عندما أعلن اختيار هشام قنديل رئيسا للوزراء، كان الاسم مفاجئا لكل من تلقى الخبر، فلا الأوساط السياسية ولا عموم الناس يعلمون عنه الكثير ولا القليل.. بعد تكليفه، كانت ولادة حكومته عسيرة، ويقال إنها كانت في بعض الأحيان عشوائية على نحو «شوفوا لنا أستاذ جامعة كويس» أو «هوه مفيش حد معقول من النادي الأهلي».. وتؤكد مصادر أن بعض الأجهزة الرقابية، صاحبة السيطرة في عصر مبارك، لم تكتف بالتحقق من طهارة المرشحين ولكنها كانت تتطوع بالترشيحات.. وفى إحدى المرات، طلب رئيس الوزراء من مرشح التقى به على عجل أن يكتب سيرته على ورقة ويتركها عند مدير المكتب.. لا أظن أن أيا من رئيس الدولة أو رئيس الوزراء كان قد حدد هوية الحكومة تماما أو معايير اختيار أعضائها، وكان هذا واحدا من الأسباب التي جعلت رئيس الوزراء يواجه مصاعب لا قبل له بها في اختياره المرتبك لوزرائه.. والواقع أن البعض رفض المشاركة في وزارة تحت حكم الإخوان المسلمين، وكثيرون اعتذروا لأسباب من بينها أن منصب الوزارة لم يعد له ما كان له من بريق في الماضي، وما شاع من أن الحكومة لن تستمر سوى شهور قليلة فقط حتى يصدر الدستور، وآخرون اعتذروا لعدم وضوح الصلاحيات، أو لأن رئيس الوزراء ليس «ملء هدومه»، كما قال أحدهم.. واضطر الدكتور قنديل إلى أن يستنجد بالرئيس عدة مرات. ربما لم يكن في كل ذلك شيء غريب، وقد تكون العبرة كما يقال بالخواتيم.. لكن الخواتيم كانت فاجعة.. استبقى رئيس الوزراء 8 من أعضاء حكومة الجنزوري، بينهم من كانت له ارتباطات وثيقة بنظام مبارك، وهو ما يمثل نحو ربع الحكومة الجديدة، حتى إن البعض سخر: «ولماذا استبعدت فايزة أبوالنجا إذن؟».. وخلت الحكومة تماما من شباب الثورة، ولم تحظ المرأة سوى بمقعدين فقط، وكذلك المسيحيون لم يكن من نصيبهم سوى وزارة واحدة.. وكان اختيار وزير الداخلية بالذات صادما، سواء لدوره في مقاومة الثورة في أيامها الأولى في أسيوط، أو دوره أثناء أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء، أو دوره في الشهادة ضد شهداء الثورة ومصابيها في المحاكم، أو علاقته الوثيقة المعروفة بحبيب العادلي.. كانت الحكومة حكومة «بيروقراط» بامتياز وليست حكومة «تكنوقراط»، أي أنها حكومة كبار موظفين، ومع ذلك فهناك خمسة من أعضائها ينتمون إلى جماعة الإخوان، ووزير من حزب الحضارة، وآخر من حزب الوسط، وكلاهما حزبان إسلاميان، ومع ذلك فالحكومة ليست ائتلافية.. ويتولى بعض وزراء الإخوان وزارات حيوية في السيطرة والتمكين، مثل وزارة الشباب التي تدير 4300 مركز للشباب، ووزارة القوى العاملة المسؤولة عن اتحادات العمال، ووزارة الإعلام.. وخلت الحكومة من القامات الوطنية سوى المستشار أحمد مكي، رمز حركة استقلال القضاء، وإن كان فيها وزراء بخلفية سياسية معروفة، مثل محمد محسوب الذي شكل «لجنة استعادة ثروات مصر المنهوبة» أثناء الثورة في ميدان التحرير، ومثل النائبين السابقين خالد الأزهري وأسامة ياسين.. وزاد من الفجيعة في الحكومة أنها عندما بدأت عملها لم تبشر بضمانات للحريات، وإنما هددت وأنذرت، ليس بإعادة حالة الطوارئ فحسب على لسان وزير الداخلية، وإنما بتحذير وزير الاستثمار للفضائيات بالإيقاف وسحب التراخيص بحجة فريدة في نوعها هي تحسين مناخ الاستثمار. لم تصوب الانتقادات نحو أعضاء الحكومة فقط، ولكنها تناولت رئيس الوزراء ذاته.. وتركزت في أغلبها على كونه شخصية ليس لها ثقل سياسي ولا دور لها في العمل العام سوى توليها وزارة الري في حكومتي شرف والجنزوري، وهما، في نظر الكثيرين، حكومتان تنتقصان من سمعة الوزراء ولا تضيفان إليها، خاصة أنه لم يعرف عنه أنه اتخذ موقفا محددا إزاء الأحداث التي واجهت البلاد طوال عمر هاتين الحكومتين، مما يرجح أنه سيكون سكرتيرا تنفيذيا لرئيس الجمهورية على النحو الذي كان مألوفا أيام مبارك. لو كانت البلد في ظروف عادية لكان من حق الرئيس أن يكلف حزب الحرية والعدالة الذي فاز في الانتخابات البرلمانية بالانفراد بتشكيل الحكومة على النحو الذي يشاء، لكن الظروف ليست كذلك.. الأمن منفلت، والاقتصاد يترنح، والمشكلات التي تقابل المواطنين في حياتهم اليومية فاقت كل حد، والأهم من هذا كله أن الشعب منقسم بعد الانتخابات