إن تنظيم أحزاب الحركة الإسلامية ليس إطارا شكليا وحسب، بل هو مسألة مفهومية معقدة، مازالت في حاجة إلى مقاربات تحليلية ودراسية سوسيو-تنظيمية ومعرفية وتاريخية دقيقة؛ فحزب الحركة الإسلامية له أثر على المشروع وعلى المجتمع وعلى الدولة، إذ إن الحركة الإسلامية ليست حزبا سياسيا عاديا، كما ليست حركة دينية صرفة أو طريقة صوفية ذات وظائف محددة، ليست ذلك كله، مهما حاول بعض قادة الحركة الإسلامية إثبات أنها مجرد حزب سياسي عادي، ورغم مساهمات بعض الباحثين الجدد، ليسوا من أبناء الحركة وغير ملمين بتفاصيل تشكل الحركة الإسلامية تاريخيا وفكريا وتنظيميا. إن حزب الحركة الإسلامية يحتوي كل تلك المستويات المذكورة، إنه يمثل «الجماعة-الحزب» أو «الظاهرة-التنظيم» (بتعبير المفكر الإسلامي والحقوقي الناقد الدكتور صلاح الدين الجورشي). إن حزب الحركة الإسلامية يعتبر تجليا من تجليات التجربة القرائية للدين وعلاقته بالثقافة والمجتمع. إن التنظيم في هذه الحالة جزء لا يتجزأ من التربية والسلوك لتحقيق الأهداف، فقديما رفض الإمام حسن البنا اعتبار (الإخوان المسلمين) حزبا من الأحزاب، بل رفض البنا الأحزاب في مراحله الفكرية الأولى عند تأسيس تنظيم الإخوان، أما سيد قطب فقد وحد وماثل بين التنظيم والمجتمع تحت اسم «الجماعة»، عبر استعادة تاريخية، غير محينة ومنقوصة الحس التاريخي، للتجربة النبوية. ومن ذكاء الحركة الإسلامية في المغرب، ذات خلفية المشاركة السياسية، أنها انتبهت منذ مدة معتبرة لحساسية اسم «الجماعة» وحمولته، ولخطورة استدعائه إلى السياق السياسي المغربي؛ فتحولت من «جمعية الجماعة الإسلامية» إلى «حركة الإصلاح والتجديد»، مع تجنب أي إيحاء «جماعاتي» أو «ديني» ضيق عند تغيير اسم الحزب الأم «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية» إلى الاسم الحالي «حزب العدالة والتنمية». ورغم تخلص حزب العدالة والتنمية، ومن قبله حركتا التوحيد والإصلاح والإصلاح والتجديد، من الإيحاءات السلبية والطائفية لبعض المفاهيم الحركية ك«الجماعة»، فإن الحزب مازال يحمل، في ذاكرة السواد الأعظم من أعضائه وفي خيالهم التاريخي، معاني الجماعة-التنظيم/الحزب بما يعني التدخل، من خلال صلاحيات واسعة، في حياة الأفراد ومصيرهم، وتجذير الولاء الصارم للحزب ولقادته وأجهزته؛ وقد ظهر شيء من ذلك في المؤتمر السابع لحزب العدالة والتنمية. وهذا الولاء الصارم قد يحدث في المستقبل خللا فظيعا في النمو الشخصي والفكري والسياسي للأعضاء، في غياب ثقافة نقدية تدعو إلى الاستقلال الفكري وتشجع على المبادرة الفردية داخل الانتماء العام للحزب، كما ينتج عن خلق الولاء الصارم للحزب تضخيم القيادة وتصغير جماهير الأعضاء المنتظمين إن لم يكن استصغارهم، بشكل غير واع، والاعتناء بالزعيم وإحاطته بأهمية بالغة ومبالغ فيها، وتحويله إلى نجم STAR، يسعى الأفراد إلى التمسح به والتقاط الصور معه ولمَ لا التماس بركاته. في هذا السياق، تنشأ أو قل تنزلق مجموعة من الصلاحيات من مجالاتها، صلاحيات الأجهزة الحزبية، وأخرى عرفية وسلطات مختلفة تتركز في يد القائد، تنشأ عنها مسلكيات ومواقف خارج المقتضيات التنظيمية، فتصبح السلطة داخل الحزب مجرد استمرار ضمني للسلطة التاريخية الغشوم، أو انعكاس غير إرادي لسلطة الاستبداد والتحكم التي يقدم الحزب نفسه كنقيض لها، عبر عمل سياسي نضالي ومتدرج وعاقل. ولما يختل فعل السلطة في الحزب يختل التوازن بين مؤسساته وأجهزته ومكوناته وطاقاته، وتضعف آليات المراقبة على القيادة، ولا تخضع ممارستها للتقييم والتقويم الموضوعيين، وتضيق فرص الشورى والتداول والنقد، ويتم التضييق على المختلفين عن