ليست هي المرة الأولى التي يتنازع فيها الاشتراكيون على مناصب القيادة، حيث اعتادوا تنظيم خصوماتهم في تيارات تتقاسم هيئات الحزب ومنابره ونوابه. غير أن الخصومة التي احتدت بينهم أمس في مؤتمر ريمس، جرت على خلفية صراع فكري بين تيارات تتجاذبها خيارات جوهرية بين الاشتراكيين الليبراليين القائلين بالمبادرة الحرة والابتكار الاقتصادي دون إلغاء دور الدولة، والليبراليين الحداثيين القريبين من إيديولوجيات اليمين المتفوقة حاليا، والمحافظين المتشبثين بالنهج الاشتراكي المؤمن بالدولة الراعية وبإعادة التوزيع الاجتماعي المنصف للثروة. لم يتوصل قادة الحزب الاشتراكي الفرنسي في مؤتمرهم المنعقد ما بين 14 و16 نونبر بمدينة ريمس إلى اتفاق يذكر حول جنس وطبيعة الاشتراكية التي يريدونها للفرنسيين، وحول أي من الأسماء الأربعة المرشحة لانتزاع منصب الكاتب الأول للحزب، وفي سياقه أيضا، انتزاع الترشيح للرئاسة سنة 2012. والأربعة معا، سيغولين روايال وبرتران دولانوي ومارتين أوبري وبنوا هامون، يتصرفون وكأنهم في حملة انتخابية للظفر بالمنصبين معا، حتى وإن كان كل واحد منهم يدعي مظهريا أنه يغلب المصلحة العليا للحزب. وقد فشل المرشحون الأربعة في التوصل إلى صيغة توافقية تسهل عملية انتخاب الكاتب الأول، مما يستدعي إعطاء الكلمة يوم الخميس 20 نونبر للأعضاء المنخرطين وعددهم 270 ألفا لاختيار من يرونه أهلا لخلافة فرانسوا هولاند، الشريك السابق لروايال الذي أمضى 11 عاما على رأس الحزب دون عطاء يذكر على مستوى التأطير أو على مستوى المشروع السياسي الذي ظل غائبا في عهده. هولاند.. عطاء باهت شهدت فترته حرب اتجاهات غير مسبوقة كرست التمزق والانقسام في صفوف زعمائه، مما انعكس سلبا على مستقبله بعد أن مني بالهزيمة للمرة الثالثة على التوالي في الانتخابات الرئاسية، وتقهقرت نتائجه في الانتخابات التشريعية الأخيرة. فبعد أن كان الحزب مسيطرا على الحياة السياسية في فرنسا خلال الثمانينيات، إذ حصل على 36% من الأصوات في الانتخابات التشريعية عام 1981، و30.8% في انتخابات عام 1986، و34.8% في انتخابات عام 1988، تراجعت نتائجه بعد ذلك بشكل كبير. وحتى وإن تمكن الحزب من الحصول على 27.8% من الأصوات في الانتخابات التشريعية سنة 1997، وهي السنة التي عين فيها على رأس الحزب، والعودة إلى الحكم بعد أربع سنوات فقط من خروجه، فقد ظل الحزب مع ذلك عاجزا عن استرجاع ذلك التأثير الذي كان يحظى به في أوساط الناخبين خلال الثمانينيات. وزاده تأزما عجزه عن ضبط وتأطير أعضائه بعد التصريحات العنصرية بين الفينة والأخرى لبعض كبار أطره، ومنها القول بأن ثمة عددا كبيرا من اللاعبين السود في المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم، أو وصف الجزائريين الذين حاربوا إلى جانب فرنسا خلال حرب الاستقلال الجزائري بأنهم «أقل من البشر». وفي قراءتنا لوقائع المؤتمر وما شابه من خلافات بشأن مذكرات المرشحين ومشاريعهم المتأرجحة بين الليبرالية الاشتراكية واليسار الليبرالي والليبرالية الحداثية القريبة من تيار الوسط إلى حد الارتماء أحيانا في أحضان الإيديولوجية اليمينية الآخذة في التفوق بفرنسا، يتجلى إصرار كل فريق على التمسك بمشروعه مما ينذر بمستقبل كارثي للحزب الذي تعيد اختلافاته إلى الأذهان مؤتمر رين في مارس 1990 الذي انتهى بانقسام العائلة الاشتراكية. تراجع الثقة وأظهر استطلاع للرأي نشرته أمس صحيفة «لوموند» أن 31 في المائة من الفرنسيين فقط يثقون بقدرة الحزب الاشتراكي على التصدي للبطالة، و34 في المائة يثقون به للتصدي لمشكلة القدرة الشرائية. ويرى 55 في المائة منهم أن الحزب يمر «بأزمة عميقة ودائمة». وفي ما يخص التحالفات المحتملة للحزب مع التنظيمات السياسية الأخرى، عبر 31% عن رفضهم لأي تحالف، و24% أيدوا التحاف مع حزب الوسط، الحركة الديمقراطية، و12% مع الحزب الشيوعي واليسار المتطرف، و19% يربطون أي تحالف بالظرفية السياسية والاجتماعية، فيما امتنع 14% عن الإدلاء برأيهم. وتفيد الأرقام الخاصة بمذكرات المرشحين الأربعة