أخيرا، حركوا مفاصلهم المتثاقلة وتحركوا في اتجاهنا بخطى بطيئة وئيدة وقد أوقعوا علينا غرامة ثقيلة، قلت لهم: هل أدفعها بالمارك الشرقي أم الغربي؟ وكان الشرقي يومها يعادل عشر معشار الغربي، قالوا: لا بالغربي (كل شي لحال؟)، قلت لهم: ولكن المخالفة شرقية وأنتم تطالبون بالغربي! لم يجيبوا. قلت لهم: ولكننا لم نرتكب ذنبا! قالوا: وهل تعلم، لو خالجنا الشك فيكم لحظة واحدة لما أطلقنا سراحكم بهذه السهولة! لا أدري، لعل جنسيتنا العربية نفعت، فكلنا من جمهوريات الخوف ومن نفس المعسكر الاشتراكي، مشتركون في العذاب الأليم، لا نطعم من جوع ولا نأمن من خوف. سألتهم: أنا قادم إلى بلدكم هذا للمرة الأولى وأرجو أن تكون الأخيرة ولا حاجة بي إلى كل بلدكم، فيكفيني ما رأيت وذقت، وقد أخطأت طريقي فهلا تطوعتم ودللتموني على الخروج من أرضكم هذه؟ قالوا: اذهب إلى حال سبيلك وابحث؟ قلت لهم: يا سبحان الله، تستطيعون أن تعاقبوا وتوقعوا الغرامات وتأخذوها بعملة أعدائكم الرأسماليين، ولا تعينون الناس على الخروج من نفقكم هذا؟! إن هذا لشيء عجيب، أليس فيكم رجل رشيد؟ أخيرا، تزحزح أحدهم كارها فتطوع ليدلني على أقرب شارع يوصل إلى بوابة المحبس الاشتراكي الكبير؟ وعند البوابة فركت عيني غير مصدق، فقد تراكم العباد بأمتعتهم وعرباتهم وكأنه يوم الحشر أو تزاحم الأكباش على الماء والناس تُفتَّش بأدق من تجار المخدرات واللصوص من خلال فك السيارات والتحديق فيها من كل الزوايا بالأنوار الكاشفة والمرايا الخفية العاكسة والآلات المعقدة وبضابط متعجرف لا ينظر إليك، وتذكرت من جديد الحدود العربية وكيف يغوص قلب المواطن عندما يتراءى له الوطن العظيم من بعيد، ويبدأ قلبه في الخفقان بدون علة، أو تدور عيناه كالذي يغشى عليه من الموت عندما يسلم جواز السفر؟ قلت لزوجتي: المهم أن نخرج من هذا السجن! وأخيرا انتهينا بعد إجراءات معقدة، مرهقة، مذلة، وقد قاربت الشمس على المغيب، وكان قد ألقي القبض علينا مع طفلتنا الصغيرة أروى مع شروق الشمس، وهكذا قضينا يوما اشتراكيا ممتعا... فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون. وهنا أريد أن أسجل ملاحظتين: أولاهما أن ألمانياالشرقية كانت اشتراكية بدون اشتراكية، لأن ألمانياالغربية كانت اشتراكية بتطعيم نظامها الرأسمالي بقوانين الضمانات فحققت قسطا كبيرا من العدل، في حين هوت أوربا الشرقية إلى وهدة الذل في قبضة أنظمة شمولية استلبت كل البعد الإنساني؛ والثانية أن البشر العاديين (المساكين) في برلينالشرقية كانوا يتأملوننا مذهولين مرتين، مثل هبوط كائن سماوي على رؤوسهم في ثياب أنيقة وسيارة جميلة ووجه مرتاح يسأل بعبارات واثقة، أو مثل الحيوانات المحبوسة في حديقة الحيوانات وقد اقتحم القطيع فجأة حيوان آخر ليس من فصيلتها، فكانت تقترب منه تشمه متعجبة لعجائب الصدف ورداءة الحظ كيف لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير. وعندما خرجنا من محبسنا ونحن ننفض عن أمتعتنا غبار ألمانياالشرقية ونقول ربّ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا. كانت الشرطة الأمريكية تلوح لنا من بعيد فلم تنظر إلى أوراقنا وجوازاتنا.. لم تفتشنا وتبهدلنا.. لم تذلنا وتمد يدها إلى جيوبنا وتستلب أموالنا من العملة الصعبة والسهلة.. كانوا فقط يلوحون لنا بأيديهم ويصيحون بكلمة واحدة وهم يقرؤون سحنات الخارجين من جهنم... فريدم فريدم! أي ادخلوا أرض الحرية بسلام آمنين؟ لم يبق أمامي سوى أن أخرج من السيارة فأسجد لله رب العالمين على معنى الحرية وقدسيتها، ولم التفت إلى الخلف وأنا أكرر القرآن هذه المرة بحرقة وبمعنى يجلجل في أذني: ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون، وعرفت كيف كان القرآن يؤثر لأنه كان يتنزل طازجا مع الأحداث ينقش في الأعصاب ويشكل الشخصية بنار المحنة والمعاناة، وتذكرت القانون المزلزل: وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، وقد انقطع دابرهم مع صباح التاسع من نونبر 1989 م فانهار الجدار وخرج الناس من مقبرة الاشتراكية الشمولية وهم يفركون أعينهم لا يصدقون كأنهم جراد منتشر في مظاهرات عارمة يقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا؟ وخلال 327 يوما وفي الثالث من أكتوبر عام 1990م اتحدت الألمانيتان ولم يكن يحلم بها ألماني واحد أو يصدق؟ كنا في السيارة أنا وزميل لي (ألماني) عام 1975 م في الطريق بين مدينة بايرويت وفورتسبورج في مقاطعة بايرن. سألته: هل تتوقع وحدة ألمانيا في المستقبل؟ قال مطلقا ولا في المنام؟ قلت له لماذا؟ قال، لأن الجيل الجديد قد تبدل عقليا وتغير كلية وأصبح شيوعيا. قلت له: أما أنا فأقول لك إن الشعب الألماني سيتحد ولو تأخر الموعد؟ هز رأسه بالنفي والشك العميق؟! لم أدر ما الذي جعلني أجزم وقتها وأقامر على نبوءة من هذا النوع تأخرت 15 عاما، لعله كان حدسا أكثر منه تحليلا سياسيا لما لمسته من تصميم وجدية عند هذا الشعب، فلن يموت بحال في مقبرة النظام الشمولي الاشتراكي ولن تستطيع نيران الجحيم الستاليني أن تلتهمه، ولتعلمن نبأه بعد حين؟