الخط السياسي العام للقيادة، أو المناوئين لها ولمزاجها، أو المعترضين على بعض مواقفها، مع فشو الأمية الفكرية والتنظيمية والسياسية عند عموم الأعضاء المنتظمين، مما يؤثر سلبا على الوعي الجمعي العام للحزب. أكيد أن حزب العدالة والتنمية محتاج إلى تنظيم قوي ومحكم، وقد عبر المؤتمر الوطني السابع عن ذلك بقوة، ومحتاج إلى قيادة مسنودة بجماهير واسعة حامية لها من كل اعتداء سياسي أو إهانة، خصوصا وأن الحزب ستتربص به العقارب والثعابين من كل جهة، وسيكثر حساده ومنافقوه بعد هذا المؤتمر التاريخي في الحياة السياسية المغربية، إما لإضعافه أو لتفجير أجهزته التنظيمية أو لإذكاء خلافاته الداخلية وتحويلها إلى تناقضات جذرية أو للتأثير على المتعاطفين معه والمتحالفين معه أو حتى التشكيك في صدق نواياه عند من يهمهم الأمر، مما يتطلب حالة غير عادية من الجدية واليقظة التفاعلية المستمرة، وهذا معطى عبر عنه أيضا المؤتمر الوطني السابع للحزب، وأظهر أن الحزب مهيأ لمعارك ومخاطر كهذه. رغم كل هذه التحديات يبقى تجذر مفهوم التنظيم-الحزب، بالمعنى الحركي الموروث في ذاكرة إطار المفاهيم لمكونات الحزب، مشكلا وعائقا أمام المشروع الطموح للحزب لإنقاذ البلد وخدمة الشعب، مما يحتاج إلى مراجعة مستمرة، وإلى ابتكار أساليب تدبير جديدة وفعالة ومرنة ومتجددة، تقوم على تنمية المواهب وصناعة القادة LEADERSHIP، وتشجيع المبادرات الفردية، والتخلص من المقولة التنظيمية القاتلة والفاسدة: «النواة الصلبة والمغلقة للتنظيم»، وهي عبارة عن مجموعة أفراد معدودين هم وحدهم «العلبة السوداء للحزب»، مع الإقرار الديمقراطي والحقيقي بالاختلاف وعدم الانزعاج من المخالفين أو ما يسمى في الثقافة التنظيمية ب«الأجنحة المعارضة»، لا انزعاجا أخلاقيا ولا سياسيا ولا تنظيميا، مع الاحتكام إلى الصراع الديمقراطي الداخلي والالتزام برأي الأغلبية، مع حفظ حق الأقلية في تنمية فعاليتها وضمان استمراريتها المشروعة في النقد والمعارضة في إطار المشروع العام والبرامج والتوجهات العامة. إن التنظيم النافع والفعال هو الذي يملك قيادة لا تغرقه في خطاب أخلاقوي بل تفتح له آفاقا للتساؤل والنقد والاستشكال، مع الاحتياط من النمو الخفي لسلطة الفرد حتى يستصنم هذا الفرد ويصبح الواحد الأحد، ويتم تسييجه بجيش من البيروقراطيين والمتخصصين والتقنيين. إن قيادة التنظيم النافع قيادة جماهيرية قريبة من الناس وذات قدرات تواصلية واجتماعية مبهرة ومؤثرة تزيد التحام الجماهير بها؛ وقد تفوّق الأستاذ عبد الإله بنكيران في تجسيد هذا النموذج بشكل كبير ومدهش، استثمر فيه خصائصه الشخصية والنفسية والطباعية وأصوله الاجتماعية، إذ تربى، كما يحكي ويعرفه عنه أبناء الحركة والحزب، في أحضان والدة تمتلك من عناصر الكاريزما والذكاء الاجتماعي والسياسي الفطريين الشيء الكثير، كما استفاد من شراسته وخبرته التاريخية التي اكتسبها من دفاعه المستميت عن الحركة الإسلامية المغربية وحماية أفرادها وأبنائها في لحظات عصيبة من تاريخها الحديث، يوم كان بيته مكانا آمنا لأبناء الحركة الذين يخافون أن تتخطفهم الطيور والصقور. أرجو ألا يوحي المؤتمر الوطني السابع لحزب العدالة والتنمية بأنه حزب حديدي من الناحية التنظيمية، حتى لا يذكرنا بالأحزاب الشمولية المغلقة في التجربة الشيوعية، في المغرب وفي عالمنا العربي، أحزاب موت الإنسان، وأن يتجه ليكون حزبا قويا ومنظما، ولكنه يستند إلى خلفية تنظيمية تفاعلية وديناميكية متغيرة باستمرار من حيث الثقافة التنظيمية والبنية الفكرية حسب حاجيات الواقع ومتطلباته الموضوعية. تنظيم حزبي مرحب بالنقد وغير متضايق منه، خصوصا وأنه تحول إلى