حين تحدثنا عشية الانتخابات الرئاسية عن «ظاهرة حمدين صباحي»، ظن كثيرون أن الدافع وراء هذا الحديث هو انتماؤنا مع المرشح الرئاسي صباحي إلى تيار فكري وسياسي واحد، كما إلى مؤسسات عربية ودولية جامعة، وظن البعض أن الصداقة مع حمدين والتي تعود إلى ثلاثة عقود ونيّّف هي التي دفعتنا إلى كلام دعاوي متفائل عن ترشيح حمدين. لكن الملايين الخمسة الذين منحوا حمدين صباحي 20 في المائة من الكتلة المقترعة في الانتخابات الرئاسية المصرية، وكاد من خلالهم أن يتجاوز حاجز الإعادة ليصبح أحد مرشحين رئيسيين لرئاسة مصر، أكدت أن تحليلنا حول هذه الظاهرة كان يستند إلى معطيات موضوعية. ومن يتابع القنوات الفضائية المصرية المتعددة، سواء ببرامجها الحوارية أو بمقابلاتها مع المواطن المصري، يكتشف دون صعوبة أن حمدين صباحي لم يكن مجرد مرشح بل بات حالة شعبية تكبر كالثلج إلى درجة أن كثيرين قالوا إن موعد الانتخابات لو تأخر أسبوعا واحدا لكان صباحي في الطليعة. لا بل إن من يدرك حجم الموارد المالية المحدودة، بل الشحيحة، التي كانت تتحرك من خلالها حملة صباحي مقارنة بحملات أخرى، يدرك تماما أن النتائج التي حققتها كانت مذهلة، كما كانت مفاجأة، لكثيرين على غرار المفاجأة التي أطلقها نجاح ثورة 25 يناير نفسها، كيف لا وكل أهل حملة صباحي جاؤوا من قلب الثورة، ومن قلب الحركة التي مهدت للثورة، ومن قلب الحركة التي سعت إلى حماية الثورة فيما بعد... ولعل ما ميّز الكتلة الشعبية الضخمة التي منحت تأييدها لحمدين صباحي أنها كتلة عابرة لكل مكونات المجتمع المصري الجهوية والدينية والاجتماعية والعمرية، فكان بين المؤيدين مسلمون وأقباط، متدينون وعلمانيون، فقراء وأغنياء، قوميون ويساريون، مثقفون كبار ومواطنون عاديون، رجال ونساء، شيوخ وشباب، بل إن أهم ما في هذه الظاهرة أن صباحي تفوّق بشكل كاسح على منافسيه في المدن الكبرى، أي القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، ناهيك عن محافظتي كفر الشيخ (مسقط رأسه) والبحر الأحمر إلى ورشة أن البعض وصفه برئيس المدن الكبرى في مصر. غير أن هذا التفوق لم يكن كافيا ليتجاوز صباحي تراجع أصواته في الصعيد والدلتا، حيث لم يكن ممكنا لحملة انتخابية محدودة الإمكانات أن تصل خلال أسابيع ثلاثة إلى كل النجوع والعزب والقرى والبلدات، وهي بالأساس مناطق خاضعة للاستقطاب الحاد بين الإخوان المسلمين وأنصار النظام السابق، حسب خصوم الفريق أحمد شفيق، أو أنصار «الدولة»، حسب محازبي شفيق، وهو الذي كاد أن يفقد فرصة الدخول إلى الإعادة لصالح صباحي لولا نسبة محدودة من الأصوات التي تسعى الآن حملة صباحي إلى التوثيق في حجم التجاوزات التي رافقت حصوله عليها قبل الإعلان الرسمي عن النتائج يوم الثلاثاء. إن هذا التأييد العارم، خارج التوقعات والاستطلاعات، لحمدين صباحي، وقبله لعبد المنعم أبو الفتوح، هو في جوهره تأييد لتيار أكثر منه لشخص أو تنظيم أو مجموعة، هو تأييد لخيار ثالث في مصر يرفض العودة بالبلاد إلى النظام السابق، كما يحذر أي اتجاه نحو الاستئثار بالسلطة أو احتكارها لصالح حزب أو جماعة أو إقصاء الآخر الديني أو الفكري أو السياسي، وهو تيار ديمقراطي في مظهره، وطني مصري وعربي قومي في نواته الصلبة. وأيّا يكن الشخص الذي سيتبوأ منصب رئاسة مصر، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر جملة حقائق أفرزتها هذه الانتخابات: أولاها: أن لا أحد في مصر، حزبا أو جماعة أو نظاما، يستطيع أن يحتكر السلطة في المرحلة القادمة، وأن صناديق الاقتراع وحركة الشارع ستكونان له بالمرصاد إذا خرج عن روح التوافق الوطني والسياسي في مصر القائم ليس فقط على فكرة قبول الآخر، بل على أخذ هذا الآخر بالاعتبار في كل قرار أو ممارسة. ثانيتها: أنه بات لدى الشعب المصري من الوعي الوطني والديمقراطي، ومن السيولة السياسية في الانتقال من تأييد جهة إلى تأييد الأخرى، ما لن يسمح لأي محاولة لاستعادة الهيمنة أو التسلط على الشعب المصري. ومن يدرس الأرقام بهدوء وتجرد بالنسبة إلى أرقام استفتاءات أو انتخابات سابقة، سواء في نسبة المقترعين أو في توزعهم بين منطقة وأخرى، يلاحظ، دون صعوبة، تبدلات هامة في المشهد السياسي والانتخابي تشكل تحذيرات للبعض كي لا يسترسل في تفرده، وفرصا للبعض الآخر كي لا يفقد مكاسب كبرى حققها عبر الانزلاق إلى سياسات قصيرة النظر وحسابات ضيقة الأفق تتجاهل الطابع التأسيسي الحقيقي لهذه الانتخابات الرئاسية التي لم تكن نصرا لمصر فقط، بل كانت مدخلا حقيقيا لحياة ديمقراطية أصيلة، ولمزاج وطني حقيقي عابر لكل أنواع العصبيات. إنه تأسيس لوطن... بل تأسيس لتيار داخل الوطن.