البدن يمرض والنفس كذلك تمرض. مظاهر المرض العضوي تعبر عنها أجهزة البدن المختلفة، مثل ارتفاع الحرارة والألم والسعال. وتظاهرات الاضطرابات النفسية تتجلى في اضطراب الروح. شكوى البدن خارجية واضحة وأحيانا تتظاهر بشكل صاعق، مثل نفث الدم والصدمة (SHOCK) وشكوى النفس همس داخلي وفوضى في السلوك. صاحب المرض العضوي يتألم في الغالب، فيسعى إلى طلب الطب والعلاج. صاحب المرض النفسي لا ينتبه إلى إصابته في الغالب، بل قد يتمادى في اتجاه الخلل بدون آليات تصحيح داخلية. قولنج الكلية والحالب بسبب حصوة صغيرة تجعل المريضة تُنقل في حالة إسعافية إلى المستشفى. حالات الإحباط النفسي والكآبة تجعل مريضها يهرب من الناس جميعا فضلا عن الأطباء، والقليل من ينتبه إلى أنه أيضا مريض بنوعية مختلفة من الأمراض. يتقبل المجتمع الإصابات العضوية ولا تهز مركز صاحبها الاجتماعي ويصاب بها معظم الناس إن لم يكن كلهم في وقت من الأوقات، فليس من إنسان لم يتعرض لصداع أو إسهال أو ترفع حروري أو التهاب بشكل من الأشكال. مريض المرض النفسي ينظر إليه المجتمع بعين الريبة وتلطخ سمعة صاحبها اجتماعيا، ولا تظهر الإصابة بها إلى سطح المجتمع إلا حين تطورها واستفحالها، لذا يظن الناس أن قلة نادرة هي التي تصاب بها، ولا يستطيعون تصور أن كل إنسان يصاب بها في وقت من الأوقات، في تظاهرات نوعية خاصة بها تماما مثل الرشح والسعال وتستغرق أياما ثم تعود الروح إلى حالة الصفاء والاتزان كما في حالات الأمراض العضوية. المجتمع تعارف على العطف والمساعدة لمريض كسرت ساقه فلم يعد يطأ بقدمه، ولكن نفس المجتمع ينظر إلى من يصاب بالعدوانية والانحراف الجنسي والاضطراب العاطفي على أنه مجرم ومجنون يجب معاقبته والحذر منه. عام العجائب والخرائط الانقلابية الثلاث في الأرض والسماء والجسد
كما توجد وسائل لتعريف وتشخيص الأمراض العضوية، فإن نفس الشيء يصدق على الأمراض النفسية مع الفارق النوعي. استطاع العلماء والمفكرون، منذ قرابة خمسة قرون، أن يخترقوا (تابو) الجسد فيشرحوه، كما فعل فيساليوس في القرن السادس عشر حينما خرج في عام 1543م الذي عرف ب«عام العجائب» بكتابه «تشريح الجسم» الذي اعتمد في كثير من معلوماته على كتاب «المنصوري» ذي المجلدات العشر للطبيب المسلم الرازي. عام 1543م أخذ اسم «عام العجائب» لأن ثلاث خرائط انقلابية جديدة من مستوى نوعي طُرحت للرأي العام الأوربي، فأحدثت فيه صدمة مزلزلة مازالت بصماتها حتى هذه الساعة في الخريطة الذهنية للعقلية الأوربية: الخريطة الأولى كانت في الأرض والثانية في السماء والثالثة