«... اكتفت بدور الزوجة والأم قبل أن يختار لها الآخرون لقب زوجة الزعيم.. قررت أن تلتصق ببطلها كالخيال وتواجه معه الكثير من العواصف والأعاصير والزلازل السياسية، التي اهتز لها العالم بأسره. سكنت قلبه وسكن قلبها قبل أن تسكن معه في عش الزوجية الصغير المتواضع بالإيجار بعيدا عن صور البهرجة والبروتوكولات الفارطة.. لم تصطنع لنفسها دورا كبيرا ولم تقتطع لنفسها أيضا مساحة في التاريخ واكتفت بأن تبقى خلف الستار كزوجة للرئيس فقط، قبل أن تقرر إزالة هذا الستار وتكشف عن أسرار مفجر الثورة الكبرى في النصف الأخير من القرن العشرين، وتكتب مذكراتها وتروي لنا الأحداث التي مرت بها مصر منذ حرب فلسطين وحتى رحيل عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970. مذكرات تسرد محطات تاريخية ظلت محاطة بهالة من الغموض لتضيف جديدا إلى ما استقر في الذاكرة العربية والمصرية من أحداث اكتسبت صيغة اليقين والحقيقة التاريخية.. مذكرات تكشف لنا المشهد الأول والأخير في حياة الزعيم جمال عبد الناصر وتضفي عليه دراما تاريخية لقصة المشروب الأخير، الذي تناوله ومن الذي صنعه ومن قدمه له وهو على فراش الموت.. إنها مذكرات تحية عبد الناصر...» كانت دمشق تذيع حينها البيان رقم (9) الذي يقول إن المشير عبد الحكيم عامر المتواجد بمقر القيادة سيذيع بيانا يعلن فيه عودة الهدوء واستقرار الأوضاع، وما كدت أدخل على عبد الناصر وهو يستمع إلى البيان حتى أمرني فوراً بالاتصال بالمشير عبد الحكيم عبر التيلفون اللاسلكي الذي لم يتم قطعه من طرف الانقلابيين وأخذ يقول له: «... ما الذي أسمع يا عبد الحكيم! هل فعلا أنك ستذيع بيانا بعودة الهدوء؟ أوعى تعمل كده! اطلب منهم أن يعودوا إلى ثكناتهم وإلا فلن تملك معهم شيئا وأي بيان ستصدره الآن سيخدمهم! لا تدعهم يكرّرون ما فعلناه نحن مع الملك فاروق! لا تخف ولا تيأس ولا تستسلم ونحن الآن معك وسنحرّك قواتنا لحماية الدولة الموحّدة من التمرد الانفصالي الذي بدأ فيها....». الذهاب إلى عرين الانقلاب في تلك الأثناء وصلت الأنباء بأن حلب لا تزال صامدة أمام مؤامرة الانفصال، ومادامت حلب صامدة فإن اللاذقية لا بد لها وأن تكون كذلك، فهي المرفأ والميناء الوحيد الذي سيستقبل قواتنا المحمولة بالبحر والجو، عندئذ قلت لعبد الناصر: إن قوات اللاذقية لا تعرف بأننا سنعززها بقوات من عندنا لذلك لا بد من إخبارها، واقترحت عليه أن أذهب بنفسي إلى هناك لكنه رفض ذلك مرشّحا عبد المحسن أبو النور للذهاب إلى هناك وإيصال الرسالة إلى القوات في الإسكندرية . لم أكن أعلم بنيّة عبد الناصر بالذهاب إلى عرين الانقلاب بعد تنفيذ خطتة التي كانت تقضي بأن تهبط قواتنا أولا ليهبط شخصيا بعدها ويخوض المعركة بنفسه مستندا إلى الشعب السوري، وانطلق عبد المحسن إلى اللاذقية بعد أن قمنا بإخباره وتحذيره بضرورة أن يصل قبل آخر نقطة ضوء لأن مطار اللاذقية لا يصلح لأي هبوط بعد غروب الشمس، لكن المفاجأة كانت كبيرة حينما عاد عبد المحسن سريعا، وأخذ يقول بأنه استحال عليه الهبوط وترك خلفه طائراتنا الأخرى التي تحمل قوات الصاعقة، وقبل أن يكمل التفاصيل سمعت صوت جمال الذي أخذ يقول: سوف يصل عبد الحكيم عامر في الساعة السابعة!! اذهب مع كمال حسين وانتظراه في المطار، وهناك كان المشهد مثيرا وأليما... كان عبد الحكيم عامر ينزل من سلّم الطائرة في حالة واضحة من العصبية والذهول، أخرج مسدّسه من جيبه ومدّه لي قائلا: احتفظ به إلى حين يا (جي) فالتفت إليّ كمال حسين وقد أراد أن يحصل على مسدّس المشير قبل أن يصعقة عبد الحكيم بلكنة فيها الكثير من الغضب: وإنت حتعمل فيه إيه... دا فرد جن... (يعني بداخله رصاصة لا تريد أن تخرج)، كانت إحدى الرصاصات محشوة داخله ولم تنطلق ولم أعرف حينها متى حاول عبد الحكيم إطلاق النار وعلى من كان يريد إطلاق تلك الرصاصة، لكن المشير مال على أذني قائلا لي وبصوت منخفض: أنا معايا أكرم ديري... خذه معاك وشوف له هدوم يلبسها يا (جي)!!، كان أكرم ديري من وزراء الوحدة السوريين المتحمّسين، وعدنا جميعا إلى بيت عبد الناصر لنجد المفاجاة الأخرى في انتظار الجميع. كانت المفاجأة هذه المرّة آتية من الراديو، إذ أخذت إذاعة حلب تغيّر اتجاهها الوحدوي وتهاجم عبد الناصر شخصيا كإذاعة دمشق تماما، ولا أذكر أنني سمعت في حياتي قذائف من الشتائم التي سمعتها من تلك الإذاعة ولمن... لجمال عبد الناصر الذي خرج الشعب السوري يستقبله بجنون أسطوري قبل الوحدة واختاره رئيسا لهم بالإجماع، كان أمرا يجعل الدم يغلي في العروق، حتى إن كمال حسين طلب من المشير أن يتصل بصدقي محمود قائد الطيران ليقصف مبنى إذاعة حلب بالقنابل وهو ما رفضه جمال عبد الناصر جملة وتفصيلا وأخذ يقول: إنت مجنون يا كمال! تريد أن تقصف سوريا وتقطع حبل الودّ بيننا إلى الأبد!! إن الإذاعة تقع وسط المساكن فهل تريد إراقة الدماء بيننا وبين الشعب السوري!؟ كان جمال يقول ذلك وقد بدت صلابته كأحجار الجرانيت، يسمع من الشتائم الموجهة إليه شخصيا ولم يفقد وضوح الرؤية، لم يكن حينها يهتم بشخصه بقدر اهتمامه بمصير أفراد الصاعقة الذين لم يعودوا من اللاذقية، خاصة أن الانقلاب انتهى في صباح اليوم الموالي وكان أسوأ ما سمعه من تقارير تلك التي حملت إليه مفاجآت كبرى حول مشاهدة بعض أفراد مجلس قيادة الثورة وهم يخرجون إلى السينما غير مكترثين بمصير جمال وثورته ومصير البلاد... تركوه وحيدا يواجه وحدته ومصيره وانفصاله بدل أن يكونوا إلى جواره على الدوام....