بعد عشر سنوات على وفاة الراحل المجاهد أحمد معنينو، الذي عاصر ستة ملوك، يدعونا ابنه الصديق معنينو، الصحافي الذي عمل مديرا للتلفزة والإعلام بوزارة الاتصال ثم كاتبا عاما بنفس الوزارة، إلى خوض رحلة ممتعة ومثيرة عبر صفحات كتابه الذي يوجد قيد الطبع. رحلة في الذاكرة تستغرق قرنا من الزمن. وهي الفترة التي قضاها الراحل قبل وفاته عن سن ال97. وكان الراحل أحد صناع المد الاحتجاجي ضد الظهير البربري عبر قراءة اللطيف في المسجد الأعظم بسلا، وساهم في تنظيم أول احتفال بعيد العرش تعرفه المملكة. اعتقل و سجن عدة مرات بسبب خطبه وترؤسه انتفاضات شعبية كثيرة. وقاد أول مظاهرة بالمغرب للمطالبة بحرية الصحافة، فنفي تسع سنوات. عمل الراحل في التربية والتعليم، وأسس عدة مدارس حرة. كما عمل بالصحافة محررا ورئيس تحرير ومدير نشر، وقد نشر آلاف المقالات والدراسات بالجرائد والمجلات. كان من بين مؤسسي حزب الشورى والاستقلال، وعضوا بارزا في مكتبه السياسي. إلى جانب ذكرياته ومذكراته المكونة من 11جزءا، ألف الراحل 13 كتابا تحدث فيها عن مواضيع مختلفة، أشهرها كتابه حول المعتقل الجهنمي «جنان بريشة» بتطوان، وكتاب حول «كوميسارية الساتيام» بالدار البيضاء، وهما سجنان عذب فيهما واغتيل العديد من الشوريين والديمقراطيين من أصدقائه. كان يخشى أن تصيب الذاكرة الوطنية الشيخوخة والنسيان. لذلك عكف على الكتابة والتأريخ لينعش ذاكرة الأجيال المتعاقبة بفترات من تاريخ المغرب، الذي وجد أن بعض فصوله خضعت للتزوير. كان بيته مقصدا للمظلومين والمستضعفين.. وقد عاش فقيرا ومات فقيرا. بضع سنوات بعد المشروع الإصلاحي لعبد الله بنسعيد، ظهر رجل إصلاحي جديد في مدينة سلا هو الحاج علي زنيبر المنتسب إلى عائلة سلاوية عريقة تحمل أفرادها على مر العصور مسؤوليات كبيرة في الدوائر الرسمية. وقد استطاع شقيقي عز المغرب في أطروحته لنيل الدكتوراة في التاريخ في موضوع «مدينة سلا ما بين نهاية القرصنة وبداية الحماية من الغضب إلى الاحتلال» أن ينفرد بمعلومات دقيقة حول حياة علي زنيبر بعد أن اكتفى العديد من المؤلفين بالحديث عن «شخصية غامضة في مسارها وحياتها». إن المعلومات القيمة التي تضمنتها هذه الأطروحة تحدد بدقة حياة علي زنيبر حيث اشتغل في صباه بالتجارة وأثناء رحيله مع الحجاج استقر في مصر واشتغل بها في الاستيراد والتصدير حيث دامت إقامته هناك ربع قرن كان خلالها على اتصال بعلمائها وقادتها السياسيين. عند عودته سنة 1904 إلى المغرب استقر علي زنيبر في طنجة واقترب من دار المندوبية «وزارة الخارجية» واهتم بطبع ونشر الصحف والكتب، ورغم انتقاله إلى فاس ظل على اتصال وطيد بعلماء سلا ووجهائها، وقد تمكن من جمع الكثير من الوثائق والمعاهدات الدولية في شأن الحياة السياسية المغربية. لقد استغل علي زنيبر هذه التجربة الواسعة لمتابعة الأحداث العالمية، خاصة التحولات والصراعات التي كانت تعرفها أوروبا والوضعية التي كانت تجتازها بلادنا