احتل موضوع التعليم حيزا كبيرا في الخطاب الملكي الأخير لذكرى ثورة الملك والشعب، وفق نسق متسلسل منطقي، يبدأ بالشباب والمدرسة والأسرة وينتهي للحديث عن التنمية المنشودة، باعتبارها مطمحا لا يتحقق على المستوى الاستراتيجي بدون شباب فاعل، منتج ومتفتح، شباب ينخرط بإيجابية في التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي، وفي نفس الوقت لا يمكن تكوين شباب بهذه المواصفات بمدرسة تقوم على «منطق تربوي يرتكز على المدرس وأدائه، مقتصرا على تلقين المعارف للمتعلمين»، بل بمدرسة تعتمد «منطقا آخر يقوم على تفاعل هؤلاء المتعلمين، وتنمية قدراتهم الذاتية، وإتاحة الفرص أمامهم في الإبداع والابتكار، فضلا عن تمكينهم من اكتساب المهارات، والتشبع بقواعد التعايش مع الآخرين، في التزام بقيم الحرية والمساواة، واحترام التنوع والاختلاف» كما جاء في الخطاب الملكي. ولأن مشكلات الشباب كما هي متعارف عليها، تجد امتداداتها فيما وراء المدرسة أي في محيطها، فإنه من الواجب أن تكون للأسرة أدوار حاسمة في تحقيق هذا الرهان، وفق منطق الشراكة لا منطق الصراع، باعتبار أن الرهان على الشباب هو رهان مجتمع بأكمله..إذن ما الذي يمنع المدرسة المغربية من لعب دورها في هذا النسق المتكامل وظيفيا؟ ما الذي يجعل تعليمنا ناقص الجودة والجاذبية وغير ملائم للحياة كما جاء في الخطاب؟ أي دور للمدرس في هذا الوضع غير السليم؟ أسئلة وأخرى ستعالجها «المساء» في هذا الخاص عن المسألة التعليمية على ضوء الخطاب الملكي الأخير.
بات في حكم بديهيات مغرب اليوم، كون إشكالات قطاع التربية والتكوين هي من قبيل الأمراض المزمنة المستعصية ليس على المعالجة وحسب بل والتشخيص حتى، إذ كلما انبرى المرء لتشخيص معضلة من معضلاته إلا ويجد نفسه إزاء قضايا متشابكة ومترابطة نسقيا على نحو يصعب معها فرز الأسباب عن النتائج، وهذه عن التداعيات والتأثيرات، صحيح أن مشكلات الهدر المدرسي والانقطاع والتكرار مثلا، هي مشكلات لا يتوقف تأثيرها عند الشخص موضوع الظاهرة، بل تتعداها لتكون مشكلة مجتمعية عامة، مشكلة في التنمية والقيم الثقافية وحقوق الإنسان وغيرها، غير أنها مشكلات تتبادل المواقع في كل تحليل موضوعي، فتارة يبدو ضعف وتيرة التنمية سببا في ارتفاع نسب الهدر والانقطاع والتكرار، وهذا من جهة تفسير سليم، وتارة يبدو أن ضعف التنمية هو نتيجة للعوامل السابقة، خصوصا في عالم قروي مهمش وفقير جدا، وهو بدوره يعتبر تفسيرا سليما أيضا، وصعوبة هذا النوع من الاستدلالات الدائرية يتجلى خاصة في البرامج الإصلاحية والتي تتضمن برامج عمل..
فعلى الورق، هذه السنة هي الأخيرة في برنامج إصلاحي، سمي ب«الاستعجالي»، بدأ منذ ثلاث سنوات، وهو نسخة ثانية معدلة عن برنامج إصلاحي بدأ منذ ثلاث عشرة سنة من الآن، سمي بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، والذي جاء كثمرة لمجموعة من التقارير الوطنية والدولية والتي نبهت إلى الوضع المأساوي لتعليمنا قياسا لعدة مؤشرات كالهدر المدرسي والانقطاع والتكرار وضعف التعلمات في الكفايات الأساسية كالقراءة والكتابة والحساب..باختصار تعليم ينتمي لمغرب القرون الغابرة..
