«حلم بعضهم بالكثير قبل أن يتحطم حلمه ويعود من جديد ليلملم حطام هذا الحلم بحماسة شعبه ويبني له مكانا للحلم الجديد، معليا همما وعزائم ومحررا شعوبا وقبائل وراسما خريطة لشعبه إلى معترك التاريخ.. تمرَّد وثار حتى تحقق هذا الحلم.. حلم غلبت عليه خيبة الأمل لدى آخرين بعد أن تراجعوا بأنفسهم وشعوبهم إلى الوراء، مقنعين إياهم بأن الحياة ترجع إلى الوراء أحيانا بعد أن استلم بعضهم الحكم بالوراثة وبعد أن ثار وتمر َّد بعضهم حتى وصل إليه، فضيعوا شعوبا ومسحوا دولا وقتلوا وشرّدوا أمما حتى وجدوا مكانا لهم في محكمة التاريخ لتصدر الحكم في حقهم رغم بقاء آخرين في خانة اللجوء والثورة والتمرد حتى رحيلهم, محقَّقاً حلمُهم أو غير محقق... فمنهم من نجحوا ومنهم من سقطوا دون أن تسقط عنهم هالات الحب والتقديس، وهالات اللعنة أحيانا، لكونهم شخصيات تاريخية هزت البشرية»... «قبل عقود من الزمن، وقع الأمريكي العظيم الذي يقف اليوم تحت ظله الرمزي (تمثال إبراهام لينكولن) قرار إعلان تحرير الزنوج، الذي شكّل للملايين من العبيد إلهاما وأملا عظيما بعد أن عانوا واحرقوا بلهب الظلم المزري... بعد مائة سنة ما يزال الزنجي عبدا ولا يتمتع بالحرية، التي أضحت مشلولة بقيود العزلة وأغلال التمييز.. بعد مائة سنة ما يزال الزنجي يعيش في جزيرة من الفقر المدقع وسط محيط شاسع من الرخاء الإقتصادي... لقد جئنا اليوم لنعبّر عن حالتنا المريعة ونطالب الولاياتالمتحدةالأمريكية، نحن المواطنين الزنوج، بصرف صك الحرية (التي ادّعتها عبر الكلمات الرائعة للدستور وإعلان الإستقلال وأصبحت ميراثا لكل أمريكي) الذي بقي إلى الآن صكّا غير كاف وخاليا من رصيد بالنسبة إلينا كزنوج... جئنا لصرف صك الحرية، الذي يعطينا ثروة هذه الحرية وضمانات العدالة والمساواة... لديّ حلم أنه في يوم من الأيام ستنهض هذه الأمة لتعيش معنى عقيدتها الحقيقيقة التي نؤمن بها، وهي أن كل الرجال خلقوا متساوين.. لديّ حلم أنه، وفي يوم من الأيام، وعلى تلال جورجيا الحمراء، سيكون أبناء العبيد وأبناء ملاك العبيد السابقين قادرين على الجلوس معا على مائدة الإخاء والحرية والعدالة»!.. بهذه الكلمات، بدأ مارتن لوثر كينغ (ولد في مدينة أتلانتا الأمريكية في ال15 من يناير 1929، رغم أن جذوره ما تزال تمتد حتى إفريقيا، التي اقتُلِع منها أجداده ليُباعوا كعبيد في الأراضي الأمريكيّة لخدمة الأسياد البيض) خطابه الشّهير «لديّ حُلم» (I have a dream) في العام 1963 تحت نصب الرئيس الأمريكي السابق إبراهام لينكولن في العاصمة الأمريكيةواشنطن، مطالبا بالحرية والإنصاف والعدل والمساواة لأبناء جنسه الزنوج، طبقا لما تقرره الدساتير الأمريكية منذ 100 عام، والتي بقيت حبرا على ورق وغير ضامنة لحقوق الجنس الأسود منه... كان مارتن كينغ قد بدأ حياته في الدفاع عن الحقوق المدنية للزنوج، سائرا