ليتقدم بمشروع دستور يعتبر أول محاولة مغربية لإصلاح الأوضاع السياسية. إن عنوان مشروعه الدستوري يلخص الشغف الذي كان يؤرقه، وهو «المحافظة على استقلال المغرب ورفض سيطرة الاحتلال». لذلك فمشروعه «وطني استقلالي» وهو كذلك إصلاحي لأنه اقترح سبل تنظيم العلاقة بين «السلطان ورعيته»، أي بين الحاكم والمحكوم. وهكذا نجده يطالب بالحفاظ على الاستقلال وتنظيم الوضعية الداخلية بانتخاب مجلس يقترح الإصلاحات الضرورية في جميع الميادين. كما دعا إلى بث الروح الوطنية، إذ بدونها «لا يمكن ولوج عالم التمدن والحداثة، وإلا سيلحق بنا ما حدث في الجزائر وفي تونس...». وطالب زنيبر بالحفاظ على «الهوية الوطنية»، وضمنها الحفاظ على اللغة العربية ورفض نظام الحماية الأجنبية للأشخاص «حتى يكون المغاربة سواسية أمام القانون جميعهم وبدون استثناء». وطالب بحكومة مسؤولة عن القطاعات الحيوية للبلاد واختيار الموظفين من بين الكفاءات وخضوعهم للمراقبة والمتابعة وتحضير ميزانية سنوية وإدخال التقنيات المتطورة في جميع المجالات، بما فيها النصوص القانونية المؤطرة للعمل الحكومي، ومنها التنظيمات المالية والمحاسباتية. يقول الأستاذ جاك كايي حول هذا المشروع الدستوري:«هناك مجهود بيِّن للتنظيم واقتراحات متعددة من شأنها إيجاد حل للحياة السياسية والمؤسساتية في المغرب في بداية القرن..». وهكذا يكون المولى عبد العزيز قد توصل بمشروعي إصلاح لأوضاع المغرب الأول من طرف عبد الله بنسعيد والثاني من طرف علي زنيبر. إن هذين المشروعين المقدمين من طرف شخصيتين سلاويتين من عائلتين شهيرتين يعكسان الاهتمام الذي كان يوليه الرأي العام السلاوي ونخبته للتطورات المتسارعة التي كان المغرب يعيشها وسط أسئلة مخيفة وملحة عن مصير البلاد. كما أن هذين المشروعين يؤكدان التأثير البالغ الذي كونه «الاقتراب» و»الاطلاع» على التجارب الأجنبية و«الشعور بقرب الكارثة ومحاولة التصدي لها» عبر إصلاحات جذرية للدولة والمجتمع. من سلا برز اسم المؤرخ أحمد الناصري المزداد سنة 1835 بمدينة سلا، حيث درس على أهم علمائها قبل أن ينكب على البحث والمطالعة وهو في بداية شبابه. «كان متشوقا دائما للاطلاع على المعارف الوقتية والوقوف على خصائص العلوم العصرية والمخترعات الأوروبية». وأضافت مقدمة كتابه الجامع «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» بأنه «كان يهتم بإرسال أبنائه إلى أوروبا بقصد أخذ العلم من مدارسها، وهي الفكرة التي لم تخطر لأحد من المغاربة أهل عصره». اشتغل في دواليب الدولة في مناطق مختلفة من المغرب استغلها لزيارة الخزانات العامة والخاصة والحصول على معلومات ووثائق حول تاريخ المغرب. كما اقترب من عدد من ممثلي الدول الأجنبية وحصل منهم على تدقيقات تاريخية ووثائق نادرة ساعدته على إعداد مؤلفه التاريخي، مستعينا بعدد من التراجمة لوثائق إسبانية وبرتغالية وفرنسية. وقد ترك أحمد الناصري أكثر من ثلاثين تأليفا ودراسة في علوم