كرس الباحث آشوك جانساري جهده لاكتشاف البشر الذين يتمتعون بهذه الموهبة التي يطلق عليها (قدرة التعرف الفائقة). ولفترة ثلاثة أشهر ظل يبحث عن أولئك الذين يملكون هذه الموهبة المميزة بتذكر أي وجه على الإطلاق، ولو رأوه لفترة قصيرة، في مكان ما في حديقة الذاكرة، في قطار أو صالة أو مؤتمر، ولدهشته فقد عرف أن أخاه آجي هو من هذه المجموعة. تبدأ القصة عام 2005 حين يلتقي السيد آجي جانساري على نحو عابر بمناسبة زفافه مع زوجته في أورلاندو من أمريكا بالسيدة ستيفاني في مدخل الحديقة العامة، ثم تمضي الأيام ليعود إلى المدينة بعد سنتين ويدخل محل بيع حلويات، وحين يلتقي بصره ببصر المحاسبة على الصندوق يقول لزوجته إنها المرأة التي رأيناها في يوم زفافنا السابق في الحديقة قبل عامين! تنظر إليه زوجته بلون من الاستغراب ولا تصدق ما يقوله. آخر من علم بالموهبة الفائقة التي يمتلكها هو صاحبها آجي، فقد زار أخاه آشوك جانساري الذي يعمل في متحف لندن العلمي في الأبحاث النفسية العصبية ليساعده في بعض أبحاثه التي يعكف عليها، هناك يتذكر تلك النوبة العجيبة من التذكر في الزيارة المزدوجة لفلوريدا وأورلاندو. في المرحلة الأولى، عرض عليه الصور العادية لشخصيات مشهورة في السياسة أو الفن، مثل كلينتون أو توم هانكس، فعرفها على الفور بدون مشقة. جاءت التجربة الثانية هذه المرة من صور (أبيض أسود) للعديد من الناس يراها للوهلة الأولى، ثم تخلط بكمّ كبير من صور شتى، ويقترح عليه سحب الصور التي رآها سابقا لمرة واحدة. في نهاية الاختبار، رسب الكثيرون في التجربة فاختلطت الصور عليهم تماما فلم يعودوا يستطيعون التمييز. ثم دخلت التجربة مرحلة أخرى من قطع الصورة حذاء الذقن والجبهة وعرضت عليهم لتمييزها. كان الاختبار هذه المرة أشق وأصعب، بحيث لم يستطيع متابعة الاختبار إلا القليل جدا. في النهاية، أجاب تقريبا المجربون بشكل صحيح على حوالي سبعين في المائة من الصور المعروضة. بينما قفز صديقنا آجي بالرقم الصائب إلى 98 في المائة. من أصل 725 إنسانا خضعوا للتجربة، نجح سبعة فقط في قدرة التعرف على الوجوه بسرعة ولو كانت تعود إلى فترة أسبق، ولو كانت (أسود أبيض). من هذه التجارب خرج فريق البحث (العصبي النفسي) بخلاصة أن مثل هذه القدرة الفائقة يتمتع بها واحد في المائة من جنس البشر، فيتذكرون الصور بل الأسماء وأيضا التواريخ. ما هو السر الكامن خلف هذه القدرة الفائقة؟ لم يستطيع الباحث آشوك تحديد سرها، ويظن أن السبب الكامن خلفها هو ما يسمى في علم الجشتالت الرؤية الإجمالية الشمولية (التعرف العام) بدون التركيز على قطع محددة من الوجه من ذقن وحاجب وشفة وأذن. هذا العلم، أي علم نفس الجشتالت، هو إحدى قفزات علم النفس في مدارس متعددة من علم النفس التحليلي والسلوكي والإنساني، تلك التي دشنها فرويد وبافلوف وسكينر وأبراهام ماسلو وفيكتور فرانكل. بالمقابل، هناك لون من (عمى تمييز الوجوه) قد يجتمع من أصيب به بإنسان، ثم يراه من جديد فيظنه رجلا آخر، كما يروي آشوك جنساري أن هناك من رآه ثم ظن أنه الموسيقي البريطاني