في الجسد. خريطة الأرض كانت مع كشوفات الجغرافيا، حيث ضُمت ثلاث قارات جديدة، وأعيد رسم خارطة العالم من جديد، وكتبت الحضارة منذ ذلك الوقت من الشمال إلى اليمين، وكانت تكتب بالعكس. وخارطة السماء أعيدت هندستها على نحو متباين، فلم تعد الشمس تدور حول الكرة الأرضية بل العكس، ومعها انهارت مركزية الأرض وسقط تاج الإنسان. كان ذلك في كتاب كوبرنيكوس الذي اكتحلت عيناه برؤية كتابه في سكرات الموت فقط. وبعد أن انقلبت مفاهيم الإنسان حول السماء التي تظله والأرض التي تقله، انتقل هذا الزلزال إلى نفس جسد الإنسان، فشق الإنسان جسده بيده وكان التشريح حراما في أوربا. ومع فتح بوابة التشريح انهارت عقيدة الأقدمين القديمة حول الإنسان، واكتشف رواد النهضة الكثير من السخف والخطأ العلمي الذي سار ألفي سنة خلف كلمات جالينوس وأبوقراط وأرسطو، الذين لم يعرفوا التشريح ولم ينزلوا إلى أرض الواقع ليعرفوا طبيعة الجسم. كانت عقلية ابن رشد الجبارة القرآنية باعتماد (الواقع) مصدرا للمعرفة هي التي فجَّرت العقل الأوربي. القرآن اعتمد الواقع مصدرا للمعرفة (ينابيع المعرفة الثلاثة) لم يكن لمسيرة العقل الإنسانية أن تنطلق لولا الإضافات الجديدة التي حررَّها العقل المسلم، من خلال تشبعه بالروح القرآنية. القرآن اعتمد الواقع والتاريخ مصدرين أساسيين للمعرفة، فالإبل والسماء والجبال والأرض أمكنة ومواضع يجب أن يتأملها العقل بروية ليكتشفها من جديد، فالقرآن هنا يأمرنا بالسير في الأرض والالتفات إلى الواقع، فهو كتاب مفتوح للقراءة، وينطبق هذا على التاريخ كما يصدق على التجربة الباطنية أو الرياضة الروحية. يقول الفيلسوف محمد إقبال في كتابه الموسوم «تجديد التفكير الديني»: «غير أن رياضة الباطن ليست إلا مصدرا واحدا من مصادر العلم والقرآن يصرح بوجود مصدرين آخرين هما الطبيعة والتاريخ. وهذه الدعوة إلى عالم الحس والاستشهاد به وما اقترن بها من إدراك لما يراه القرآن من أن الكون متغير في أصله متناه قابل للازدياد، كل ذلك انتهى بمفكري الإسلام إلى مناقضة الفكر اليوناني بعد أن أقبلوا في باكورة حياتهم العقلية على دراسة آثاره في شغف شديد. ذلك أنهم لم يفطنوا أول الأمر إلى أن روح القرآن تتعارض، في جوهرها، مع هذه النظريات الفلسفية القديمة. وبما أنهم كانوا قد وثقوا بفلاسفة اليونان، فقد أقبلوا على فهم القرآن في ضوء الفلسفة اليونانية. وكان لا بد من إخفاقهم في هذا السبيل لأن روح القرآن تتجلى فيها النظرة الواقعية، على حين انحازت الفلسفة اليونانية بالتفكير النظري المجرد وإغفال الواقع المحسوس».