مختلفة، لعل أشهرها «الاستقصا» الذي طبع في مصر سنة 1895، والذي يعتبر لحد اليوم مرجعا أساسيا ورئيسيا لتاريخ المغرب. إن الحديث عن أحمد الناصري لا يهدف إلى التعريف بتآليفه وإنتاجه الغزير كما لا يهدف إلى تحليل أفكاره ونظرياته التي كانت تعتبر أفكارا ونظريات متطورة بالنسبة لعصره، ولكن الحديث عنه يهدف إلى وضعه في نسق فكري واجتماعي وثقافي كان يختمر عند النخبة السلاوية في إطار مشروع وطني لتطوير المغرب والحفاظ على استقلاله وبناء دولة عصرية ومتقدمة. وقد وضع الأستاذ محمد المنوني في مؤلفه من جزأين «مظاهر يقظة المغرب الحديث» أحمد الناصري ضمن الشخصيات المساهمة فيما شهده المغرب في القرن التاسع عشر من «حركة تجديد ومحاولات لإدخال إصلاحات حديثة على أوضاع المغرب نظير الواقع في تركيا والشرق العربي». وقال المرحوم المنوني في نفس الكتاب: «كان أحمد الناصري معتنيا بمطالعة المجلات العلمية، مولعا بالجرائد وترجمتها، والاطلاع على ما فيها من الفوائد والشوارد والتمعن فيها وانتقادها، وهو أول مؤرخ مغربي حديث اقتبس من المصادر الأجنبية وخالط رجالات أوروبا للاستفادة من معارفهم». وبالرجوع إلى «الاستقصا» نجد أن الناصري لم يؤلف كتابا تاريخيا فقط، ولكنه استغل الفرصة للإعراب عن وجهة نظره في عدد من الأمور، ومنها أساسا الطوائف والزوايا التي كان انتشارها كبيرا في المغرب، والتي انتقدها الناصري بقوة وعنف بعد أن وصفها بدقة. «إنها دعوة قبيحة وهي اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الشيوخ الذين عاصروهم فيتمسكون بخدمته والتقرب إليه. فسار الأمر عصبيا وصارت الأمة بذلك طرائف قددا، ففي كل بلدة أو قرية عدة طوائف.. حتى صارت كل طائفة تجتمع في أوقات معينة في مكان مخصوص على بدعتهم التي يسمونها الحضرة. ولا تجد في هذه المجامع الشيطانية غالبا إلا من بلغ الغاية في الجفاء والجهل. ومن بدعهم الشنيعة محاكاتهم أضرحة الشيوخ لبيت الله الحرام من جعل الكسوة لها. وفي جهالاتهم الفظيعة جمعهم بين اسم الله تعالى واسم الولي في مقامات التعظيم كالقسم والاستقطاب وغيرهما». هكذا وصف الناصري هذه الظاهرة المتخلفة وانتقدها بجرأة وشجاعة لكونها ظاهرة بعيدة عن روح الإسلام وتعاليمه. إن الناصري عندما يقدم في كتابه «تعظيم المنة بنصرة السنة» هذا الوصف لهذه الظاهرة الاجتماعية لاشك أنه شاهدها وعاينها في المناطق التي زارها أو اشتغل فيها، كما أنه لاحظها عن قرب في مدينة سلا حيث تكثر الزوايا والأضرحة وتتناسل الطرقية. لقد عاصر الناصري نهضة الفكر السلفي الذي كان يموج في الشرق العربي وتأثر بالدعوة الإصلاحية وبمفكريها واطلع بواسطة المؤلفات التي كان يتوصل بها من مصر وتركيا والشام على الأفكار والنظريات والاجتهادات الشرقية منها والغربية، مما جعله «حلقة مهمة من بين الذين عملوا على إصلاح الدين، مع الأمل على أن ينعكس ذلك إيجابا على الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في ذلك العصر».