حركة تغييرية واسعة، مع التخلص من «النزعة الحمائية» خوفا على الحزب ودفاعا عنه. إن مشروع الحزب لم يعد ملكا له بل هو ملك للمواطنين جميعا؛ فالحزب مطالب بالاستقلال عن الأزمة التي يعيشها المجتمع، وهو يقدم نفسه كقوة تدبيرية واقتراحية لحل هذه الأزمة؛ إذ الاستقلال عن الأزمة يعني التفكير الإيجابي بعيدا عن الوعي الشقي بالأزمة، كما يعني امتلاك الوعي الثاقب والفعل المبادر لصناعة المستقبل عبر مبادرات ذاتية وفعالة مع تنمية الرصيد الشعبي والتغييري للحزب، والتسلح بوعي تاريخي يقظ ووضوح استراتيجي، مع الانتباه إلى المعوقات الذاتية، فكرا وتربية وتنظيما، استعدادا للتحولات الكبرى الراهنة التي يعرفها محيطنا الإقليمي والعالم العربي بل والعالم أجمع، هذا العالم الذي يتغير بشكل سريع، ولا مكان فيه لخطاب أخلاقوي تجزيئي وقاصر عن النفاذ إلى العمق، ولا لنظرة مضببة وتجريدية أو نزعة تبريرية أو مثالية للسياسة والواقع وتعقيداتهما. وتحتاج هذه المجهودات إلى مراكز بحث ومعاهد دراسات يتفرغ لها باحثون أكفاء يتسمون بالموضوعية والتواصل المستمر والمتفاعل مع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في الواقع. ونعتقد أن القطاعات الشبابية للحركة الإسلامية استقطبت عددا كبيرا من الباحثين المميزين في الماستر والدكتوراه، في مختلف التخصصات والحقول المعرفية، مازالوا يعيشون حالة بطالة علمية وبحثية أو ينجزون أطروحاتهم بدون مقاصد وأهداف علمية واجتماعية واضحة وبدون بوصلة معرفية، لأن صوت البحث العلمي مازال خافتا في صفوف جل الحركات الإسلامية المغربية. يحتاج أولئك الشباب إلى التأطير العلمي والتوجيه البيداغوجي والمنهجي والتحفيز والاعتراف لبذل مجهود بحثي استثنائي أعتقده أصبح أولويا في اللحظة الراهنة. وكل هذا لن يحدث أثره البالغ والنافع في المجتمع إلا إذا مدت أحزاب الحركة الإسلامية أيديها مبسوطة إلى كل القوى الوطنية، مهما كانت التعارضات أو التخريجات العقائدية أو التباينات الفكرية، أي الالتقاء على مصلحة الشعب والجماهير العريضة، والبداية بالبناء الديمقراطي السليم الذي يسع الكل، في إطار جبهات عريضة، نرى أن حزب العدالة والتنمية اليوم مؤهل أكثر من غيره للمبادرة إليها؛ فالديمقراطية تنمية والتنمية حرية كما قال الباحث الاقتصادي البنغالي أمارتيا صن (التنمية حرية، مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر، سلسلة عالم المعرفة رقم 303)، أي تقليص الفوارق الاجتماعية، وبث روح الإنتاجية والإبداع في الشعب، ومحاربة الأمية المستفحلة في شعب يعتبر دينُه العلمَ فريضة، وأول كلمات السماء التي وجهت إليه هي «إقرأ»، مع تدعيم الهوية الحضارية للأمة، من حيث القيم العليا الحاكمة؛ فلا مستقبل للبلد، وفي أي موقع كان الإسلاميون، وهم طرف وازن في الحياة السياسية والاجتماعية، ما لم يخرج الشعب ومكوناته المعتبرة من ظروف الحروب الأهلية الصامتة بين المكونات الوطنية والديمقراطية، فكريا وسياسيا. فحزب العدالة والتنمية يتحمل المسوؤلية السياسية والأخلاقية، نظرا إلى قوته السياسية والنضالية المتزايدة، لطرح مبادرات تفاعلية ذات أبعاد حضارية وثقافية واقتصادية مؤثرة وجاذبة للمكونات الأخرى، مع التخلص من التوترات المستوردة بين الحركات الإسلامية والقوى السياسية والفكرية الوطنية في بلدان أخرى تفتقر إلى عمق التفكير المغربي، منهجيا وفلسفيا وفكريا، وقدرته على النقد والتركيب، في إطار حضاري وثقافي وسياسي، مهما كان الاختلاف في تفاصيل تدبير اليومي وتدبير الشأن العمومي، مع ضرورة الاحتفاظ بمسافة موضوعية وصارمة مع لوبي الفساد والريع ومقاومي التغيير والإصلاح أينما كانوا.