في ذلك على درب والده كينغ، الذي عمل راعيا لإحدى الكنائس الصغيرة في مدينة أتلانتا نفسها، وأضحى رائداً لحركة نضال الزنوج في بدايات العام 1930.. نما وترعرع في طفولة مليئة بأجواء التمييز والعنصرية واللا مبالاة لجنسه الزنجي من طرف الجنس الأبيض.. بل والاحتقار أحيانا أخرى والتقليل من شأنهم في المدارس والشوارع والأماكن العامة، معتبرين إياهم ك«عبيد» جيئ بهم لخدمة «أسيادهم» البيض فقط... ليبقى مع الوقت كابتا لهذا الأمر في أعماقه من خلال مساعدة أمه له على تجاوز ذلك قائلة له، على الدوام: «لا تدع هذا الأمر يؤثر عليك، بل لا تدعه يجعلك تشعر أنك أقل من البيض، لأنك لا تقل عنهم وعن أي شخص آخر ثقة وإيمانا وطموحا».. سماسرة الحرية في أكتوبر 1954، بدأ هذا الشاب الأمريكي، البالغ من العمر حينها 25 عاما، العمل على إعادة الآمال إلى أبناء جنسه السود لاستعادة كرامتهم السليبة وعدالتهم المفقودة، بعد أن التفّ حوله الأنصار والأتباع بغية إيجاد ولو بصيص أمل يُخلّصهم من واقعهم الكئيب، خاصة بعد أن رآى بأم عينيه أحد المواقف العنصرية التي أثّرت على نفسيتة وزادت إصراره على العمل الجماعي لإنقاذ أبناء جنسه من أوحال وصور التمييز العنصري اليومي.. فقد تجلى ذلك الحادث حينما رفضت إحدى السيدات (وهي زنجية سوداء) إخلاء مقعدها لراكب أبيضَ في إحدى الحافلات بخسة الثمن (كانت الحافلات تنقسم حينها إلى قسمين: قسم خاص للمتحضرين البيض وقسم خاص للسود البائسين) والتي رفضت ذلك.. فما كان من ضابط البوليس إلا أن ألقى عليها القبض بتهمة «مخالفة القوانين».. وهنا امتلأ قلب كينغ حنقا وغضبا لتلك الممارسات اليومية التي كرّسها «سماسرة» الحرية والعدالة الإجتماعية، وبدأ حينئذ مسيرة البحث عن الحرية بدعوة الزنوج (الذين كانوا يشكلون 70% من ركاب الحافلات) الى مقاطعة تلك الحافلات.. الشيء الذي أثّر على عائدات الشركة نتيجة تلك المقاطعة.. لتنتهي هذه المقاطة بعد إقرار المحكمة الاتحادية قانونا يُلغي التفرقة في «الأتوبيسات» بين الجنسين الأبيض والأسود.. سجن الأحلام.. تزايدت شعبية كينغ في أوساط الزنوج الأمريكيين، الذين رأوا فيه منفذ الخلاص لهم من حياة التفرقة والعبودية والاستعباد التي طالت سنوات، فبدأت السلطات الأمريكية، حينها، تدقّ ناقوس الخطر تجاه هذا الرجل وبدأت في التضييق عليه وعلى اتباعه، إلى أن تم القبض عليه في العام 1956 بتهمة تجاوز السرعة ليُزَجّ به في السجن مع السكارى واللصوص والقتلة.. ليعانيّ أوضاعا غير إنسانية مهينة داخل زنزانته، قبل أن يُفرَج عنه بعد مضي سنتين بكفالة مالية وبالضمان الشخصي، ليزج به في السجن، مرة أخرى، في العام 1959 بعد نشره كتابه الشهير «خطوة نحو الحرية: قصة مدينة مونتغري» بتهمة التحريض على العنف والعنصرية.. ليبدأ، ومن داخل زنزانته، في قراءة أساليب غاندي (اللا عنف) والتي