المحجوب عرفاوي «حرائق المائة عام» عمل مميز لعبد الله عدالي الزياني، المقيم في أمريكا والمتحدر من قرية «أولاد زيان»، القريبة من مدينة الفقيه بنصالح. تتكون الرواية من ثمانية فصول، غنية بالشخوص والأمكنة والأحداث الدرامية والصراعات والأحلام والتطلعات والتوجسات والإحباطات، ولافتة بقالبها الفني والجمالي، ثرية بمعجم شعبي اختفى من القرى والمداشر من جراء التحولات السوسيولوجية والثقافية والاقتصادية والسياسية. في هذه الرواية، الآسرة، يستعيد السارد الطفل الذي كانه والقهر الذي عاشته عائلته وساكنة قريته ببني عمير. فقد ذاقت عائلته -في بلدتها الأم- شتى ألوان البؤس والحرمان والخوف من المجهول. وبعدما تعرّت أجسادها وتشققت أقدامها ورؤوسها واحترقت أجسامها وعصف الجوع ببطونها.. هاجرت، مضطرة، الى الدارالبيضاء، بحثا عن لقمة العيش. استقرت العائلة ب»كريان سنطرال»، داخل برّاكة سيئة، ليمتهن الأب «بيع القزبر والمعدنوس»، ولتمتهن الأم «بيع الماء»، في ظروف جد مأساوية.. بيد أنه في سيدي مومن تخلصت العائلة من الجوع، بعدما وجد الأب عملا في مطار أنفا وعثر على سكن في مرآب (كراج) في ضيعة (فيرمة) لدى النصراني مسيو كوكو. وهناك، تفاقمت عذابات السارد، لأنه عقد مقارنة بين المسلمين والنصارى، فوجد أن هناك بونا شاسعا بينهما على مستوى اللغة والملبس والمأكل والسلوك والضحك.. لكنْ، بعد فصل الأب من العمل، أجبرت العائلة على العودة إلى الجذور، في ضواحي الفقيه بنصالح، والرضى بالمكتوب، بعدما عاشت في سيدي مومن أياما رائعة وجميلة «روعة الأيام والأحلام التي خلفتها ورائي ولم أعشها قط ولم أرها قط. تبا لك يا قدري، ملعون أنت في ما فات وما هو حاضر وما هو آت».. ص. 56 أثناء العودة إلى الأصل، سيُرغم الأب الطفلَ على الذهاب إلى الكتاب (الجامع) ليصبح فقيها يكون له شأن كبير، يحضر الأعراس والمآتم ويعالج المرضى ويطرد الجن.. وكم كانت محنة الطفل قاسية، ذلك أنه يستيقظ فجرا ويلبس الجلباب والبلغة ويقصد الكتاب. وكان يتعرض يوميا للتعذيب على يد فقيه وغد، بواسطة قضيب من الزيتون، وللركل والضرب، بتيمومة، وغرز قلم من القصب في حنجرته بلا شفقة، ومن خلال عنف رمزي، يتمثل في نظرات الفقيه الشزراء إلى الطفل، وفي مخاطبته بمعجم ساقط (يا ولد المجحومة -نوض الله ينعل تاصيلت أمك- زيد يا ولد الكلبة، اعرض- حل فمك يا ولد الكلب).. وإذا كانت الغاية تبرر الوسيلة، فإن الطفل السارد فطن إلى إستراتيجية تخلّصه مما يلاقيه من فقيه عدواني وسادي وصاحب قناع، حيث تظاهرالطفل بأنه أصيب بالجنون.. فغدت أمه تعرضه على فقهاء هنا وهناك من أجل طرد الجني الذي سكن ابنها. وبذلك نجحت خطته ولم يعد يذهب الى الكتاب قط.. فأصبح يركب الدراجة الهوائية ويلبس السروال والقميص والحذاء ويقص الشعر وفق الطريقة العصرية، متخلصا من «الكرن».. وحين طلب من الطفل، ذات مساء، الذهاب إلى المدرسة في مدينة الفقيه بن ذصالح، ذهب صباح الغد راكبا دراجته وهو في غاية الغبطة، لأنه سيُقيم قطيعة نهائية مع ما كان يمارَس عليه من طغيان وقهر واستفزاز على يد الفقيه والأب والثقافة التقليدية التي كانت مهيمنة وقتئذ، ثقافة الأضرحة والأولياء الصالحين والفقهاء. أما اللغة التي اعتمدها السارد في عمله الروائي فإن ما يطبعها هو الإنسيابية وتوزُّع شعريتِها بين الفصيح الموحي والعامي العميق المدهش، والوصف الدقيق، الذي يهندس ملامح الشخصيات ودواخلها، والأمكنة وما يؤتثها والجرأة في قول ما ينبغي قوله دون قناع. ويتوق السارد، في عمله هذا، إلى الانفلات من ثقافة تقليدية كابحة، تتغذى من الخوف والخرافة والأسطورة، لتبقيّ ما كان على ما كان عليه، واعتناق ثقافة حداثية عقلانية تنصف الإنسان وتسمح له بالانطلاق دون وجود خطوط حمراء..