وعلى الورق دائما، خصصت للقطاع ميزانية ضخمة فاقت 50 مليار درهم على مدى ثلاث عشرة سنة، خصصت منها نسبة كبيرة للبرنامج الاستعجالي بلغت 30 مليار درهم، في أفق تأهيل المدرسة العمومية من حيث الموارد البشرية واللوجيستيكية، حيث تمت برمجة مجموعة من المشاريع، كبرنامج تيسير وبرنامج مليون محفظة للحد من الهدر المدرسي والانقطاع، ناهيك عن حزمة إجراءات إدارية وتربوية كان الهدف منها بعث روح جديدة في منظومتنا التربوية.
لكن على الواقع، فبعيد انقضاء عشرية الإصلاح، ظهرت حقائق مطابقة للواقع، تفيد بأن «دار لقمان لا تزال على حالها»، عندما صنف البنك الدولي المغرب في مرتبة عربية وإسلامية متأخرة، أي المرتبة 11 من مجموع 14 دولة، إذ تفوقنا فقط على موريطاينا والصومال وجيبوتي !!
وعلى الواقع دائما، وبعد ثلاث سنوات على البرنامج الاستعجالي، هاهو الخطاب الملكي الأخير يعلنها صراحة «مدرستنا تسائلنا جميعا»،لذلك «ينبغي إعادة النظر في مقاربتنا، وفي الطرق المتبعة في المدرسة»، وقبل هذا الخطاب كان الوزير الحالي قد أعلن الحقيقة المأساوية أمام نواب الشعب، إذ كشف أمام لجنة التعليم والثقافة والاتصال في مجلس النواب أواخر شهر يوليوز الماضي، أن هذا البرنامج الذي أعلنت عنه الحكومة السالفة، والذي اعتبر بمثابة طوق نجاة للتعليم المدرسي، لم يحقق أيا من أهدافه..فبماذا نفسر هذه المعضلة؟
لماذا فشل البرنامج الاستعجالي؟
دعوة الخطاب الملكي الأخير الحكومة إلى ضرورة العمل في اتجاه تبني تغيير « يمس نسق التكوين وأهدافه، وذلك بإضفاء دلالات جديدة على عمل المدرس لقيامه برسالته النبيلة، فضلا عن تحويل المدرسة من فضاء يعتمد المنطق القائم أساسا على شحن الذاكرة ومراكمة المعارف، إلى منطق يتوخى صقل الحس النقدي، وتفعيل الذكاء، للانخراط في مجتمع المعرفة والتواصل»، هي دعوة لوضع برنامج إصلاحي آخر، لكن أليس من الواجب تشريح مكامن الخلل في إنجاز البرنامج الاستعجالي؟ أليس حديث الخطاب الملكي عن «الشراكة والمسؤولية» هو دعوة صريحة لتجاوز منطق التحكم والإملاء التي تزعمتها مكاتب الدراسات الأجنبية والتي كانت تقف وراء هذا البرنامج؟
فإذا رجعنا إلى نص «البرنامج الاستعجالي»، سنجد أن الأهداف الاستراتيجية المحددة لمستويات التعليم، ورفع جودة التعليم بمختلف أبعادها سنجد أنها من المحال أن تتحقق في ثلاث سنوات التي حددها البرنامج الاستعجالي، لأنها أهداف أغلبها بعيد المدى.
إن المقصود بهذه الإشارة هو أن شمولية البرنامج الاستعجالي في رهاناته وأهدافه، من شأنها أن تكون عائقا ذاتيا في أجرأته، إذ أن جسامة برامجه الكبرى والصعوبات الموضوعية التي تواجه تنفيذها، من شأنها أن تشتت الجهود، فعندما نقول «استعجالي» فإن المطلوب هو أن تكون الأهداف أكثر تحديدا وتركيزا، فليس من المنطقي أن ندخل مريضا لقسم المستعجلات في حالة احتضار، ونجري له عمليات جراحية في القلب والرئة والدماغ والكلية والعين...في عملية واحدة، إذا الأولى هو أن نبقيه على قيد الحياة أولا، فتعميم التعليم وتوسيع قاعدة التعليم الثانوي التأهيلي وتنمية التعليم الخصوصي وتطوير الهندسة البيداغوجية وترشيد تدبير الموارد البشرية وتنمية البحث العلمي ولتجديد التربوي و..و..و..، هي أهداف مهمة وكبيرة بكل المقاييس، لكن لا يمكن أن تكون أبدا برامج لثلاث سنوات، إنها رهانات استراتيجية كبرى، فمن يقرأ هذا البرنامج ويستمع لمسؤولي القطاع وهم يتكلمون عنه، سيظن أن الأمر يتعلق برصاصة أخيرة.