اتّبعها «المهاتْما» لتحقيق العدل والمساوة والحرية لأبناء شعبه (في الهند)... خرج كينغ من زنزانته في بداية العام 1962، ليجد في استقباله آلاف المؤيّدين والمناصرين، الذين ألهبت كلماتُه وخطاباتُه مشاعرَهم وسكنت وجدانهم وقلوبهم، حينها قعت معركة كبيرة بين المتظاهرين، الذين احتشدوا أمام السجن لاستقباله وبين الجنود الأمريكيين، الذين اقتحموا الصفوف الأولى بالعصيّ والكلاب البوليسية، التي نهشت جثث الأطفال والشيوخ في مشاهدَ مرعبة عمّت صورها أرجاء العالم.. تلك الصور التي اتخذ منها كينغ موقفا إيجابيا لصالحه لكسب تعاطف الرأي العامّ العالمي واضعا البِيضَ في موقف حرج.. هنا سارعت الحكومة الأمريكية إلى تهدئة الوضع الداخلي، الذي بات على حافة التفجّر في أي لحظة، فدعت بذلك كينغ للتفاوض معها وعقد برنامج ينص على إلغاء التفرقة -على مراحل- والإفراج عن المتظاهرين، الشيء الذي لم يرُق المؤيّدين للتفرقة من البيض، والذين بادروا إلى إلقاء القنابل على منازل السود ليعلن الرئيس الأمريكي، حينها، كينيدي، حالة الطوارئ في البلاد، التي سادت لسنوات طويلة وانتهت بانتهاء الثورة التي أعلنها الزنوج عام 1963 وألقى خلالها مارتن كينغ خطبته الشهيرة «لديّ حلم» أمام نصب لينكولن في العاصمة واشنطن، والتي أسّست معالم جديدة للمساواة ونبذ العنصرية في المجتمع الأمريكي، ليحصل، في العام 1964، على جائزة نوبل للسلام لدعواته السلمية، بعد أن اختارته مجلة «تايم» ك«رجل العام»، وهي المجلّة التي اختارت لنفس اللّقب، في ما بعدُ، العديد من الشخصيات، أمثال انور السادات وياسر عرفات وغيرهما... نهاية الحلم كانت لثورة الزنوج، التي قادها كينغ في عام 1963، نتائج ملموسة على إحلال السلام والمساواة والعدل بين فئات الشعب الأمريكي، خاصة الزنوج منهم.. لتبقى تلك الحالة سائدة حتى يوم اغتياله على يد أحد عملاء «سي. إي. إي» (كما جاء في التحقيقيات) في الرابع عشر من فبراير 1986، بعد يوم واحد من ترؤسه «حملة الفقراء»، التي دعا إلى تنظيمها لصالح عمال النظافة وجامعي القمامة، الذين كانوا، في غالبهم، من الزنوج، لتكون كلماته التي استمدّها من الكتاب المقدس توحي بمعرفته بما ينتظره، إذ قال فيها «لا أعرف ما الذي سيحدث الآن، فأمامنا أيام صعبة، لكن الأمر لم يعد يشغلني الآن، لأنني وصلت قمة الجبل، والأمر سيان لديّ.. فأنا، كالجميع، أودّ أن أعيش حياة طويلة وعمرا مديدا، لكن ذلك لم يعد يشغلني الآن.. وكل ما أريده هو أن أنفّذ مشيئة الله، الذي أتاح لي الوصول إلى قمة الجبل وجعلني أشاهد بعض الحرية التي لم تكتمل إلى حد الآن والتي قد لا أصلها معكم.. لكنني أريد منكم أن تدركوا، الليلة، أننا كشعب من الزنوج، سندخل باب الحرية والمساواة.. فأنا سعيد الليلة ولا أشعر بالقلق حول أي شيء ولا أشعر بالخوف من أي شخص، لأن عيوني شاهدت مجد مجيء الرب»...