تدور في عالم اليوم حرب كونية للسيطرة على المستقبل.. مستقبل البشرية. وليس للعرب والمسلمين دور في هذا الصراع، لذلك من المرجح أن يُستعمر مستقبلهم، كما استعمر حاضرهم.. لكي يكون لنا مكان في هذا العالم لا بد من مصالحة العقل العربي -الإسلامي مع المستقبل.. وهذه السلسة محاولة لتأصيل الفكر المستقبلي في الإسلام، حيث يكون العقل المسلم قادرا على التعامل مع الزمان الآتي واستشراف المستقبل بثقة ومنهجية وعلم، دون أن يخطر بالبال أن في ذلك محذورا شرعيا.. وقدوتنا في هذا هو نبينا العظيم، عليه أزكى الصلاة والتسليم.. خاصة مع هذا الشهر الكريم.. شهر رمضان. رأينا أنّ كثيرا من الناس أساؤوا فهم أخبار المهدي. وللأسف فهذا مستمر إلى اليوم، رغم ما جلبه هذا الفهم السقيم من كوارث في تاريخنا الإسلامي. وسواس المهدوية في تاريخ المغرب اقتبست هذا التعبير من المرحوم المختار السوسي، حيث ذكره في موسوعته «المعسول».. ويعني به كثرة من كان في المغرب الإسلامي من مدّعي المهدوية، وهم طلاب سلطة ودنيا لا غير، لكنهم أفسدوا البلاد والعباد بهذه الدعوى. ولعل ابن خلدون هو أهمّ المؤرخين الذين وعَوا خطورة فكرة المهدي المنتظر وخطرها على الأمة.. فهو مؤرخ لاحظ بالاستقراء والتتبع أثرها الهدّام على أوضاع الشعوب والدول في تاريخنا الإسلامي.. وآخر من طلع علينا بدعوى المهدوية تلك الجماعة في المغرب، التي اعتقل بعض أفرادها في بداية هذه السنة. ولا أظن أن هذه الدعوى ستكون الأخيرة، بل يمكن أن تتكرر في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي. اهتمام الشيعة بالمهدي كان الشيعة أهمَّ الفرق الإسلامية التي ضخّمت من عقيدة المهدي، وأرادت أن ترهن مستقبل الأمة بأسرها لانتظار رجل قد يأتي بعد مائة ألف عام.. فالله، تعالى، وحده هو الذي يعلم متى الساعة، وظهور المهدي من أشراطها الكبرى. لأجل هذا وضع بعض الشيعة مئات الأحاديث في المهدي، حتى بلغت ألفا ومائتي حديث عندهم.. ويظهر من كلام النوبختي -أحد رؤوس الإمامية في زمانه- أن عبد الله بن سبأ وأتباعه أول من قالوا -حين قتل علي- إنه لم يمُت، ولن يموت حتى يحكمَ العرب ويملأ الأرض عدلا.. ثم تتابع ظهور المهديين، وما أكثرهم في تاريخ التشيع. وكنت قد بدأت في إحصاء بعضهم من خلال كتب المقالات، وخصوصا كتاب «فرق الشيعة» للنوبختي، ثم تركت ذلك لمّا تبيّنَ لي أنه تقريبا ما من رجل بارز من أهل البيت، إلا وقالت فيه طائفة من الشيعة حين مات: إنه لم يمت، ولن يموت حتى يملأ الأرض عدلا، كما ملئت ظلما وجورا. لكن الشيعة -وإن اتفقوا على خروج المهدي آخر الزمان- فإنهم اختلفوا في أثر هذه العقيدة المستقبلية على حاضرهم هم، وما ينبغي عمله فيه… ويمكن أن أصنف هذا الاختلاف إلى ثلاثة آراء رئيسية: الأول: رأي الزيدية، قالوا إن الإمامة مستمرة في ولد فاطمة، رضي الله تعالى عنها، إلى يوم القيامة، والمهدي هو حلقة فقط في سلسلة