هل إصلاح المدرسة
المغربية ممكن؟
كثيرة هي المداخل التي يمكن من خلالها الإجابة عن هذا السؤال، لكن نفضل ان نركز على عائق الموارد البشرية، فكما هو معلوم، حدد التقرير الأول للمجلس الأعلى للتعليم في تشريحه لمعوقات إصلاح منظومة التربية والتكوين في بلادنا، خمس محددات تشكل مصادر الاختلالات التي تعرفها هذه المنظومة، منها ضعف التعبئة من أجل الإصلاح، وغياب الثقة الجماعية في المدرسة المغربية، وهذا الخلل الكبير ليس فقط مشكلة تواصلية على هامش إصلاح المنظومة، بل إن ضعف انخراط الأسرة ومختلف المتدخلين الاجتماعيين والاقتصاديين والمحليين، راجع بالأساس إلى هذه المشكلة، فصورة المدرسة العمومية في محيطها عامة لا تعدو أن تكون صورة سلبية راكمتها سنوات الخبط على مستوى البرامج الإصلاحية، وأساسا انعدام الصلة على مستوى القيم بين هذه المدرسة والمجتمع، اللهم إلا صلات لها علاقة بكون المدرسة سوق استهلاكية مربحة للمخدرات وتجارة الجسد القاصر، في تطاول صادم أحايين كثيرة، غير أن الناظر في الوجه الآخر للعملة، غير وجه المؤامرة والاضطهاد الذي نشعر به نحن رجال التربية والتكوين، سيرى أشكالا متعددة من التقصير يتحمل الجميع مسؤوليتها، بدءا من المدرس رأسا إلى السيد الوزير، تقصير مرده إلى فقدان الجميع الثقة في قدرتنا جميعا على استدراك اختلالات منظومتنا إن نحن فعلا امتلكنا إرادة طيبة للفعل، وهذا ما نعوزه بهذا القدر أو ذاك صعودا ونزولا.
فبديهي كل البداهة أن غياب إرادة الفعل سبب رئيسي في فشل كل المبادرات الإصلاحية في قطاع التربية والتكوين، في وضع مأساوي كهذا تصبح مفاهيم المراقبة والمحاسبة والتأطير والتواصل والتحفيز والتكوين وإعادة التكوين وغيرها من وسائل التعبئة، تصبح مفاهيم جوفاء تصلح لتجزية الوقت، هذا إن لم تؤخذ على محامل أخرى، تنآى بالمدرسة عن أهدافها المصيرية وتعطي نتائج عكسية لكل ما تم التخطيط له، لنعاود الإسطوانات ذاتها، بعود أبدي لا مكانة فيه للتقدم والقطائع والتجاوز..اللهم إلا التكرار والاجترار وقليل من الجرأة للاعتراف بذلك.
فالجميع بدءا من أصغر عون خدمة في مدرسة إلى السيد الوزير، يقر بأن المدرسة العمومية تعاني من اختلالات، وقد يحصل أن يتفقوا أيضا في وصف أعراض هذه الاختلالات، لكن تحديد الجميع للمسؤوليات دوما، وأقول دوما، ما يتجه إلى تحميل الآخرين مسؤولية الفشل، وفق ميكانيزم نفسي ملؤه برانويا الاضطهاد، فالجميع يبرئ ذاته ويلقي بالمسؤولية جزافا؛ يمينا وشمالا على الآخرين..
فالمدرس يلقي باللوم على الإدارة التربوية في مشاكل الخريطة المدرسية والاكتظاظ وتدبير الزمن المدرسي ورتابة الحياة المدرسية وبالتالي ضعف النتائج والجودة إلى غير ذلك، والإدارة التربوية تحمل المسؤولية للإدارة الإقليمية، والتي تعتمد على مقاربات محاسباتية تقنوية غير مرنة في تدبير الموارد بمختلف أنواعها، وهي أيضا تلقي باللائمة على الإدارة الجهوية والمستفيدة من مناخ تدبيري يسمى مجازا «بترسيخ الحكامة»، فيما هو تتويج ل«ملوك صغار» في الأكاديميات، يسيرون أكاديميتهم بذهنية تسيير الممتلكات الشخصية، ويحتلون المنابر للتبجح بأهمية الحكامة والشفافية والتواصل..، وهؤلاء أيضا لا ينسون أن يحملوا الوزارة والمصالح المركزية مسؤولية الإغراق في بيروقراطية الأزمنة البائدة، وهذه المصالح لا تنسى أن تحمل الوزير مسؤولية غياب الإرادة السياسية، ولكي تكتمل سلسلة التبريرات ودفع المسؤولية عن الذات، يعاود الوزير القهقرى إلى نقطة الصفر، وتحميل المدرس مسؤولية فشل الإصلاح، وعزمه محاسبة المقصرين..وفتح خط أخضر لتلقي شكايات المواطنين من المدرسين..لتكتمل دائرة الاتهام..حيث يغيب النقد الذاتي ويحضر التبرير، ويغيب الواجب ويتضخم الحق..