جورج ميشيل بسبب شكل لحيته وأقراط من ذهب في أذنيه. على العموم، يتمتع معظم البشر بذاكرة معتدلة في الاهتداء إلى الوجوه التي رأوها صورا أو على الطبيعة، بين عمى الاهتداء وتفوق التعرف الفذ. في محاولة لفهم القاعدة البيولوجية لخاصية التعرف على الوجوه الفائق تلك التي يتمتع بها فقط واحد في المائة من جنس البشر، وأين مكان هذه الميزة من الناحية العصبية الدماغية، أي المنطقة التشريحية على وجه التحديد، وقاعدتها العصبية، فقد تم العثور على مكان صغير في الدماغ من الفص الصدغي فوق منطقة الأذن تسمى اللطخة الخيطية الشبكية، ومن تعرض لإصابة عصبية في المكان المذكور انمسحت لديه ذاكرة الاهتداء إلى الصور. وهو أمر يذكر بالعديد من الوظائف العصبية، مثل الشم والنطق والحس وما شابه، أي منها تضرر انعطب المكان الموافق. إن التعرف على الوجوه عن طريق الكمبيوتر سهل، ولكنه لا يقود إلى الدقة المطلوبة، كما أن تغيير تعبيرات الوجوه من ضحك وعبوس يلعب إعاقة في التعرف عند الكمبيوترات، لذا كانت أفضل الآلات هي القدرة البشرية والدماغ الإنساني. ومنه، فقد فكر قسم الشرطة والتحقيقات في لندن، المعروف بالسكوتلانديارد، في الاستفادة من العلوم العصبية بتسخيرها في علم الجريمة والاستعانة بها في تعقب المجرمين والاهتداء إليهم عن طريق الوجوه، كما هو الحال في علم البصمات الجنائي، سواء الأصابع أو الصوت، أو ذلك البحث الذي كتبناه عن علم السيمياء التي طبقها الأمريكيون في 14 مطارا من سرعة الاهتداء إلى سيمياء الوجه والتعرف عليه من مراقبة السحنة فقط. ومنه فهمت أيضا لماذا أصرت الحكومة الكندية حين تقدمت بطلب تجديد جواز سفري أن تأخذ صورا بدون تعبير ولو كانت ابتسامة وسواها حتى يتم الاهتداء إلى الصورة من دون زغللة وتغير. بذلك، أصبحت صوري الأخيرة الرسمية تذكرني بصور موسوليني قبل الإعدام.. أقولها لمن حولي فيضحكون. بدأت مصلحة البوليس في لندن في الاستفادة من هذا الفن، ويقول السيد مايك نيفيل، من مركز المراقبة، أن السيد إدريس بادا هو أفضل عنده من أفضل كمبيوتر، في التعرف على المجرمين! إن كثرة حوادث السطو والسرقات وضربات السكاكين تجعل الشرطة في استنفار، خاصة خلال عطل نهاية الأسبوع، لذا تخصص السيد إدريس بادا في تعقب الحالات والقيام بدراسة صور المشتبه فيهم، والمقارنة بينها، والتعرف على عتاة المجرمين. إنه يدفع إلى العدالة كل شهر رهطا منهم. ألذ ما في هذه الموهبة قدرة التعرف على الصور المتحركة أكثر من الثابتة، أما مقارنة الصور القديمة (أسود أبيض) بأخرى حديثة ولأشخاص كانوا أطفالا ثم أصبحوا في مراكز القيادة، مثل البابا بنديكت السادس عشر وباراك أوباما والمادونا وإلفيس برسلي، فلا تعجزهم في كشفها ووضع الأصبع عليها، إنها لتقول: هي هي.. في القرآن قصة معبرة لهذه الموهبة الخلاقة عن ملكة سبأ وعرشها يعرض عليها وهو في اليمن، فما الذي أتى به إلى فلسطين؟ لا يعقل، ولكنه هو هو! أجابت فلم تكذب ولم تصدق وكانت بين ذلك قواما قالت: كأنه هو.. وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين.