كان رئيس «حكومتنا»، عبد الإله بنكيران، في زيارة لإسبانيا. ولا أحد يدري إن كان قد عاد من هناك بشيء ما، لأن كل من يزور إسبانيا ويحب القراءة لا بد أن يشتري كتابا ثمينا اسمه «دون كيشوت دي لامانتْشا». كما أن الإسبان عادة ما يرحبون بضيوفهم المميزين بإهدائهم نسخة من هذا الكتاب، لأنهم يعتبرونه مفخرة أدبية، وهو كتاب يفوق الإنجيل في أهميته، لذلك ينظم الإسبان حفلا سنويا لقراءته بمشاركة الأطفال والشباب والكبار. إذا كان بنكيران لم يشتر هذا الكتاب في إسبانيا، فيمكن أن يشتريه من أية مكتبة في المغرب، وسيدرك إلى أي حد تعتبر القراءة مفيدة، خصوصا قراءة مثل هذه الرواية التي تم تأليفها قبل خمسة قرون، والمتعلقة بمحاربة الفساد بطريقة مشابهة تقريبا للحملة التي يقودها بنكيران حاليا. رواية «دون كيشوت»، أو دون كيخوتي»، كما تُنطق بالإسبانية، تحكي عن رجل نهل كثيرا من كتب وروايات الفروسية والشهامة، وصار يعشش في داخله إحساس قوي بضرورة الخروج من جدران بيته الضيق والانطلاق في أرض الله الواسعة من أجل هدف واحد، وهو محاربة الفساد والمفسدين والوقوف إلى جانب الفقراء والمظلومين. هكذا، انطلق دون كيشوت، وهو رجل هزيل وعليل الصحة، مسلحا برمح قديم وحصان هرم، لكي يحارب الظلم في البلاد، يرافقه في رحلته خادمه المخلص «البانْتشو». غير أن الشهم دون كيشوت، ولأسباب غامضة، أخطأ طريقه نحو المفسدين، وعوض أن يصارعهم وجها لوجه، فإنه صار يتخيل أعداء وهميين، وصارت طواحين الهواء، التي كانت منتشرة بكثرة وقتها، بمثابة جيوش جرارة يقاومها دون كيشوت ويفني أمامها عمره وصحته. هكذا تحولت رواية «دون كيشوت دي لامانتْشا» إلى رواية مضحكة، والسبب هو أن بطلها اختار أن يكون رجلا مسليا ومضحكا عوض أن يكون فارسا شهما ونبيلا، لذلك بقي المفسدون ينعمون بامتيازاتهم ومصالحهم، بينما دون كيشوت يصارع طواحين الهواء. لو قرأ بنكيران هذه الرواية، ومن الضروري أن يقرأها هذه الأيام، فسيجد فيها شيئا شبيها بالمرآة، لأن الخمسة قرون الفاصلة بين زمن دون كيشوت وهذا الزمن تبدو وكأنها مسافة وهمية، فالواقع يكاد يشبه الواقع، والأشخاص هم أنفسهم تقريبا. كان بإمكان دون كيشوت أن يكون فارسا حقيقيا يحارب الفساد، لكن شجاعته تخونه، لذلك قرر، عن وعي أو دون وعي، محاربة طواحين الهواء لأنها الأسهل، ومع مرور الوقت تحول إلى فارس أبله، أكثر بلاهة من خادمه الغبي «البانْتشو»، وانتهت رحلة الرجل كما تنتهي عادة الأفكار والخطط العبثية التي تنطلق دون هدف ولا شجاعة، أي أنها تصبح مسخرة. نحن عندنا اليوم رئيس حكومة اسمه عبد الإله بنكيران، وهذا الرجل كان مناضلا ضد الظلم والفساد، وتحمل في سبيل ذلك تعذيبا غير لائق، ثم استمر على نهجه يتوعد المفسدين، إلى أن واتته الفرصة أخيرا، فركب على حصان اسمه «ربيع العرب»، وأمسك رمحه ووصل إلى حيث هو الآن، ومهمته الأساسية هي محاربة الفساد والمفسدين. بنكيران يفعل اليوم ما فعله سلفه دون كيشوت قبل خمسة قرون، أي أنه يمسك برمحه المتهالك ويحارب كائنات غير مرئية، كائنات هلامية ووهمية تشبه طواحين الهواء. ويبدو أن بنكيران رجل مبدع، لذلك عوض أن يسمي خصومه «طواحين الهواء»، فإنه سماهم «التماسيح والعفاريت»، فلكل عصر ظروفه وتسمياته. بإمكان بنكيران أن يقرأ رواية «دون كيشوت»، وهي متوفرة بجميع لغات العالم، وسيجد فيها الكثير من المتعة، وأكثر من المتعة.. سيجد فيها الكثير من العبر، وأكبر عبرة هي التي سيبلعها مع آخر سطر في الرواية، ومضمونها أن محاربة الظلم والفساد تقتضي من صاحبها أن يكون فارسا حقيقيا، يعرف على الأقل كيف يركب حصانه ويمسك رمحه، وتقتضي منه فوق ذلك أن يكون فارسا شجاعا يتقدم إلى الأمام ولا يتقهقر إلى الخلف، ومع هذا وذاك يجب أن تكون له أهداف محددة وخارطة طريق واضحة، ولا يسقط باستمرار في الحفر والمطبّات ثم يقول إنه لم يتوقع ذلك. لقد انتهى دون كيشوت إلى «مسخرة»، وعلى بنكيران أن يحذر من تحوّله إلى مجرد «نكايْتي».