فمن سمع السيد الوزير المسؤول عن البرنامج الاستعجالي، السيد اخشيشن، يقول إن «جل المدرسين جاؤوا صدفة إلى قطاع التعليم، وليس اقتناعا بمهمة التدريس»، سيفهم أي خلل هذا الذي يعتري تصورات الجميع دون استثناء، في تبرير أخطائهم والتنصل من مسؤولياتهم، والبدء بتحميل الآخرين مسؤولية الفشل، وخطورة هذا الوضع المأساوي هو أنه في الوقت الذي يُطالب فيه الجميع بالتعبئة الشاملة وبالالتزام الكامل والمطلق بإصلاح منظومة التربية والتكوين، نجد فيه الجميع يستنفر ملكاته وقدراته التواصلية والتحليلية فقط في التبرير واجترار وضع قائم.
هكذا تكتمل السلسلة الدائرية على شاكلة السلسلات الغدائية الشهيرة في عالم الغاب، تنطلق السلسلة من المدرس صعودا إلى الوزير لتعود إليه رأسا من هذا الأخير، وهكذا والأيام تمر من سنة قيل إنها بداية فعلية لمدرسة النجاح، ولتمر السنوات الثلاث لبرنامج قيل عنه إنه استعجالي، وها هم الجميع يعاودون الحديث عن أزمة التعليم، ليس لأنها غير موجودة بل لأنهم مرتاحون لكونها أزمة تعني الآخرين وليست تعنيهم..
إن غياب إرادة الفعل، هو السبب العميق لضعف التعبئة على أرضية كل برنامج إصلاحي، ولعل هذه الحقيقة يجب أن تشكل خريطة طريق بالنسبة للجميع، فمن نتائجها الفورية أيضا اضمحلال الثقة في المدرسة العمومية إلى درجات دنيا أضحت فيها المدرسة مرادفة لإعادة إنتاج الفشل والتخلف والأمية والسلوك اللامدني والظلم والتسلط والابتزاز..وكل الرذائل، بل إن المدرسة، بشقيها العمومي والخاص، أصبحت رائدة في هذا المجال..
إن مشكلة المدرسة العمومية قبل أن تكون مشكلة خصاص في الإمكانات وضعف السياسات هي أساسا مشكلة في ضعف التزامنا كرجال تربية وتكوين، بالتعبئة لإيجاد حل لمعضلاتها، صحيح أن المشكلة ليست فينا وحدنا، فللأسر والجماعات المحلية والمقاولات والمجتمع المدني والنقابات نصيبهم، غير أن المشكلة بدأت بالتأكيد منا، وبأيدينا وحدنا الحل، إنه البدء من الذات وتحمل المسؤولية في حدود الواجب على كل منا..
المدرس..حجر الزاوية في الإصلاح
التدريس كما نعلم، فن ودراية وصناعة، فليس كل ذي علم أو ذي خلق يصلح أن يكون مدرسا، فكم من عالم مجدد تفتنك كتبه وتآليفه، وما إن تستمع لدروسه أو مداخلاته حتى تصاب بخيبة أمل توازي في قوتها افتتانك بأسلوبه واجتهاداته، ولكن تعاكسها، وكم من فاضل يحتدي الناس بأعماله،ولكن قلة علمه وضعف تمييزه تجعل كلامه منفرا وغير ذي تأثير، فالتدريس قبل أن يكون معرفة وعلوما يكتسبها صاحبها بالمواظبة والمجاهدة، هي أولا هيئة واستعداد، وهما مبدأ هذه الصناعة وإليها ترجع كل المبادئ، فإن كان الجميع ينكر على حكومة الفاسي المنتهية تبنيها لعملية توظيف مباشر في مهنة التدريس تحديدا دون إجراء الحد الأدنى من الانتقاء والذي يمكن هذه المهنة من استقطاب ذوي الاستعداد فقط دون غيرهم، فلأن هناك فرق كبير بين أن نحل مشكلة هي التشغيل، كمشكلة اجتماعية صرفة، وهذا حق دستوري لا يرتفع من جهة، وأن نخلق في هذا الجسم المعتل عللا أخرى تنضاف لعلله المزمنة أصلا، علل ذات طبيعة تربوية..
