، قد يؤدي إلى حرب أهلية توقعها الكثيرون في ليبيا، مما سيحول البلاد إلى فوضى أكثر خطورة مما هي عليه الآن. أما نصيحته التي وجهها إلى حلفائه الأمريكان بعدم التصرف بشكل فردي للانتقام من قتلة سفيرها ودبلوماسييها فلم يتم الأخذ بها، أو حتى الاستماع إلى صاحبها، الحليف القديم الجديد لواشنطن، بدليل أن البوارج الأمريكية وقوات المارينز والطائرات بدون طيار وصلت إلى ليبيا دون أي تشاور معه أو أخذ إذن منه. من المفارقة أن الولاياتالمتحدة عندما أرسلت أساطيلها وطائرات حلف الناتو لقصف قواعد النظام السابق وتجمعاته العسكرية من الجو، كانت تعلم جيدا بأن كتائب تابعة للجماعات المتشددة كانت ترفع علم «القاعدة» الأسود على عرباتها، وتشارك بفاعلية في الحرب لإسقاط نظام القذافي. الإدارة الأمريكية وأجهزتها الأمنية غضت النظر عن هذه الجماعات ووجودها، بل وأوعزت إلى حلفائها العرب بتسليحها وتزويدها بالسيارات رباعية الدفع، ولم تعتبرها عدوا على الإطلاق ولو بشكل مؤقت، وسرعان ما انسحبت هي ومن جاء معها إلى ليبيا بعد تأمين الإمدادات النفطية الليبية إلى المصافي الغربية، تماما مثلما حدث في العراق. الآن ليبيا تتحول إلى أفغانستان أخرى، وإن كان ذلك بشكل تدريجي، فالإدارة الأمريكية فتحت فرعا للحرب على الإرهاب في هذا البلد، وأصبحت عملية محاربة تنظيم «القاعدة» والجماعات المتشددة الأخرى إحدى أبرز مهام قواتها وطائراتها التي هي بدون طيار، على غرار ما يحدث في منطقة وزيرستان على الحدود الباكستانية الأفغانية، أو ما يعرف بمنطقة القبائل. أمريكا لم تنتصر في الحرب على تنظيم «القاعدة» في وزيرستان، مثلما لم تنتصر على حركة طالبان في أفغانستان بعد عشر سنوات من الحرب على الإرهاب، وبالتالي لن تنتصر على الأعداء الجدد في ليبيا والصحراء الإفريقية الكبرى جنوبها. صحيح أن الطائرات بدون طيار، التي بدأت إدارة الرئيس بوش باستخدامها في أفغانستانوباكستان لمطاردة أنصار حركتي القاعدة وطالبان، نجحت في قتل الشيخ أبو يحيى الليبي وأبو اليزيد وبيعة الله محسود، واعتقال خالد شيخ محمد ورمزي بن الشيبة وأبو مصعب السوري وأبو زبيدة وغيرهم، وأخيرا اغتيال الشيخ أسامة بن لادن في منزله في أبوت أباد الباكستانية، في عملية جيمس-بوندية ما زالت غامضة، ولكن تنظيم القاعدة لم يختف من الخريطة، بل بات أقوى مما كان عليه قبل هجمات الحادي عشر من شتنبر عشرة أضعاف، بدليل فروعه في المغرب الإسلامي واليمن والعراق والصومال وسورية (فرع جديد) وفي ليبيا. ليبيا ستنضم إلى كل من الصومال واليمن وباكستان كسموات مفتوحة لطائرات «الدرونز» بدون طيار لتلقي بحملها على رؤوس المواطنين الأبرياء، تقتل عشرة مدنيين مقابل أحد المشتبهين بالانضمام إلى القاعدة. لا يمر شهر دون أن تصيب هذه الطائرات أهدافا مدنية، وتقتل أطفالا أبرياء، وفي بعض الأحيان تطلق صواريخها على سيارات التاكسي اعتقادا بأن عناصر من القاعدة تستقلها، تماما مثلما فعلت في منطقة كويتا الحدودية الباكستانية عندما قصفت حفل زفاف وقتلت أكثر من 15 إنسانا، معظمهم من الأطفال والنساء. سائق سيارة تاكسي بعث إلي برسالة يسألني فيها كيف يحصل على شهادة من الكونغرس الأمريكي بأنه ليست له علاقة ب«القاعدة» ولا يُقلّ أيّا من أنصارها حتى يتجنب الموت بأحد صواريخ الطائرات بدون طيار، التي «تتبختر» بحرية في أجواء بلاده وبتواطؤ مع حكومة الثورة. منذ عام 2004 قتلت فرق الموت الإلكترونية هذه (طائرات بدون طيار) 3145 شخصا بصواريخها في باكستان وحدها، 828 منهم من المدنيين و175 طفلا، حسب إحصاءات أمريكية نشرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية في مايو الماضي. لكن مصادر باكستانية تقول إن الرقم أكبر من ذلك بكثير، خاصة في صفوف المدنيين. محامون دوليون اعتبروا مجازر هذه الطائرات جرائم حرب، ويعكفون حاليا على رفع دعاوى قضائية ضد الحكومتين الأمريكية والبريطانية نيابة عن أسر الضحايا المدنيين الباكستانيين والأفغان، للمطالبة بتعويضات ومحاكمة من ارتكبوا هذه المجازر. قتْلُ السفير الأمريكيِّ وزملائه في بنغازي عمل مدان، ولكن أي قتل تمارسه الطائرات الأمريكية في ليبيا هو إرهاب مدان أيضا، لأنه إرهاب دولة من المفترض أن تتمسك بالحكمة وضبط النفس ولا تأخذ القانون بيدها مثل الجماعات الخارجة عن القانون التي اقتحمت سفارتها وقتلت دبلوماسييها. الظاهرة اللافتة للنظر أنه في كل دولة تتدخل فيها أمريكا وحلفاؤها الغربيون والعرب تتحول إلى دولة فاشلة دون جيش أو قوات أمن، تحط فيها التنظيمات المتشددة رحالها، وتبني قواعدها، وتتخذ الطائرات بدون طيار من سمائها مطارات دائمة لها. هذا ما حدث في العراق وأفغانستان واليمن والصومال، والآن في ليبيا، وربما غدا في سورية. لا نطالب بموقف حازم لوقف مسلسل الإساءات إلى الإسلام والرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، وبشكل نهائي فقط، وإنما بوقف تحويل بلداننا العربية والإسلامية إلى دول فاشلة دون جيوش قوية، حتى تظل إسرائيل هي القوة الوحيدة المهيمنة التي تملك جيشا قويا وأسلحة نووية في المنطقة.