الرئاسية، وأن القوى المستفيدة من عصر مبارك لا تزال تتربص بالوطن.. لهذا لبّت «الجبهة الوطنية»، التي أشرف بعضويتها، دعوة الدكتور مرسي قبل إعلان نتائج الانتخابات بأيام.. وبعد مفاوضات في ليلة مضنية امتدت حتى الفجر، تم الاتفاق على قيام شراكة بين الجانبين في مشروع وطني جامع على أساس تعهدات قبل بها الدكتور مرسي وأعلنّاها سويا في المؤتمر الصحفي الشهير يوم 22 يونيو.. تتضمن هذه التعهدات، من بين ما تتضمنه، أنه إذا نجح الدكتور مرسي في الانتخابات، فسوف يعمل على قيام دولة ديمقراطية مدنية حديثة تضمن الحريات وحقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية، وسوف تشكل حكومة إنقاذ ترأسها شخصية وطنية مستقلة، ونصت التعهدات على تشكيل خلية أزمة لاستكمال إجراءات تسليم السلطة إلى الرئيس المنتخب، وتعيين فريق رئاسي يمثل الأطياف السياسية، وإعادة التوازن إلى الجمعية التأسيسية للدستور، بحيث تمثل الشعب تمثيلا عادلا.. وحذرنا يومها أيضا من التلاعب في نتائج الانتخابات، وأعلنا استمرار الضغط الشعبي السلمي لتحقيق أهداف الثورة. كانت لمعظم الرموز الوطنية التي شاركت في الجبهة علاقات سابقة بالإخوان المسلمين، كلها شد وجذب وريب متبادلة.. ومع ذلك، فقد رأينا أن اللحظة الفارقة تستدعي التسامح مع الماضي والاصطفاف من أجل الوطن والثورة، وبدأنا في عمل مخلص لمعاونة الرئاسة على مهمتها بعقل منفتح وحماس بلا حد، وأخذنا نمدها بمقترحات جادة في شؤون متباينة.. إلا أن تجربة الأسابيع الأولى لم تكن ناجحة بأي مقياس، حتى جاءت مفاجأة تكليف هشام قنديل بالوزارة. يوم السبت 28 يوليوز، عقدنا مؤتمرا صحفيا أعلنا فيه استياءنا، خاصة من تكليف رئيس حكومة يفتقر إلى المعايير التي تم الاتفاق عليها، ومن الغموض الذي يلف قصر الرئاسة في ما يتعلق بتشكيل الفريق الرئاسي، الذي تسربت عنه أخبار مشوشة لم يتأكد منها سوى تعيين الجنزوري، الذي كان الإخوان قد أشبعوه هجوما، مستشارا للرئاسة، وأوحت الأخبار بأن مناصب المستشارين والمساعدين من القوى السياسية غير الإسلامية أقرب إلى أن تكون شرفية بلا ملفات محددة.. استأنا كذلك من غياب الشفافية بين الرئيس والشعب، ومن انعدام التشاور مع الجبهة، ومن تجاهل تعديل تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، ومن التناقض في العلاقات مع المجلس العسكري، وطالبنا الرئيس بتصحيح المسار، إلا أنه لم تمر أيام حتى أعلن عن التشكيل الحكومي الكامل بالشكل القاصر الذي رأيناه. إن لم يكن قد بلغ الرئيس صدى هذا التشكيل، فقد بلغنا نحن.. بلغنا في انتقادات حادة حمّلتنا كشركاء مسؤولية الاختيار، ومسؤولية خداع الرأي العام الذي أوحينا إليه باتفاقنا مع الدكتور مرسي أن الأمور ستسير على نحو أفضل حتى لو كان الزمن -على حد تعريف برنامج تلفزيونى شهير- زمن الإخوان.. بل إن البعض أمعن في التهجم علينا حتى اتهمنا زورا بأننا اختلفنا مع الرئيس لأننا لم نوعد بمناصب وزارية، في حين أننا لم نرشح أحدا من أعضاء الجبهة لأي منصب، وأعلنا أننا لن نتولى أي مسؤوليات رسمية، ونفى بعضنا شائعات حول تولي وزارات بعينها، وقمنا بترشيح آخرين ينتمون إلى قوى سياسية مختلفة. اليوم، بعد تشكيل الحكومة على النحو الذي شكلت به، وبعد النكوص عن التعهدات التي أعلنت ضمن اتفاق الشراكة الذي عرف ب»اتفاق فيرمونت» -نسبة إلى الفندق الذي كنا اجتمعنا فيه- فإننا لا نستطيع تحمل مسؤولية هذه الشراكة، بل إنها في واقع الأمر لم تعد قائمة على نحو ما يتضح من بيان الجبهة المقرر أن يكون قد أعلن يوم الأحد.. حرصنا في مسودة هذا البيان، تماما كما حرصنا في مؤتمرنا الصحفي الأخير، على أن نوضح أننا لا ننقلب على الرئيس، ولا يزال هذا موقفنا.. نحن لن نعمل ضد الرئاسة، ولكننا سنتعامل معها كمواطنين، لهم حقهم في الانتقاد والنصح، وعليهم واجب في تقديم العون إذا ما دعت الحاجة. أصبنا بخيبة أمل كبرى في الوفاء بتعهداتٍ رأينا، ولا نزال نرى، أنها في مصلحة الوطن، لكن ذلك لن يمنعنا من المضي في اتخاذ المواقف التي نراها صائبة، وأن نظل دائما الجبهة التي تمثل ضمير الوطن.. نظل نتابع ونراقب ونساهم ونحاسب، لكننا بعد إجهاض العهود لم نعد شركاء.. أنعى إليكم آسفا هذه الشراكة مع الرئاسة.