يعتبر قطاع التأمينات من أعظم أوجه السمو الحضاري الذي أبدعته البشرية في العصر الحديث، ذلك أنها تعتبر الترسيخ المؤسساتي والاقتصادي والمالي لواحد من أهم المبادئ الإنسانية، ألا وهو التكافل، حيث كانت البشرية تسعى دائما إلى إعمال هذا المبدأ من أجل حماية أفرادها أمام الأخطار والمصائب، سواء تعلق الأمر بالحوادث البدنية، التي قد تصل حد الموت، أو الخسارة الاقتصادية أو غيرها من الآفات التي تحدق بالإنسان. وفي المغرب، كما في باقي الدول العربية والإسلامية، يعتبر التكافل الاجتماعي أحد أهم القيم التي دعا إليها ديننا الحنيف، ومن أهم الميزات الخاصة لمجتمعاتنا، سواء في الحاضرة أو البادية، حيث رسخت العادة أنه كلما تعرض فرد أو أسرة لمصيبة ما، خاصة في حالة المرض أو الموت، سارع الناس إلى مؤازرته، من خلال جمع الهبات وإعطاء الطعام... وعليه، فقطاع التأمينات يشكل تعبيرا ساميا عن هذه النزعة الإنسانية الهادفة إلى مساعدة الآخرين في وقت الشدة والمضرة؛ وهو بهذا يعتبر أحد أكثر المهن نبلا من حيث المهمة السامية التي يتولى العمل من أجلها، والمتمثلة في توفير الوسائل المادية من أجل مؤازرة الناس وتعويضهم عن الأضرار التي تلحق بهم، بسبب جل الأخطار التي تحدق بهم كالمرض أو الحريق أو السرقة أو حوادث السير... وعليه، فإن هذا القطاع اتخذ مكانة مركزية في الاقتصاديات المتقدمة، حيث بموازاة التقدم التقني والصناعي الهائل والمتسارع الذي حققته هذه الدول، تطور مبدأ التأمين للوقاية من الأخطار التي ما فتئت تتطور وتتعدد جراء هذا التقدم. وإذا كان قطاع التأمينات بالمغرب يضطلع بدور مهم في مواكبة التطور الاقتصادي والصناعي الوطني، من خلال حماية الأفراد والشركات أمام جل الأخطار المتعارف عليها دوليا، فإنه تبقى أمامه العديد من العقبات، الثقافية والقانونية والتنظيمية، التي تحد من آفاق تطوره في الاتجاه السليم وتمنعه من التخلص من تبعات الماضي التي جعلته قطاعا ريعيا بامتياز. ذلك أن قطاع التأمينات لم يكن استثناء في النسيج الاقتصادي الوطني، حيث ظل لعقود يعمل بمنطق ريعي واضح، على كل الأصعدة، وبشكل متراكب، سواء على مستوى شركات التأمين أو على مستوى وكلاء التوزيع، حيث أعطيت تراخيص إنشاء شركات التأمين لمقربين من المخزن، كتعويض على خدماتهم ووفائهم. وبدورها، اتخذت هذه الشركات وكلاء لها على أساس القرب والزبونية والرشوة، حيث كان الحصول على «رخصة الوكيل العام للتأمينات» بمثابة ورقة الدخول إلى دائرة مغلقة من المحظوظين، لا تعطى إلا للمختارين الأقرباء. ولقد كان السبب في تفشي هذا النظام الزبوني هو أن قطاع التأمينات كان يأخذ الأموال من المواطنين، بدون أن يرد إليهم شيئا، حيث كان الحصول على الترخيص، سواء للشركة أو الوكيل، بمثابة الباب المفتوح من أجل تحصيل أداءات التأمين الواجبة بسلطة القانون، دون أن يتبعها التعويض الكامل للمتضررين وضحايا الحوادث المؤمن عليها؛ حيث صار من المعروف أن شركات التأمين لا تعوض شيئا، كما أن العديدين من وكلاء التوزيع كانوا لا يبلغون أداءات زبائنهم إلى شركات التأمين، بل يحصلون لأنفسهم هذه العائدات؛ فكان قطاع التأمين في المغرب بذلك من أبشع أنظمة الريع، إذ كان المواطن ملزما بالأداء من جهة، لكنه لم يكن يحصل على أي خدمة أو تعويض من جهة أخرى. والأكيد أن هذه الممارسات قد انتهت اليوم، ذلك أن القانون رقم 17/99 لعام 2002 المنظم لقطاع التأمينات جاء بإطار تنظيمي واضح يؤسس لقواعد مهنية ومالية صلبة، مكنت من تطهير هذا القطاع من العديد من الشوائب التي كان يعرفها، وأسست لمنظومة قانونية تحمي المؤمن وتضمن له حقوقه. إلا أنه على الرغم من هذه الإصلاحات، لا تزال العديد من الإشكالات قائمة على مستوى الواقع، خاصة في ما يتعلق بتوزيع خدمات التأمين، حيث بقدر ما تحول قطاع التأمينات من نظام ريعي إلى نظام تنافسي، ظهرت العديد من الممارسات التي تكرس تطور شركات التأمين نحو نوع من الرأسمالية المتوحشة، الجارية وراء الربح بكل الوسائل، بما فيها الاستغلال المفرط للوسطاء، من خلال الشروط المالية المجحفة التي تفرض عليهم، والتي تنتهي بالعديد منهم إلى الإفلاس، بل إلى السجن والتشرد في حالات عديدة. أستاذ باحث أبوالعراب عبد النبي