أما الاعتياد فإن هناك أمورا إذا اعتادها المدرس أضحى معها مبدعا وممتعا، أولها وعماد سنامها التحصيل المعرفي المتواصل، فالمدرس الذي يهجر الكتاب يصبح ضارا لغيره، وإزاحته عن هذه المهنة واجبة عقلا وشرعا، فإن كانت نقيصة التكبر مانعة لحصول المعرفة، فإنها بالنسبة للمدرس كبيرة تورث صاحبها شتى أنواع الإدانة، وكم يسهل على تلامذته اكتشاف أمره وفضح تقاعسه، وتطاوله على ما لا يعلم..ولم يجد لما يعرف به دون علم سبيلا لتحصيله..هذا عن المدرس الذي منعه تهاونه أو تكبره عن الاستزادة في المعرفة، أما المدرسين الذين أدمنوا مقاهي ومحلات القمار، يقضون فيها الساعات الطوال في انتظار تحقق هلوسة ربح مادي سريع، منافسين في ذلك الجهلة والرعاع والسقاط، فهؤلاء هم فاسدو القطاع ومفسديه.
وكم حاجتنا في القطاع اليوم، لمدرسين مستعدين بالفطرة لهذه الصناعة ولهذا الفن السامي، مدرسين لا تنقطع علاقتهم بالمعرفة لمجرد «خروجهم» خارج السلم، أو لمجرد حصولهم على شهادة، وكم حاجتنا اليوم، لتسطير برنامج انتقائي وتكويني صارم يعيد للمهنة هيبتها ووقارها ودورها الريادي في المجتمع.
فإذا كنا اليوم، على المستوى البيداغوجي، نتكلم عن المتعلم كمركز للعملية التعليمية التعلمية، وعن الحياة المدرسية، كفضاء شامل تتفاعل فيه مختلف مكونات الحياة التربوية، والتي تتجاوز في ديناميتها وفعاليتها الأنشطة التقليدية للمدرسة كتلقين، ونتكلم أيضا عن المدرس كوسيط بين مصادر المعرفة والمتعلمين، ووسيط اجتماعي بين المدرسة والمجتمع، وفاعل في مشروع المؤسسة ومنخرط في محيطه وفاعل فيه، فإن هذا لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع دون تكوين للمدرسين مفكر فيه بعناية وعقلانية، سواء في مرحلة التكوين الأساس، والذي تمت المراعاة فيه للجانبين النظري والعملي، أو في مرحلة التكوين المستمر والدائم لهؤلاء الأطر.
من هنا نعتقد أن خطوة توحيد مؤسسات تكوين الأطر في مؤسسة واحدة، هي المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، خطوة كانت منتظرة، لأن منطلقها واضح، وهو أنه لا يمكن توحيد منظومة التربية التكوين وخلق الانسجام بين مكوناتها على أرض الواقع بدون توحيد مؤسسات تكوين أطر هذه المنظومة، في إطار مؤسساتي مناسب من حيث بنيته التحتية ومناهجه ولأطر العاملة فيه، في أفق تكوين أساتذة ذوي كفاءات مهنية تربوية تمكنهم من أداء مهامهم بمهنية متميزة.
وهذا الاختيار، والذي تسعى الوزارة لتبنيه ابتداء من السنة الدراسية المقبلة، من شأنه أن يرتقي بالممارسة التدريسية، ويربط ولوج مهنة التدريس بالتكوين، علما أن رهان تجديد المدرسة مشروط بجودة عمل المدرسين وإخلاصهم والتزامهم، وكذا جودة التكوين الأساس والتكوين المستمر والفعال لهم، وعندما نتكلم عن رهان بهذه الأهمية فنحن نتكلم عن رهان ذي بعد استراتيجي بالنسبة للمنظومة ككل، لكونه يتعلق بتأهيل الموارد البشرية، والتي بدونها لا يمكن تحقيق أي شيء في مسار إصلاح هذه المنظومة.