جدلية الاستقراء والاستنباط الفلسفة اليونانية كانت استنباطية (DEDUCTIVE) أو كما عرفت بالقياس الأرسطاطالي أو المنطق الصوري. والانقلاب العقلي الذي دشنته العقلية الإسلامية في التاريخ بتطوير قراءة الواقع بالفكر الاستقرائي (INDUCTIVE)، أي اعتماد الواقع مصدرا للمعرفة، والواقع يضم الطبيعة والنفس وأحداث التاريخ. الفكر الاستنباطي يضع القاعدة الكبيرة ليقيس عليها، ومن هنا أخذت اسمها: القياس. في حين أن طريقة الاستقراء نمت من الجيب الإسلامي الأندلسي على يد ابن رشد والمدرسة الإسلامية التحررية لتنتشر في أوربا بدءا من إيطاليا. الاستقراء هو قراءة الواقع وجمع الملاحظات المشتركة لاستخراج قانون عام ينتظم هذه الملاحظات المبعثرة. فالاستنباط هو عملية التحليل العقلي من فوق إلى تحت، والاستقراء عملية معكوسة من تحت إلى فوق، فهي العملية المنطلقة من الواقع إلى بناء القوانين العليا الشاملة التي تضم أكبر قدر من الملاحظات، ويبقى هذا قانونا يصمد حتى يأتي قانون أعلى منه بآلية الحذف والإضافة، فيضم مجموعة أضخم من الملاحظات، فيأخذ القانون صفة شمولية أكبر، والعلماء اليوم يحاولون توحيد قوانين الكون في أقل عدد ممكن كما هي في محاولة آينشتاين وستيفن هوكينغ في دمج قوى الوجود الأساسية الأربعة (الكهرطيسية والجاذبية وقوى النواة القوية والضعيفة) في قانون واحد أساسي كما كان الوجود في مرحلة ولادته الأولى بعد الانفجار العظيم. جدلية النفس والبدن وإذا كانت تضاريس قارة البدن قد تم اختراقها تشريحيا وكشف الأعضاء نزولا حتى التشكيل النسجي الخلوي في مستوى تركيب الخلايا وتفاعلاتها الداخلية، فإن الفتح الجديد اليوم هو في فك تعقيد التركيب النفسي وكيف يعمل الدماغ؟ وآليات التفكير وأين الإرادة؟ وما هو الوعي؟ وما دلالة الحرية الإنسانية؟ هذه الأسئلة تعمل عليها مجموعة ضخمة من العلوم اليوم، مثل فسيولوجيا الأعصاب والأبحاث العصبية وتشريحها والفلسفة وعلوم النفس بمدارسها المختلفة (التحليلية والسلوكية والجشتالت وعلم النفس الارتقائي وعلم النفس الإنساني الحديث). كل هذه العلوم تريد فهم الإنسان (الداخلي) أو تشريح النفس وليس تشريح البدن القديم الذي قام به فيساليوس منفردا، فتشريح النفس يحتاج مجموعات ضخمة من العلماء المتعاونين كما هو الحال في لقاء نوفمبر من عام 1995م في مدينة (سان دييغ (SAN DIEGO) في كاليفورنيا بمناسبة مرور 25 عاما على تأسيس (جمعية العلوم العصبية (SOCIETY FOR NEUROSCIENCES)، حيث اجتمع قرابة عشرين ألف عالم، شكلت عناوين الأبحاث فقط ثلاث مجلدات سميكة. كان اللقاء يريد فك لغز جملة واحدة (من يكون أنا)؟ (WHO IS I)(WER IST ICH) سباحة النفس بين قطاعات «الطبيعي» و«العصاب» و«النفاس»
النفس تسبح في العادة بين ثلاثة قطاعات، أو إذا شئنا التبسيط فإنها تنتقل من دائرة إلى أخرى بشكل متداخل ارتدادي سفلي هابط، أو علوي صاعد كما سنشرح بعد قليل. منحى الارتداد إلى الأسفل هو بين دائرة الوضع الطبيعي والعصاب (NEUROSIS) والنفاس (PSYCHOSIS)، حيث إن هناك قطاعا مشتركا بين كل حقلين متقاربين، فإذا تحركت النفس وتزحزحت أكثر في اتجاه الحلقة الجديدة انخلعت من تأثير الحلقة الأولى ودخلت تحت السيطرة المطلقة للدائرة الجديدة. لتوضيح السباحة في هذه الحلقات، يمكن استخدام مثال طاقة الغضب أو الخوف أو الحزن، والعاطفتان الأخيرتان هما من أشد العواطف تأثيرا وزعزعة لكيان النفس الداخلي، ولذلك اعتمدهما القرآن كعينات اختبارية في مدى أهمية الإيمان وجدواه لحقن الروح بالثبات والاستقرار (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). الحزن عاطفة تستولي على الإنسان في شيء مرَّ عليه وانقضى (لكيلا تأسوا على ما فاتكم)، والخوف عاطفة مدمرة مربكة معيقة للتفكير السليم، مما سيحدث ويأتي مع لحظات الزمن الزاحفة في اتجاهنا (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم). يتبع...