بأن مشروع روايال الذي يتسم بشيء من الانفتاح مع الإبقاء على خصوصيات اليسار، نال وبشكل مفاجئ أكبر نسبة من الأصوات المؤيدة خلال تصويت أعضاء الحزب في السادس من نونبر، مما يمنحها، على حد تعبير المقربين منها، «الشرعية» في تولي رئاسة الحزب. غير أن مشروع روايال لم يحصل سوى على أغلبية نسبية (29 في المائة) وهو ما يجبرها على عقد تحالفات. صراع الإيديولوجيات وليست المرة الأولى التي يتنازع فيها الاشتراكيون على مناصب القيادة، حيث اعتادوا تنظيم خصوماتهم في تيارات تتقاسم هيئات الحزب ومنابره، ونوابه. غير أن الخصومة المحتدة بينهم اليوم، تجري على خلفية صراع فكري بين تيارات تتجاذبها خيارات جوهرية بين الاشتراكيين الليبراليين القائلين بالمبادرة الحرة والابتكار الاقتصادي، والمحافظين المتشبثين بالنهج الاشتراكي المؤمن بالدولة الراعية وبإعادة التوزيع الاجتماعي المنصف للثروة. وكان عمدة باريس هو أول من بادر إلى إشعال الفتيل في هشيم الاشتراكيين اليابس بكتابه الأخير «الجرأة» الذي بنى فيه اشتراكيته الجديدة على قاعدة «الاقتصادي قبل الاجتماعي»، بمعنى أن تحسين تنافسية شراكة فرنسا وصناعاتها، تسبق مسألة تحسين أوضاع الأجراء. ولا يتردد في القول إنني «ليبرالي واشتراكي معا، ولست اشتراكيا-ليبراليا ما دمت غير مقتنع بروح وفلسفة هذا التيار الذي يكتنفه الكثير من الغموض. ثم إنني لا أرفض بشكل ميكانيكي كلمة «ليبرالي»، بل أعتبرها مجدية ومفيدة للاشتراكية نفسها. غير أنني أرفض كباقي التقدميين أن نجعل من الليبرالية سندنا الاقتصادي، وأن نفرط بشكل نهائي في دور الدولة وما قد ينجم عن غيابها من تسيب تجاري واقتصادي. ويختصر دولانوي رؤيته بأن «الليبرالية الإنسانية ستدخل معجم الاشتراكيين، في القرن الحادي والعشرين، عندما يكفون عن النظر إلى كلمة منافسة ومضاربة كمفردات فارغة وعقيمة». روايال بلهجة غاضبة وقد ردت عليه سيغولين روايال بلهجة قاسية حتى وإن رتبت هي الأخرى رؤيتها على نفس الأرضية الليبرالية، ذلك أن بوادر التوجه الليبرالي بدأت تظهر اليوم في أدبيات الحزب، وهو يتخلى عن مرجعياته الاشتراكية، ويجعل من قيم الحرية ونظرية الابتكار والمبادرة الخاصة أساسا لفلسفته الجديدة التي أصبح يتقاسمها مع أحزاب اليمين. ونبهت روايال إلى أنه لا حاجة للسيد دولانوي إلى اقتراض مفردات من اليمين ومن إيديولوجيته، علما بأن الليبرالية مازالت تدمر النساء والرجال معا، بعد أن حققت أرباح الباترونا في الآونة الأخيرة ارتفاعا بنسبة 54%، ومعها، أي الأرباح، يتم الإعداد لحذف مكافأة المردودية بالنسبة إلى مليونين ونصف من المأجورين. «لا أرى في أقوال دولانوي سوى انحياز إلى معسكر الليبرالية الاقتصادية وخلط في المفاهيم والقيم التي تجعلنا نحيد عن جوهر قناعتنا بأن الاشتراكية بما تتيحه من روح المنافسة وحرية المبادرة هي فكرة جديدة، عصرية ومنسجمة مع متطلبات القرن الواحد والعشرين. نفور القادة والمشكلة الأكثر حدة في الحزب الاشتراكي، هي عزوف القادة التاريخيين عن الحزب بسبب الصراع الداخلي على القيادة أو لالتحاقهم باليمين الجديد في الحكومة أو في لجان متخصصة أوكل إليها نيكولا ساركوزي مهام إصلاح مؤسسات الدولة الرأسمالية. ومن بين كبار العازفين أو المتذمرين، دومينيك ستروس-كان، الذي التحق كمدير لصندوق النقد الدولي، وبرنار كوشنر، وزير الخارجية، وجاك لانج، المكلف بلجنة لتحسين مؤسسات الدولة، وهويبر فيدرين (لجنة البحث في مسألة العولمة)، وجاك آتالي (لجنة دراسة أسباب تباطؤ النمو) وميشيل روكار (لجنة البحث في سبل تطوير دور المعلمين). والضربات تحت الحزام لم تأت للحزب الاشتراكي من اليمين فقط بل جاءته أيضا من الرفاق في ذات الحزب، حيث أن كلود أليجر، منظر الحزب ووزير التعليم سابقا، أصدر كتابا حمل فيه بشدة على فرنسوا هولاند واستخدم كلاما نابيا ضده، معتبرا إياه المسؤول عن الوضع الراهن في فشل روايال في انتخابات الرئاسة، كما وجه انتقادات لاذعة إلى كل قادة الحزب الاشتراكي من رفاقه القدامى، قبل أن يرفض تجديد بطاقته الحزبية.