الأئمة. وكل واحد من نسل فاطمة رأى نفسه أهلا للخلافة وقام فدعا لنفس فهو إمام. ولذلك، فإن الإمامة لم تنقطع في الزيدية، إلا منذ أقلَّ من نصف قرن، في ما يعرف ب»ثورة اليمن». لكن هذا الانقطاع شأن سياسي عارض، ولذلك يمكن دائما أن تعود الإمامة في الزيدية. وهذا الموقف من المهدوية، كما ترى، أقرب المواقف الشيعية منه إلى أهل السنة. الثاني: رأي الإسماعيلية. وقد كان هؤلاء من أذكى الشيعة، ففهموا، من وقت باكر، أن عقيدة المهدوية والانتظار تؤدي بأصحابها إلى باب مسدود، فقالوا بعد وفاة إسماعيل بن جعفر الصادق: إن الإمامة في عقبه إلى يوم القيامة. والأئمة نوعان: أئمة الظهور، حين تكون الدعوة الشيعية قوية، ولها سلطان، وهذا حال أئمة الفاطميين -أو العبيديين- في مصر. وأئمة الستر، حين تكون الشوكة ضعيفة، وهو دور الستر. ولذلك فإن الإمام الحالي للإسماعيلية آغاخان هو الإمام الخامس والخمسون. لكن الإسماعيلية -كالزيدية- لم يتركوا لعقيدة المهدي أيّ أثر عملي على الحاضر. ولذلك كانت هاتان الفرقتان أكثرَ فرق الشيعة حركة ودينامية وتأثيرا، فأسسوا دولا وأمارات، بينما كانت الفرقة الأخرى تغط في نوم عميق… في انتظار المهدي، وهي: الرأي الثالث: الإمامية، وبالنسبة إلى هؤلاء ليس هناك شيء يمكن عمله، غير انتظار خروج المهدي، فاعتزلوا جماعة المسلمين ومنعوا الجهاد، واشتغلوا -في انتظار المهدي- بالجدَل وأوقفوا حركة التاريخ عند أحداث الفتنة الكبرى… في الوقت الذي كان غيرهم من المسلمين يبنون حضارة عظيمة ويشيّدون مدنية مزدهرة، ويسقط جندهم بالآلاف في المعارك مع الروم والترك والديلم وغيرهم… المأزق التاريخي للإمامية الظاهر أن الإمامية كانت، في البداية، أقربَ إلى الفرقتين الكبيرتين الزيدية والإسماعيلية، يدل على ذلك أنهم كانوا ينقلون الإمامة من رجل إلى آخر، في آل البيت بطريق التوارث، وساروا على ذلك مدة قرنين. ولذلك فإن سلسلة أئمتهم هي هكذا: علي، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي زين العابدين، ثم محمد الباقر، ثم جعفر الصادق، ثم موسى الكاظم، ثم علي الرضا، ثم محمد الجواد، ثم علي الهادي، ثم الحسن العسكري.. لكن المشكلة التي لم يتوقعها الإمامية، وهم الذين لا يُجيزون انتقال الإمامة من الأخ إلى أخيه إلا في حالة الحسن والحسين خاصة، وما عدا ذلك فإن الإمامة تنتقل إلى الابن.. (المشكلة) طرأت حين مات الحسن العسكري، سنة 254ه، ولم يخلف أحدا، أي لم يولد له ولم يعقب. هنا ظهر للإمامية أن الحل هو ختم الإمامة، فقالوا إن العسكري ترك طفلا وليدا، وإنه غاب في مدينة سامراء العراقية، وإنه هو محمد المنتظر، هو مهدي آخر الزمان.. ما العمل، إذن؟ العمل هو انتظار عودة محمد بن الحسن العسكري. وبهذا وقع الإمامية في مأزق خطير، لقد ظل هؤلاء قرنين من الزمان يقولون -في الرد على أهل السنة.. وسائر خصومهم الآخرين، كالمعتزلة- وفي إثبات وصاية النبي، صلى الله عليه وسلم، لعلي بالإمامة: إنه لا يجوز أن يترك الله، سبحانه، الأمة بلا إمام معصوم، فتختلف وتتهارج.. وهل يُعقل أن يبيّن الدين للناس كل شؤون حياتهم، ثم يدعهم يتخبطون ويتيهون في أخطر هذه الشؤون: الحكم والخلافة؟ كذا قالوا زمانا وأكثروا، ثم فجأة طلعوا على المسلمين، وقالوا لهم: لم يعد لكم إمام، لقد غاب، وعليكم انتظاره، وتدبروا أمركم أثناء ذلك. فجعلوا -كما قال ابن أبي العز- الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم، الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا. لقد كان هذا التناقض صارخا ومؤلما. عصر التيه كما قال عبد القاهر البغدادي عن إمامية القرن الخامس الذين عاصرهم: «هؤلاء اليوم حيارى في التّيه». لقد دخل الإمامية في طور الانتظار منذ سنة 254ه، زمن غياب الابن المزعوم للحسن العسكري.. وطال الانتظار، ولم يظهر صاحب الزمان!.. وبدأ الملل والسآمة يتسرب إلى بعض الإمامية، فتركوا المذهب وانضمّوا إلى الذين أقاموا «دولة المهدي» فعلا، إلى القرامطة والإسماعيلية، الذين كانوا في أوج سلطانهم. وقد عمّر هذا المأزق طويلا، حوالي أحد عشر قرنا.. حتى عصرِنا هذا، حيث اقترح بعض الإمامية حلا نسبيا لهذا المأزق. ولاية الفقيه العامة جاء السيد أحمد الخميني -من علماء الإمامية ومشعل الثورة ضد الشاه- ودرس مشكلة المذهب واستفاد من اجتهادات من سبقوه، خاصة التراقي في عوائد الأيام، فقدم حلا للوضع السلبي الذي طبع تاريخ الإمامية. وهذا الحل بسيط، لكنه سمح بإطلاق الفرقة من إسار هذه العقيدة المستقبلية الخطرة، أي انتظار المهدي.. وخلاصته إنه يجب تمهيد الأرضية للمهدي وإعداد الناس لظهوره وكذا تصريف شؤون الطائفة وفق الفقه الإمامي.. والذي يقوم بذلك هم علماء المذهب، الذين لهم نوع من الولاية على الجمهور، هي قبس من ولاية المهدي العامة. فالفقيه هو بمثابة «نائب» عن المهدي المنتظر، ولكنه يتمتع بأكثر صلاحياته، ولذلك ليس من حقه مثلا إعلان الجهاد، فهذا من اختصاصات المهدي فقط.. قال الخميني: لا فرق بين ولاية المعصوم وولاية المجتهد العادل من حيث العموم والشمول. أجل، إن منزلة المعصوم أرفع من منزلة المجتهد، ما في ذلك ريب، ولكنّ وظيفتهما واحدة حتى في السلطة والإمارة. وقد اختلف الإمامية في هذا الاجتهاد على رأيين: الأول: قبول الفكرة وتحويلها إلى واقع، وهو ما تحقق في ثورة إيران سنة 1979. ولذلك فإن دولة إيران حاليا هي دولة ولاية الفقيه، التي تمهد لظهور المهدي. الثاني: رفض الفكرة واعتبارها إما بدعة، وإما اجتهادا خاطئا. والاختلاف في مبدأ ولاية الفقيه سبب رئيس في النزاع الذي قام بين الخميني وخليفته السابق حسين على منتظري، والذي اتخذ أحيانا بعدا وطنيا. ويكشف هذا الخلاف استمرار المشكلة، ولذلك قلت إن فكرة «ولاية الفقيه» قدمت حلا نسبيا وليس نهائيا للمأزق، تفسيره أنك لو نظرت إلى الفكرة من الناحية التاريخية وجدتَ أن «ولاية الفقيه» حل ذكي ومناسب لمأزق الطائفة. لكنْ لو نظرت إليها من الناحية المذهبية العلمية، أعني بعرضها على عقائد المذهب، ونسقه العام، وجدت أنها بدعة، فعلا.. تنبني كل العقيدة الإمامية على انتظار المهدي وعلى الارتباط بهذا الانتظار الذي، يحكم أكثر شؤون الطائفة السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية، حتى صلاة الجمعة أوقفوها انتظارا للإمام.. وأحاديث الإمامية كثيرة في التحذير من مدّعي المهدوية وفي التحذير من تجاوز هذا الانتظار… ولذلك يروُون، عن جعفر الصادق، أنه قال: كل راية قبل خروج المهدي فهي طاغوت. ويقول المعاصرون منهم: إذا قلنا بولاية الفقيه ماذا نترك للمهدي؟ وماذا سيفعل حين يظهر؟ ولذلك لم تعد الآن لفكرة المهدي المنتظر أهمية عملية في حياة الإمامية. هذه خلاصة الموضوع: فكرة «ولاية الفقيه» حلّ ذكي للمشكلة التاريخية للإمامية، لكنه حلّ من خارج المذهب ومخالِف لروحه… فهي أقرب إلى الحيلة العملية منها إلى الاجتهاد المذهبي السليم، وبذلك انتصر الفكر البراغماتي على العقل المبدئي. وأحسب -والله تعالى أعلم- أن هذا المخاض الجديد للإمامية لم ينته بعد، لأنه من الصعب جدا أن تتخلص الطائفة -بشكل كامل- من آثار عقيدتها في المهدوية. ولكنّ علماء الشيعة اليوم يراجعون النظر في فكرة ولاية الفقيه ذاتها من جملة المراجعات المبدعة التي نراها في الفكر الإسلامي عامة -في قسميه السني والشيعي على حدّ سواء- والتي تمحّص في الكيفية العملية لتسيير شؤون الأمة وتحقيق قيمها في واقع الحياة. ولعل تجربة الشيعة مع هذا المفهوم مفيدة جدا، إذ يمكن أن تعتبر دليلاً إضافياً على صواب ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون ومن تبعه من العلماء والأئمة، من تضعيف أخبار المهدي، أو ما ذهب إليه غيرهم من العلماء من أن هذه الاخبار صحيحة لكنها تدخل في البشارة وضمن علامات الساعة ولا ينبني عليها عمل، فبالأحرى أن تقيّد حركة الأمة ومستقبلها.. ويبدو أن الصواب لا يخرج عن هذين الرأيين بحال، وإن كنتُ أميل إلى هذا الرأي الأخير. والله تعالى أعلم. الخلاصة إن الإسلام لا يربط الإنسان بمشروع قادم، ولا بأمل في مستقبل بعيد ومجهول، لا حقيقة له.. ليس في هذا الدين مهدوية ولا ألفية ولا مملكة قادمة لأحد.. الإسلام مذهب عامّ في الحياة، وضع للإنسان مبادئ نهائية ورسم له الطريق.. وطلب منه أن يحقق ذلك هو نفسه والآن.. لا أن ينقل ذلك إلى مستقبل لا يملك من أمره شيئا. لقد حرّر الإسلام الناسَ من الأوهام وعلّمهم أن الواقع الصالح إنما يتحقق نتيجة جهد الناس أنفسهم، وليس بالخوارق وما جاراها. وإن التحقيق العلمي في قضية المهدي يشير إلى أنها قد تكون فكرة مغرية في ساعات الضعف خصوصاً، وهي من ثمرات هذا الصنف من التفكير، الذي يهرب من الواقع بالتعلق بأحلام المستقبل... (وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون). يتبع..